الثروات الطبيعية... بين التّنجيم والتّأميم

بقلم حامد الماطري
مهندس بترول مغترب
وناشط سياسي ومدني
مهندس بترول مغترب
وناشط سياسي ومدني
أمّا وقد "انتهت" الأزمة في الجنوب التونسي مع تعليق اعتصام الكامور، وعودة الحقول إلى الإنتاج، فلا يسعنا إلا العودة على الأحداث بشيء من القراءة والتّحليل.
حكاية البترول أخذت منحىً عجيباً في تونس... مثلها مثل اثنين يتخاصمان من أجل بيضة... اختلفا حول ما فيها حتّى انتهى بهم الأمر بأن فقسوها ليطّلعوا على ما بداخلها!
ما يقال عن البترول والغاز، وعن حجم الفساد في الموضوع، وما يقال عن تفريط في السّيادة الوطنيّة، تجاوز مرحلة الضجيج الفايسبوكي ليصبح حالة من الاقتناع الواسع بصحّة ما يتداول من اتّهامات، ما وصل بمعتصمي الكامور أن رفعوا علم تونس فوق محطّة الضّخّ بالمنطقة في حركة رمزيّة تفيد بأنّ بترول تونس "تحرّر" من سطوة المستعمر...
أن ننكر أنّ قطاع النّفط قد أصابه الفساد والتّخلّف وسوء الحوكمة –سواسية بباقي القطاعات- فهذا يعدّ من قبيل تغطية الشّمس بالغربال، وقد يكون هذا الخطاب الرّكيك أحد أسباب انحسار الثقة في صدق الخطاب الرّسمي. ولكنّ الحملات التي عرفها هذا القطاع فاقت حدود الواقع، بل حدود المعقول منذ مدّة، وسرحت بالتأويلات والاتّهامات إلى درجات لا يقبلها المنطق.
كأحد أبناء الميدان، وكأحد الذين عملوا كثيراً على محاربة الفساد من الدّاخل (كلّ على حدّ امكانيّاته)، أرى في الحملات الشعبية التي تسلّط على قطاع النفط خاصّة، والثروات الطبيعية عموماً، طاقة شعبية ومدنيّة محترمة، ترفع شعارات وطنيّة لا نختلف فيها، بل ونتقاطع مع الكثير من مطالبها، ولكنّها تهدر للأسف في المكان الخطأ... بل أعتقد أنّ أغلب زملائي في القطاع يجزمون بأنه -أمام حجم الكلام الفارغ المتداول- أضرّت هذه الحملات بمساعي مقاومة على الفساد في القطاع أكثر مما نفعتها. فهي بما حوته من خزعبلات، سفّهت كلّ من لا يزال يتحدّث عن الفساد بعد أن وضعت كلّ عاملي القطاع في زاوية الخونة واللّصوص.
الموسيقى تصبح نشازاً إذا ما اختلطت بها الضوضاء. والماء لا يبقى ماءً إذا اختلطت به الشوائب... كذلك الحقيقة، تصبح أقرب للخزعبلات إذا ما اختلطت بالمغالطات.

لا يتّسع المجال هنا لمقارعة التّساؤلات والحجج العديدة لكلّ من يعتقد بأنّ نفطنا هو أكثر بكثير ممّا يقع التّصريح به، وأنّه "يسرق" ليباع في السّوق السّوداء، و"تحت الطّاولة"، وروايات أخرى، ولكنّه وجب التّذكير بأنّ هذا القطاع لا يقلّ "وطنيّة" عن غيره من القطاعات، فهو يدار بكفاءات تونسيّة بنسبة 99%، واعتقاد أنّ مثل هذه "السّرقات" الفجّة قابلة للحدوث، يفترض أن يكون آلاف الموظّفين، من مديرين ومهندسين وعملة ميدانيّين ومراقبين وغيرهم، جميعاً منخرطين في عمليّة خيانة وسرقة على مستوى دولي! واليوم، وبعد أن وجّهت سهام السّرقة والخيانة والعمالة لهذا القطاع، كيف يمكن أن تحلّ المشكلة ببضعة آلاف من مواطن الشغل أو بصندوق تنمية جهويّة؟ هل يعقل أن يعود كل شيء كما كان عليه؟
سيتّهمني البعض بالتّحامل على المحتجّين، ولكنني أؤمن أنّ أهم مكاسب للثورة هي أنّها أخرجتنا من مرحلة الوصاية الى مرحلة المواطنة، وأنّنا أصبحنا بذلك أيضاً مسؤولين عن أفعالنا واختياراتنا مسؤولية كاملة. لا يمكن لإنسان شريف أن ينكر الحيف الذي تعرّضت له الجهات المنتجة منذ عقود، ولذلك ساندنا –ومن دون تحفّظ- الاحتجاجات في طبيعتها الاجتماعيّة، ولكن أن نساند المهمّشين والمظلومين، فهذا لا يعني أن نصفّق لهم مهما فعلوا ومهما قالوا.
