اغتيال البيئة في تونس..من المسؤول وسبل الإنعاش؟

<img src=http://www.babnet.net/images/6/pollution2.jpg width=100 align=left border=0>


بقلم ريم بالخذيري

لوقت غير بعيد في التاريخ البشري لم تكن مشاكل البيئة مطروحة حيث كانت الطبيعة تسيّير نفسها و تحدث التوازن الذاتي لها عبر الفصول و البحار و الجبال و لم تكن مسائل من قبل الاحتباس الحراري مطروحة وكان الانسان كغيره من الكائنات صديقا للبيئة يساهم في التوازن الطبيعي على الأرض.





ومع دخول البشرية ما يعرف بالثورة الصناعية و الصناعات الثقيلة تحوّل العالم من مجتمع الاقتصاد الزراعي والحِرَفي التقليدي إلى اقتصاد صناعي يعتمد على الآلات، والمصانع، والإنتاج الضخم.

و كان لهذه الثورة الصناعية التي انطلقت في أواسط القرن 18 تأثير بالغ على الطبيعة والبيئة، إذ مثلت بداية العلاقة الصدامية بين الإنسان والأنظمة البيئية نتيجة التوسّع في التصنيع والإنتاج، فقد أدى اعتماد المصانع على الفحم والمحركات البخارية إلى انبعاث كميات هائلة من الغازات السامة وظهور الضباب الدخاني في المدن الكبرى مثل لندن ومانشستر، كما تسبب تصريف النفايات الصناعية في الأنهار والبحيرات في تدمير الحياة المائية وتلوث مياه الشرب وانتشار الأمراض، إضافة إلى الاستغلال المكثف للموارد الطبيعية وتوسع المدن الصناعية على حساب الأراضي الزراعية، وما رافقه من إزالة واسعة للغابات وتراجع التنوع البيولوجي وفقدان المواطن الطبيعية للحيوانات، هذا إلى جانب انطلاق انبعاثات الغازات الدفيئة التي أسست لظاهرة الاحتباس الحراري، فضلاً عن تغير المشهد الطبيعي حيث غطت المصانع والدخان المدن بدل الحقول والمساحات الخضراء مع ازدياد التكدس السكاني والضغط على الموارد. ورغم هذه الآثار السلبية، برز جانب إيجابي محدود تمثل في نشوء وعي بيئي في أواخر القرن التاسع عشر نتيجة الكوارث الصحية المرتبطة بالتلوث، وهو ما دفع إلى ظهور تشريعات بيئية وحركات إصلاحية لحماية الطبيعة.

وفي تونس بدأ الوعي البيئي يتشكل مع إنشاء أوّل وزارة للبيئة سنة 1991.ومهمتها كانت مهمة وضع وتنفيذ السياسات الوطنية لحماية البيئة والتنمية المستدامة، وتشمل مهامها الأساسية مكافحة التلوث بجميع أشكاله والحفاظ على الموارد الطبيعية والغابات والمناطق البيولوجية، إلى جانب التخطيط العلمي عبر إدماج البعد البيئي في مختلف الاستراتيجيات التنموية وإعداد الخطط الوطنية في هذا المجال، كما تضطلع بدور تشريعي ورقابي من خلال سنّ القوانين المنظمة للبيئة ومراقبة الأنشطة الصناعية والفلاحية والعمرانية لضمان احترام المعايير البيئية، فضلاً عن إشرافها على إدارة النفايات الصلبة والخطرة وتشجيع إعادة التدوير والطاقات البديلة، وهي كذلك تمثل تونس في المؤتمرات والاتفاقيات البيئية الدولية وتعمل على تعزيز التعاون مع المنظمات المختصة. كما تهتم بالتوعية البيئية عبر الحملات التحسيسية والبرامج التربوية، إضافة إلى دورها في وضع الاستراتيجيات الوطنية للتأقلم مع التغيرات المناخية والحد من انبعاث الغازات الدفيئة.

