علاش ما يلزمناش نسامحوا...!

<img src=http://www.babnet.net/images/2b/manachmsamheen.jpg width=100 align=left border=0>


بقلم حامد الماطري
#ماناش_مسامحين
سنة 2012، تعهّد القضاء بقضيّة بتروفاك، إذ ثبت حصول أحد الطّرابلسيّة على رشوة بعدّة مليارات مقابل تيسير حصول الشركة البريطانية على امتيازات في حقل الشرقي في قرقنة. أفضت القضيّة إلى الحكم على المنصف الطرابلسي –لوحده- بالارتشاء!!

طبعاً، المنصف الطرابلسي لم يكن له أي صفة في الدّولة التونسيّة، ولكنّ القضيّة ختمت وكأنّ لم يكن له شركاء في المؤسّسات الحكوميّة ممّن سهّل ومكّن من اتمام الصّفقة (سواء كان ذلك تواطؤاً أو إذعاناً للضّغوط) ... مثّلت هاته القضيّة حالة صارخة للتّعتيم على الفساد في قطاع النفط، وفتحت الباب لكلّ المشكّكين ولحملات المساءلة التي تعرف اليوم ب «وينو البترول"...



ببساطة، وبعيداً عن أيّ شعاراتيّة، لو كانت وقعت محاسبة حقيقيّة في قطاع النّفط، أو على الأقلّ حدّ أدنى من تحديد المسؤوليّات، لما تواصل الخور في قطاع النّفط بما هو عليه حتّى اليوم، ولما تواصل مسلسل الإهدار والسّمسرة، والتّهاون، أو لما حقّقت المزايدات حول الحوكمة والتّصرّف في الثّروات الوطنيّة كلّ هذا الزّخم...

لو وقعت محاسبة حقيقيّة في الدّيوانة، لما تواصل مسلسل التّهريب، في الموانئ والمطارات قبل الحدود، ولما أصبح لدينا اليوم مئات من الطّرابلسيّة، ولما استبيحت بلادنا كما أصبحت عليه الآن، وصولاً إلى الوضع المفزع الذي بلغناه من تجارة موازية وتهريب للسلاح والمخدّرات والآثار، وكلّ عزيز وغالي...

لو عرفت بلادنا عمليّة تدقيق في المناظرات، لو أعيد النظر في الطريقة التي أسندت بها العديد من الوظائف، أو على الأقل محاسبة أصحابها و الضّرب على الأيادي التي لعبت بمصائر العباد و بأحلامهم، لتوقّفت مظاهر المحسوبيّة في التشغيل و لاستعاد الشباب الأمل و الثقة في بلادهم و في مؤسساتهم، بدل أن يصبح استثناء الأمس قاعدة اليوم، والسبيل الأوحد للشغل هو إمّا "كتف صحيح" أو "تسكّر كيّاس"، وصولاً الى مظاهر مرفوضة مثل المطالبة باقتصار التشغيل على سكّان جهة بعينها، أو فرض نسبة معينة لتشغيل الناس لا حسب طاقات الشركات، بل حسب عرض البطالة..!

لو وقعت محاسبة –و لو جزئيّة- في البلديّات، لما تواصل مسلسل الفساد، و لما انزاد عليه مشهد الفوضى العارمة... لما تحوّلت شوارعنا إلى مزابل بسقف مفتوح، و لما اختفى الرّصيف تحت وطأة الانتصاب الفوضوي و احتلال المحلّات للمجال العمومي، و لما تشوّهت المدن، و لما أصبح الأعوان يقبضون الإتاوات من أصحاب المحلّات أو الحظائر، بلا حرج أو خوف...

لو شرعنا في التّدقيق في حسابات البنوك و علاقاتها و معاملاتها لكان بالإمكان –على الأقلّ- أن ننقذ شيئاً من البنوك العموميّة الواقعة تحت شبح الافلاس، أو على الأقل أن نوقف النّزيف المتواصل. كنّا على الأقلّ سنفهم كيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه وأن نحول دون المواصلة في الأخطاء ذاتها...

