"الهاربات" لوفاء الطبوبي... مسرحية عن ضياع البوصلة في مجتمع يبحث عن طريقه منذ الثورة

<img src=http://www.babnet.net/images/3b/68e2929cca39b2.94880436_qjghekipfmnol.jpg width=100 align=left border=0>


احتضنت قاعة الفن الرابع بتونس العاصمة مساء أمس السبت 4 أكتوبر مسرحية "الهاربات" في عرض أول لعمل هو ثمرة إنتاج مشترك بين المسرح الوطني التونسي وشركة الأسطورة للإنتاج وبدعمٍ من وزارة الشؤون الثقافية. وهذا العمل الجديد من تأليف وسينوغرافيا وإخراج وفاء الطبوبي، ويجمع بين ست شخصيات (خمس نساء ورجل) على الركح كوكبة من الممثلين هم فاطمة بن سعيدان ومنيرة الزكراوي ولبنى نعمان وأميمة البحري وصبرين عمر وأسامة الحنايني.

تنطلق حكاية "الهاربات" من فضاء أقرب إلى المحطة حيث خمس نساء ورجل تجمعهم حالة انتظار غامض. "ينتظرون من لم تأت ولن تأتي" كما تقول الطبوبي في ملخّص العمل. لكن الانتظار هنا ليس انتظارا للغائب بقدر ما هو بحث عن المعنى وسط العدم وهروب من واقع ضيّق إلى خيال أوسع ومن وجع فردي إلى خوف جماعي. وفي هذا المناخ الكابوسي، يتحول الركح إلى متاهة وجودية يعيش فيها الأبطال صراعاتهم مع ذواتهم ومع بعضهم البعض بحثا عن خلاص يبدو مستحيلا. وفي النهاية، وإن لم تأتِ المنتظرة، فإن الجميع يدرك أنهم لن يعودوا كما كانوا. وهذا المكان الغريب أشبه بمحطة زمنية معلّقة بين ماض منهار ومستقبل غامض. ومن هذا الغياب تتولد الأسئلة ويبدأ الضياع الوجودي من نحن؟ إلى أين نمضي؟ وهل ثمّة خلاص فردي في عالم ينهار جماعيا؟





سينوغرافيا الضوء والظلمة: لغة بصرية تعكس التمزّق والتشظّي

لقد كتبت وفاء الطبوبي نص المسرحية وأخرجتها وساهمت في إعدادها سينوغرافيا، مؤكدة بذلك مشروعها المسرحي القائم على تداخل الوظائف الإبداعية من أجل تحقيق وحدة جمالية وفكرية. ويمتاز النص ببعده الوجودي، حيث يُطرح الشك لا كحالة طارئة بل كأسلوب حياة، شك في الوجود وفي العدالة وفي الذات وفي المآل. وتتنقل الشخصيات بين فقدان المعنى والرغبة في استعادته، وسط حوار داخلي جماعي يتصاعد على ركح يغرق أكثر فأكثر في العتمة.

ومن الناحية الفنية، تميّز العرض بتوظيفٍ بصري مكثف لتقنيات الإضاءة التي شكلت محورا دلاليا أساسيا في بناء المعنى. فقد وظفت الإضاءة في هذا العمل لا لتوضيح الرؤية وإنما لزيادة الغموض وهي مفارقة جمالية جُعل منها أداة درامية قائمة بذاتها، فالإضاءة المتناقضة بين النور والظلمة عكست ببراعة التشظي النفسي لشخصيات "الهاربات" وجسدت المسالك المغلقة والمآزق النفسية، كما ساهمت في إبراز نوبات الهلع والارتباك الوجودي الذي تعيشه الشخصيات. وعبر تباين مناطق الضوء والظلمة ولّدت الطبوبي شعورا دائما بالتشويش ينقل المتفرج إلى داخل عقول الشخصيات فيعيش توترها وضياعها.