البيئة من الإجرام إلى الاغتيال

حكاية الإجرام في حق البيئة في تونس انطلقت مع تأسيس المجمع الكيميائي بقابس سنة 1972و الذي رفضت دولة افريقية حينها تركيزه في أراضيها و قد كان حلقة من ضمن حلقات المجمع الكيميائي التونسي الذي أسس لمعالجة الفسفاط .حيث أنشأت أول وحدة في الصخيرة وهي مصنع السياب بصفاقس سنة 1952 .وقد أضر خلال عقود بصحة السكان و الحيوان في الجهة و اندلعت احتجاجات عنيفة منذ 2011 انتهت بقرار رسمي بإيقاف الوحدات الملوثة سنة 2017، لتبدأ لاحقًا عملية التفكيك التدريجي وإزالة المعدات، مع برمجة مشاريع بديلة صديقة للبيئة في الموقع.

والواقع أنه هاتين الوحدتين ليستا الوحيدتين في تونس اللتين ارتكبت بهما جرائم في حق البيئة و الصحة البيئية حيث لايزال سكان الحوض المنجمي يعانون من التلوث المزمن وهو نفس واقع الحال في مدن أخرى من الجمهورية.

وصنّف تقرير موقع "نومبيو" لعام 2025 تونس في المرتبة 37 عالميًا من بين 113 دولة شملها مؤشر التلوث، بمعدل بلغ 70.1، مما يشير إلى وجود وضع بيئي شديد الخطورة.

وتواجه تونس تحديات بيئية كبيرة تتعلق بالتلوث، خاصة في مجالات الهواء والمياه والنفايات، حيث تُظهر البيانات أن مؤشر جودة الهواء في تونس العاصمة مثلا يتراوح بين 45 و55(المؤشر العالمي المطلوب من 0الى50) مما يشير إلى جودة هواء معتدلة، ومع ذلك لابدّ من بذل جهود كي لايسوء الوضع خاصة في الشواطئ التي تئن أصلا تحت وطأة التلوث خاصة في الضاحية الجنوبية للعاصمة .وتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن تلوث الهواء في تونس يتسبب سنويًا في وفاة حوالي 2000 شخص بسبب الجسيمات الدقيقة المنبعثة من المصانع و السيارات، كما يُسهم تصريف النفايات الصناعية غير المعالجة بشكل كافٍ في تلوث الموارد المائية، مما يؤثر على جودة المياه الجوفية والسطحية.

ويؤدي الاستخدام المفرط للمياه في بعض المناطق إلى انخفاض مستويات المياه الجوفية وزيادة تركيز الملوثات، إضافة إلى أن تونس تنتج أكثر من 2.8 مليون طن من النفايات سنويًا، حيث يتم طمر 90% منها في مصبات عشوائية أو رسمية أغلبها غير مستوفية للمعايير البيئية.

وتواجه بلادنا تحديات في إدارة النفايات بما في ذلك نقص في برامج إعادة التدوير والتخلص السليم من النفايات الخطرة، وتشير الدراسات إلى أن 88% من التونسيين يعتبرون التلوث مشكلة خطيرة في مجتمعهم مع التركيز على إدارة النفايات والتلوث البلاستيكي.( وفقًا لاستطلاع رأي أجرته شبكة أفروباروميتر (Afrobarometer) في جويلية 2023).

قابس الضحية

منذ سنوات لم تعد قابس تلك المدينة الساحرة بواحات النخل فيها و شواطئها حيث تحوّلت الى ولاية شبه منكوبة بسبب المجمع الكيمائي الذي غيرّ طعم المياه و أصاب الناس بالأمراض حيث تعد الولاية في مقدمة الولايات التي تسجل أكبر عدد بمرض السرطان إضافة الى أمراض كثيرة أخرى.

وتفجرت القضية من جديد يوم 27سبتمبر عندما، تعرض عدد من التلاميذ لحالات تسمم جراء تسرب غازات سامة من المجمع الكيميائي التونسي في 27 سبتمبر 2025،وقد تم نقل حوالي 50 تلميذًا من المدرسة الإعدادية شط السلام إلى المستشفى المحلي بعد تعرضهم لأعراض مثل صعوبة التنفس وفقدان القدرة على الحركة. وتم الاحتفاظ بـ10 منهم تحت المراقبة الطبية، فيما غادر الآخرون بعد تلقي الإسعافات الأولية



و المؤسف أن هذه الحادثة تعتبر الرابعة من نوعها في أقل من شهر، حيث شهدت منطقة غنوش المجاورة ثلاث حالات مماثلة في سبتمبر 2025.