أصبحت كلّ الناس تلوم الثورة في ما آلت إليه أوضاع البلاد اليوم، و كأنّ الناس ثارت ذات يوم من دون سبب، وكأننا نسينا –أو تناسينا- أن كلّ ما نكرهه في تونس اليوم، من فساد ومحسوبيّة وظلم واختلال اجتماعي وجهوي، وبطالة ووهن اقتصادي وخيارات خاطئة، وضعف اداري ورداءة في الخدمات، كلّها وجدت –أو على الأقلّ زرعت- قبل قيام الثورة.
من بين كلّ استحقاقات الثورة، لا شكّ أن المحاسبة ومحاربة الفساد هي أكثرها تأخّراً وإحباطاً.
في تونس، استشرى حجم الفساد في السّنوات الأخيرة لبن علي مع تغوّل المافيات، فبلغ مستويات غير معهودة. ومع التّخلّف عن المحاسبة، تعافت منظومة الفساد بسرعة، وخرج الفاسدون بسرعة من أوكارهم بجشع أكبر وفوضى أكبر، وصار لدينا بدل المافيا مافيات، ومئات البارونات، واستغلّوا ضعف الدّولة وكثيراً ما استعملوا لصالحهم النعرات الجهوية والقطاعية وعدداً من النقابات الفاسدة لتمرير ما يشاؤون وليقطعوا الطّريق على مساعي الاصلاح إذا وجدت...

عندنا شخصيّات مشهود لها بالفساد، تتنقّل في تبجّح ووقاحة مزعجة، بل وأصبحت تضرب موعداً قارّاً في القنوات التلفزية. كذلك لنا مسؤولون في مؤسسات عمومية، ممّن ذكر بالإسم في تقارير رسميّة حول الفساد، و هم لا يزالون يزاولون مهامّهم و كأن شيئاً لم يكن، ومنهم من ترقّى، و كأنّي بمنظومة الفساد تصرّ على أن تثبت للجميع أنّها أقوى من الدّولة و أنّها أصبحت رقماً لا مفرّ من التّعامل معه..

في تونس اليوم، يتبجّح العون الفاسد من دون حياء بأنّه "لا يلمس قرشاً من شهريّته"، و أنّه يتحصّل على أضعاف أضعافها من الارتشاء، و تجد العون، أو رئيس الشعبة السّابق، أو موظف القباضة، أو غيرهم، ممن لا يتجاوز راتبه الثمانمائة دينار، يملك فيلا و حديقة، و يتعشى ويسكر كل ليلة في أفخم المطاعم ويسافر و يرسل ابنه للدراسة في الخارج، و لا يجد من يسأله أن من أين لك هذا؟ بل بالعكس، بلادنا اليوم تريد أن تسنّ القوانين لاستيعاب من ثبتت عليهم تهم الفساد والاختلاس والارتشاء أو التربّح غير المشروع!

أن تقرّ الدّولة بعجزها عن محاربة الفساد أو عن تطهير هياكلها من جحافل الفاسدين، فهذا أمر بديهيّ في الظّروف التي نعيشها ومع التّركيبة السّياسيّة التي تحكم البلاد. لكن أن نمرّ إلى شرعنة الفساد وتقنينه، فهذا أمر خطير جدّاً.

يعيد مجلس نواب الشعب منذ أيام النّظر في قانون المصالحة "سيّء الذّكر"، أو ما قدّم على أنّه آخر مراجعات النّصّ، في تحدّ صارخ لحساسيّة المرحلة ومشاعر شعبنا، وبعد أن رفضه الجميع وتبرّأ منه أقرب المقرّبين إليه، وثبت عدم دستوريّته وتناقضه مع ابجديات القانون الدّولي والمعاهدات التي صادقت عليها تونس في محاربة الفساد...
عجيب أمر هذه المنظومة الحاكمة... إصرارها على طرح هذه المسألة، بمسمّيات عدّة و من مداخل مختلفة، يؤكّد على التداخل في المصالح، و محاولات مباشرة، و مفضوحة، لتبييض فاعلين سياسيين –في قرطاج أو في باردو- أو مموّليهم، أو الإصرار على حماية رجالاتهم داخل الدّولة أو المؤسّسات الماليّة و الرّقابيّة و التّقريريّة.