حبكة درامية محكمة وشخصيات صورة لمجتمع مأزوم

ولم يقتصر الإبداع في "الهاربات" على الجوانب البصرية وإنما امتد إلى البناء الدرامي للأحداث الذي جاء محكما سواء على مستوى العرض بأكمله أو داخل كل مشهد على حدة. وقد اعتمدت الطبوبي البناء التقليدي (بداية – تطور – ذروة - نهاية)، لكنها أدرجته بشكل متجدد داخل المشاهد المسرحية ذاتها، إذ بدا لكل مشهد أيضا بناؤه الدرامي وإيقاعه التصاعدي وهو مما خلق توازنا بين تصاعد التوتر والاحتفاظ بتشويق دائم على مدى 90 دقيقة من العرض.

أما الإيقاع المسرحي بدوره فقد تم التعامل معه بدقة حيث استخدم كأداة تعبير نفسي تارة يتصاعد ليحاكي الانفجار الداخلي للشخصيات وتارة أخرى يتباطأ في محاكاة للشلل الذهني أو الحيرة ليخلق ما يشبه خفقان قلب متوتر أو زلزال نفسي يهدد بانفجار داخلي.

وضمّت المسرحية شخصيات متعددة تنتمي لشرائح اجتماعية مختلفة: عاملة نظافة مسنّة وأستاذة نائبة في وضع هشّ وخريجة حقوق تحلم بممارسة المحاماة وعاملة خياطة تتعرض للاستغلال في العمل وامرأة تجمع القوارير البلاستيكية وشاب مطلق مطارد قضائيا بسبب النفقة. وهؤلاء ليسوا فقط نماذج فردية وإنما هم أيضا مرآة لأزمة مجتمع بأكمله يعيش التهميش والاستغلال والفقر وغياب العدالة الاجتماعية وتفكك العلاقات الإنسانية. ولا يتم التقاطع بين الشخصيات على أساس طبقي أو فكري وإنما من خلال مصير مشترك قوامه الضياع. ومع تقدّم الأحداث، يفهم الجميع أن الخلاص لا يأتي إلا جماعيا أو لا يأتي أبدا. وهي رسالة يمكن اعتبارها سياسية تتجاوز المسرح لتكون تشخيصا دقيقا لوضع البلاد بعد الثورة، فالمسرحية لا تخفي إشاراتها إلى الوضع السياسي والاجتماعي بعد الثورة التونسية.والشخصيات التائهة الغارقة في الخوف والصراع الداخلي تمثل فئات عديدة من الشعب تسير بلا بوصلة وتسلك طريقا دون وجهة محددة مما يجعلهم يخشون الغوص في نفق مظلم في انتظار ما لن يأتي. أما الطريق التي تضل فيها الشخصيات فهي ليست مجرد مسلك فيزيائي يحمل إشارات مرورية مثل "قف" و"انتبه أشغال" و"علامة المنع" وهي إشارات إلى المطبّات التي تعرقل حركة السير، بقدر ما هي رمز لمسار البلاد بعد الثورة، حيث تشير إلى طغيان الارتجال والعبث في إدارة المصير الجماعي وتحذر من مآلات محتملة في المستقبل.

ومن هذا المنظور، تواصل "الهاربات" مسارا بدأته وفاء الطبوبي منذ أعمالها السابقة مثل "الأرامل" و"آخر مرة"، حيث تساءلت عن مصير المجتمع في زمن التقلبات الكبرى. وقدمت وفاء الطبوبي في "الهاربات" عرضا مسرحيا متكامل العناصر جمع بين البراعة في أداء الممثلين والابتكار الجمالي، وبين الرسالة الفكرية واللغة الفنية. وهي ليست هروبا من الواقع بقدر ما كانت رحلة في أعماق الخوف والانتظار والبحث عن المعنى فأجبرت المتفرج على التفكير في مصير وطن بأسره يسير في طريقٍ ضبابي منذ الثورة ويبحث عن ضوء لا ينطفئ. لكن رغم قتامة المشاهد لم تخل المسرحية من رسائل الأمل مع نهاية العرض، فالنور آت لا محالة بما أن الشخصيات وجدت طريقها أخيرا وسلكت المسار الصحيح ولو بخطوات متثاقلة أنهكها التعب.


Comments


0 de 0 commentaires pour l'article 316077


babnet
*.*.*
All Radio in One