.وقد شهدت الولاية مئات إن لم يكن الاف الوقفات الاحتجاجية في السنوات الأخيرة بضرورة تفكيك المصانع الملوثة في قابس..

الرئيس قيس سعيّد وصف في اجتماع مع وزيري الصحة والبيئة هذه الحوادث بأنها "جريمة بيئية" مشددا على أن ما حدث في قابس بأنه اغتيال للبيئة والقضاء عليها .

سبل الإنعاش

استنادًا للتجارب المقارنة، ما يزال الأمل قائمًا في إنعاش البيئة في قابس وفي الحوض المنجمي وفي شواطئ الضاحية الجنوبية لتونس، ويكمن ذلك في اعتماد استراتيجيات شاملة ومتدرجة تهدف إلى إعادة تأهيل المواقع الملوثة وتنظيف المصبات الصناعية والنفايات البحرية، وزرع المساحات الخضراء لإعادة التوازن البيئي وتحسين جودة الهواء والمياه، مع تعزيز المراقبة البيئية وفرض قوانين صارمة على المصانع والمرافق الملوثة لضمان احترام المعايير البيئية. كما تتطلب العملية تفكيك الوحدات الصناعية الملوثة ونقلها بعيدًا عن المدن والمناطق السكنية لتقليل التأثيرات الصحية على السكان، ومنع المصبات الصناعية والنفايات في الشواطئ والمجاري المائية لحماية الحياة البحرية والمحافظة على البيئة الساحلية. إضافة إلى ذلك، تكتسب التوعية البيئية للمواطنين أهمية قصوى لإشراك المجتمع المحلي في جهود الحفاظ على الموارد الطبيعية والتنوع البيولوجي، مع الاستفادة من التقنيات الحديثة لإزالة الملوثات وتطوير مشاريع الطاقة النظيفة لضمان استدامة هذه الجهود على المدى الطويل، وتهيئة بيئة صحية وآمنة للأجيال القادمة، بما يعكس الالتزام الفعلي بالمبادئ الدولية للبيئة والتنمية المستدامة.

إن ما تعانيه قابس والحوض المنجمي والضاحية الجنوبية وغيرها من الجهات المتضررة من أزمات بيئية متكررة يفرض على الدولة والمجتمع المدني والمواطنين التحرك الفوري والفاعل للحد من هذه المخاطر. فالبيئة ليست مجرد مورد طبيعي بل هي حق أساسي للصحة والحياة، واغتيالها يعني تدهور حياة الإنسان والكائنات كافة.

كما أصبح من الضروري التحول التدريجي إلى الاقتصاد الأخضر، وهو نموذج يهدف إلى تحقيق التنمية المستدامة من خلال الحد من التلوث والانبعاثات الكربونية،و ترشيد استهلاك الموارد الطبيعية، وتشجيع الطاقة النظيفة وإعادة التدوير.

ويمثل الاقتصاد الأخضر فرصة لتحقيق نمو اقتصادي متوازن بيئيًا واجتماعيًا، ويخلق فرص عمل جديدة في مجالات الطاقة المتجددة و إدارة النفايات والزراعة المستدامة، مع الحفاظ على الموارد الطبيعية للأجيال القادمة ولدينا في تونس مقومات ذلك من شمس و هواءو رياح و بحر.

إن الالتزام بهذه الاستراتيجيات ليس خيارًا، بل ضرورة حتمية لضمان بيئة صحية ومستدامة للأجيال الحالية والقادمة، ولتحويل تونس من بلد يعاني من تلوث مزمن إلى نموذج يحتذى به في حماية البيئة والتنمية المستدامة عبر دمج الاقتصاد الأخضر في سياساته الوطنية.


Comments


0 de 0 commentaires pour l'article 316183


babnet
*.*.*
All Radio in One