رمزيّة ما يسمّى "قانون المصالحة" تتخطّى مسألة العفو على الفاسدين، على اعتبار أنها تضع مؤيّدات قانونيّة و أخلاقيّة للفساد –ما سبق منه و ما سيلحق- وأنّها تتعارض مع القيم المجتمعيّة الأساسيّة، و تهدّد باستبدالها بقيم مسقطة و ضارّة، عمادها المادّيّة، و الانتهازيّة، و الافلات من العقاب.
هذا القانون سيخرج من رحمه جيلٌ من اللّصوص، ممّن يوقنون بأنّ للفساد في تونس رجال ومنظومات سياسيّة كاملة تحميه، وأن القانون، كما المجتمع، على استعداد لتقبّل الاختلاس والنّهب والرّشوة وقبول أصحابهم.
كذلك الخطر في عرض "قانون المصالحة" على النّقاش، والاصرار على الرّجوع عليه من وقت لآخر، يكمن في إعطاءه لنوع من لتّغطية المعنويّة على هذه الجرائم، وتنسيبها والتّطبيع معها، وقبولها ضمنيّاً وعمليّاً، حتى وإن لم يقع إقرار القانون واعتماده.
الاشكال لا ينحصر في "رؤوس الأموال"، بل يمتدّ بالخصوص إلى "الموظّفين" الفاسدين (أي من ثبت تورّطهم في عمليّات فاسدة وتربّح غير مشروع) ممّن يعمل "قانون المصالحة" في نسختيه على تبييضهم وتبرئتهم، واهدائهم «غشاء بكارة" جديد، بصبغة "قانونيّة". قيل كلّ ما قيل في هذا القانون وفي سقوطه أخلاقيّاً ودستوريّاً واقتصاديّاً

أعتبر أنّه، ومع كلّ مرّة يذكر فيها اسم هذا القانون من جديد أو يحاولون تمريره، هي صفعة جديدة يتلقّاها كل موظّف شريف يعمل في هذه الدّولة، صفعة يتلقّاها كلّ من جاهد نفسه وحافظ على نظافة يده بالرّغم من فقره وقلّة حيلته، وفي وقت كان يرى زملاؤه بقربه يملؤون جيوبهم من دمّ الشعب، فلا يملك إلا أن يتوعّدهم بيوم الحساب...

الخوض من جديد في هذا القانون هو إمعان في الانتهازيّة وابتزاز الدّولة التونسيّة في أزمتها الخانقة، كما هو أيضاً امعان في استبلاه هذا الشعب، علاوة على كونه إهانة في حقّ كلّ ضمير حيّ، ودعوة لكلّ "متردّد" ألّا تتردّد في المستقبل وتضيع فرصتك في الالتحاق بسوق الفساد والمحسوبيّة.
لو كان التّطبيع مع الفساد والتّغطية على الفاسدين بإمكانهما تنشيط الاقتصاد، كما يدّعي بعض من "خبراء المنابر" لكانت نيجيريا والصّومال أقوى اقتصاديّات العالم...

السّؤال بسيط: أين طريق نريد أن نسلك؟ وأي مصير نريد لبلادنا، لتونس؟ هل نريد أن نقترب من دول العالم المتقدّم، واللاتي تعطي الأولويّة للشفافية في المعاملات واعلاء القانون، أو أن نختار أن ننحدر إلى مستوى الدّول الفاشلة، تلك التي تصاغ فيها القوانين لمأسسة الفساد، والتّغطية على الفاسدين وحمايتهم؟

شخصيّاً، أعتبر حملة "مانيش مسامح" التي عادت لتتحرّك من جديد –مع اعادة تحرك ملفّ قانون تبييض الفساد- آخر معاقل الثورة ومواقع حيوية الشباب التونسي... الثورة التونسية كما كانت في أوّل أيّامها، شبابيّة ووطنيّة، صادقة ومبدئيّة، متحرّرة من أيّة تموقعات حزبيّة وحسابات سياسويّة، ثورة ملهمة وشجاعة، تدرك أحقّية مطالبها وتؤمن بأهدافها. لذا، لا بدّ من دعم هذه التّحرّكات، بكلّ الوسائل الميدانيّة والفكريّة والمادّيّة، وألّا نخذل شباب تونس المرابط، لأننا لا زلنا نؤمن بأن بلادنا تستحقّ –على الأقلّ- غداً أفضل...
... ليس الأمر "ثورجيّة" أو حقداً دفيناً تجاه الفاسدين، بل حبّاً في تونس و إيماناً بها... ما من أحد يبتغي ملأ السّجون المكتظّة أساساً، وليس منّا اليوم من يبحث عن التّشفّي. لكن لا مناص من المصارحة ومن تحديد المسؤوليات قبل المضيّ قدماً في الإنقاذ واصلاح ما يمكن إصلاحه.
لمصلحة تونس... حتى تبقى دولة، ولا تتحوّل إلى مرتع للعصابات، ما يلزمناش نسامحوا!


