هل المسلم مُطالبٌ بإثبات إيمانه بواسطة لغةٍ دينية ضِمن إنتاجه الفكري؟

محمد الحمّار
كلما تعلق الأمر بعمل فكري يتمثل في وصف الحياة العمومية أو الخاصة أو بتفسير ظاهرة تربوية أو ثقافية أو علمية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية من منظور الإسلام، يعتقد نفرٌ من التونسيين، مثلما هو الشأن في كل مجتمعات المسلمين، أنّ لغة شيخ الإسلام أو الإمام أو الداعية، أو الخطاب المسجدي، هي نفسها التي يتوجب أن يستخدمها المعلم والإعلامي والمهندس والطبيب والباحث ورجل الشارع وغيرهم ممن ليسوا من المتخصصين في العلوم الشرعية، أو بالأحرى هي التي ينبغي أن تتخلل كل وصف وكل تفسير لظاهرة دنيوية بل أن تتصدر كل خطاب مهما كان دنيويا، وإلا فإنّ القائم بالوصف والتفسير سوف يكون مشتبها بعدم انتمائه للإسلام. فهل أنّه من الضروري أن تكون الخلفية الإيمانية للمعلم والإعلامي ولكل المتخصصين في علوم غير علوم الدين دوما بارزة بواسطة عبارات و"حجج" و"دلائل" و"براهين" من المدونة الدينية، القرآنية منها والحديثية؟
في تعليق له على مقالة لي عنوانها "هذا ما تقوله عقيدة التوحيد في عجز تونس عن إدارة أزماتها"، كتب واحد من القراء: "لم أر في تحليلك كلمة دين أو إسلام ولو مرة واحدة!" وفي تعليق آخر على مقال لي بعنوان " عقيدتان تحرمان التونسيين من العمل وتونس من التقدم" كتب قارئ: "لقد ضل وتاه صاحب المقال (....) وأدعو الكاتب إلى اعتماد الإسلام العظيم في حل جميع المشاكل". كما كتب متابع آخر لنفس النص:" المقال لا يذكر آية واحدة ولا حديث عن نبي الله عليه الصلاة والسلام، في كيفية حياة الإنسان مع نفسه ومع الآخرين. فأنصح هذا الكاتب (...) أن يُصحح عقيدته (...)"
يتجلى من هاته التعاليق أنّ ما يطالب به المسلم في علاقته مع الرأي حين يكون هذا الأخير نابعا من منطلقات إيمانية هو أن يحتوي المقال أو البحث أو الدراسة على كلمات وعبارات مثل "إسلام؛ مؤمن؛ صلاة" أو إحالات مثل "رواه البخاري ومسلم؛ قال بن ماجة؛ شرحه الزمخشري؛ جاء في تفسير بن كثير؛ حسب الطبري؛ جاء في تفسير الجلالين" وهلم جرا.
لست ضد الاستشهاد بشيء من أقوال القدامى لكن شريطة أن يتلاءم قولهم مع تفكيري. فبالرغم من أنّ هؤلاء النوابغ والمفسرون الأجلاء، رحمهم الله جميعا، قد أنجزوا أعمالا مفيدة إلا أنّه يكفي أن يكون ما أنجزوه راسخا بشكل أو بآخر في وعيِنا الجماعي لكي يكون تفكيرنا وخطابنا، مهما كان خاليا من العبارات الدينية، دالاّ عن الانتماء إلى ثقافة المسلمين إن لم أقُل على الإيمان. أما الحرص الشديد على الاستشهاد بأقوال القدامى فهي دعوة مُلحة لأمواتٍ كي يفكروا في مكان الأحياء.
كما أنّ الاستشهاد بآيات بينات من الذكر الحكيم مِن أنفعِ ما يمكن أن يُدَعم رأيا، لكن في حدود تسلسُلِ ذلك الرأي ، شفويا كان أم مكتوبا، لأنّ الخطورة لا تكمُن في الاستشهاد بالنص الديني في حد ذاته وإنما في غياب الدليل على فهم النص المستشهد به من طرف الناطق به أو محرّرِه.
في السياق نفسه، وبالرغم من أنّ الصنف من القراء الموصوف أعلاه لا يشكل غالبية إلا أنّه يشكل ظاهرة خطيرة. وتتمثل خطورتها في كونها من ناحية متخفية في ثقافة ووجدان غالبية المسلمين، مما لا يجعلها تحظى بعناية عاجلة من أجل علاجها، ومن ناحية ثانية في كونها تخفي نظرة ناقصة للتدين تتمثل في عدم قدرة ثقافة المسلمين المعاصرين على دمج كل ما هو تربوي وعلمي وسياسي واقتصادي واجتماعي في الوعي الديني، أو بعبارة أخرى عدم قدرة الثقافة على دمج الحداثة في الوعي الديني، ما حَدا بهذه الثقافة أن تقلب الموازين فتتسبب في توليد عقول تعتقد أنّ الإيمان الحق يتطلب دمج الوع الديني في الحداثة، وليس العكس كما هو مطلوب.
هكذا فإنّ التعاليق التي عرضناها أعلاه كانت محاولات (فاشلة) لترويضِ الحداثة، عبر أداة اللغة، ووضعِها تحت نير المادة الدينية الخام من قبيل آيات كريمة لا يُجيدون تفسيرها وأحاديث نبوية شريفة يؤولونها حسب انطباعهم ومزاجهم، عِوضا عن فَهم الحداثة وتَمَثلها واستبطانها في الوعي الديني إلى درجة أن يصبح فَهْم النص الديني متماشيا بالشكل الأقرب مع القرآن الكريم والحديث والسنّة. بالتوازي، سيتوَلد عن ذلك التمثل للحداثة استبطانٌ ذو جودة أعلى للإسلام، نصا كان أم مقاصدا.
بهذه الطريقة، سيتحوّل خطاب عموم المسلمين من خطاب مسجدي إلى خطاب بشري يفهمه عموم الناس، مؤمنون كانوا أم غير مؤمنين، على قدم المساواة، بالرغم من استبطانه المبدئي للحس الإيماني الديني. فقط عندئذ سيَحصل التواصل بين الإسلام والحداثة.
Comments
3 de 3 commentaires pour l'article 261468