Comments


8 de 8 commentaires pour l'article 142209

Radhiradhouan  (Tunisia)  |Jeudi 4 Mai 2017 à 19:29           
المصالحة مع المافيا يعني القبول بالفساد والإفلات من المحاسبة وهذا غيرمعقول في دولة القانون!!!

Moezz  (Tunisia)  |Jeudi 4 Mai 2017 à 15:12           
موش كل من يقول مسامح عندو الحق وموش كل من يقول مانيش مسامح عندو الحقيجب ان نتجاوز هذه المرحلة لان البلاد في حالة لن يجد من يريد ومن لا يريد المصالحة شيئا
الشعب التونسي متورط بشكل او باخر في الفساد فلا احد صادق في اداءاته ولا احد صادق في واجباته
نخن نصرح على الشرف ولكن تصريحاتنا كلها كاذبة من رجل الاعمال الى المواطن البسييط
من يقول مايش مسامح على خاطر ماهيش فلوس بوك يوجه له نفس الكلاموماهيشي فلوس بوك زادة
يجب تنقيح القانون وتمريره والعودة الى العمل ولا شيء دون العمل
الفوضى عامة ولن يستطيع احدا حكم تونس لو تواصل هذه الفوضى و قريبا يصدق قول تونس
يلزمها دكتاتور
هنالك دول لم تعد موجودة وما هذا ببعيد علينا فهل قدر لنا ان نكون دولة فاشلة
احزاب تنتصر واحزاب تفشل تلتجأ للشارع لتنتصر ثم لا تستطيع ان تحكم
يجب المرور من هذه المرحلة
قول هذا ولي احساس ان كل شيء قد تم ولم يعد هنالك مجال للاصلاح
لا تنتظروا دولة قوية ان تفعل هذا لان الدول قوية بشعبها
الاخطر من هذا كله هو انعدام وجود دكتاتور في الوقت الراهن ولن يكون هنالك حتى في المستقبل القريب والمتوسط
لا تستمعوا كثيرا لاصحاب النظريات والاقوال والنوايا ففرق كبير بين الواقع والنظري

Mandhouj  (France)  |Jeudi 4 Mai 2017 à 14:03           
ثم أيضا لأننا نحب أن تكون تونس للجميع .. لكل ابنائها .. لما تكون المصالحة في إطار مسار متكامل ، لا خوف من الرجوع للوراء .. مسار العدالة الانتقالية المصالحة الوطنية ، لا يحمل المحاسبة فقط .. و انما يحمل من جملة ما سيحمله بوادر إرساء مضامين جديدة في التعامل مع المال العام و الثروات الوطنية .. و هكذا سيستفيد الجميع ..

Mandhouj  (France)  |Jeudi 4 Mai 2017 à 13:58           
لماذا لا نسامح ؟
الجواب : لكثير من الأشياء ، و على رأسها محاربة الفساد .. المعركة ضد الفساد.. شعب تونس يستحق أن لا تسرق ثورته ، و تاريخ نضاله ..

Abid_Tounsi  (United States)  |Jeudi 4 Mai 2017 à 11:56           
لا مصالحة قبل المحاسبة... هذا بديهي و لا يرفضه إلا كل لص يخشى المحاسبة

لن يمروا

BenMoussa  (Tunisia)  |Jeudi 4 Mai 2017 à 10:29           
حقائق يعرفها الجميع ولا يقر بها الا القليل ولا تذكر الا نادرا مع ان قول الحق فضيلة
والفضائل تحتاج الى اهلها فشكرا للكاتب ولكل من سار مساره في ذلك

Aziz75  (France)  |Jeudi 4 Mai 2017 à 10:23 | Par           
فاقد الشئ لا يعطيه.كيف تريد محاربة الفساد، وهو مرض عضال مس المسؤول التونسي منذ عقود غارة.تونس بلد بنيت منذ الاستقلال على قواعد غير متينة، غير صحيحة، غير ثابتة اضعف رجة تهوي بها الى اسفل السافلين. سرطان خبيث زرع في هياكل الايدارات حتى تبقى تحت رحمة المارقين عن القانون.رئيس الدولة لو كان بحق يتمنى الخير لتونس لما رشح نفسه للانتخابات. لا يمكن تحول ايجابي على كل الاصعدة دون محاسبة شفافة و عاجلة.لا أتمنى أن يلقى بهم في غيابات السجون و لكن لتصحيح المسار.

Sarih  (Tunisia)  |Jeudi 4 Mai 2017 à 10:13           
BRAVO vraiment tres bien dit , equilibré


babnet
All Radio in One    
*.*.*
Arabic Female