قد نتّفق على أنّ أحد أهمّ مشاكلنا اليوم تونس هي في النخب المزيفة. وهنا يجب إدراك أنّ "الأوساط الثّورية" تعرّضت بدورها للإختراق، وأصبحت تشهد أناساً يقدّمون أنفسهم على أنهم "جهابذة" في ميادين هم لا يفقهون أبجديّاتها، في حين أنّهم مجرّد "أفّاقين" و"حمّالة حطب"، يخلطون القليل من الحقّ بالكثير من الباطل، ويغالطون النّاس عمداً. يستعملون خطاباً يدّعي الدّفاع عن الثروات ومحاربة الفساد، يستمع إليهم الكثيرون، ويستحوذون على جانب واسع من اهتمام الشبكات الاجتماعيّة، بينما لكلٌّ منهم دواعيه ودوافعه.
للمرّة المئة... مشكلة قطاع النّفط، شأنه شأن أغلب القطاعات الأخرى، يكمن خصوصاً في ضعف الحوكمة، وهو تحديداً الباب الذي يدخل منه الفساد ويستفحل من خلاله.
للمرّة الألف... تونس ليست بلداً نفطيّاً، و انتاجنا غير قادر حتى على تغطية احتياجاتنا، بل أنّه لا يرتقي إلى مستوى انتاج شركةّ كبرى، العصر النّفطي في تونس انتهى مع القرن الماضي... وحكاية "الدّول العظمى" التي "تنهب" ثرواتنا النّفطيّة هي حكاية سخيفة، فأيّ من الشركات الكبرى المعروفة على المستوى العالمي لا ينشط في تونس، فليس عندنا إلا فتات الفتات من الحقول، لا يسيل لعاب إلا صغار المستثمرين من الشركات البترولية، وهو واقع لن يتغيّر، مهما ادّعى البعض، أو حلم البعض الآخر.
قد يصرّ البعض على الاختلاف معي في هاته المعطيات، ولكنني سأتّفق معهم في طرح سؤال ما فتئ يراوح الأذهان: لماذا نأتي أصلاً بشركات أجنبية حتى تقتسم معنا ثرواتنا، ولو كان بنصيب الثلث أو حتّى الخمس؟ ألا نملك الكفاءات اللازمة لإدارة حقولنا؟ وهل أنّهم بقدومهم إلى بلادنا هم يسرقون ثرواتنا ويحرموننا من خيراتنا؟
أسئلة وجيهة، لكنها بنيت في الواقع على كمّ آخر من المغالطات. الأجانب لا "يملكون" أياً من الثروات، التي هي أصلا مؤممّة وتونسيّة خالصة السّيادة. المسألة في الاستغلال، وهو في الحقيقة اختيارٌ بأن لا نستثمر في هذا الميدان، لضعف الإمكانيات التقنية والمادية، أو على الأقلّ أن نخفّض حجم الاستثمار وخصوصاً المخاطرة بالاستثمارات في عمليات بحث غير مضمونة.
تقريبا كمن يملك أرضاً مثمرة، فاختار -بملء إرادته-أن يشارك محصوله مع من يستثمر في الأرض ويرعاها طوال السّنة، ثمّ يوفّر المعدّات واليد العاملة، وأن يكمل الاستغلال (يخضّرها بالعامّيّة)... هل يعقل أن تبرم معه العقد من جهة، ومن ثمّ يعترض أبنائك طريقه من جهة أخرى، بعد أن يبذل الجهد والمال في الاستثمار وفي تعمير الأرض، فيتّهمونه بأنه سرق "خيرهم"، ويمنعونه من بيع محصوله؟!
أن تكون هناك تجاوزات أو ضعف في المتابعة أو المراقبة، فهو أمر وارد الحدوث، ولكنّه قطعاً مسؤوليّة الهياكل الرّقابيّة التي أوكل إليها التثبّت من حسن الإدارة، ومن جدوى المصاريف وكمّيّات الإنتاج. أن يكون هناك بعض التحفّظات على بعض العقود، فمن البديهي أن تكون محلّ تدقيق ومراجعة –ومحاسبة إن ثبت الخلل- ولكنّ هذا لا يمكن أن يكون في مناخ من الاعتصامات والمزايدات والتّخوين والتّهجّم.
أكره أن أجد نفسي في موقع المدافع عن المستثمر... هو دور أكرهه ولا يمثل أياً من معتقداتي. ولكنني أجد أنه من غير المنطقي أن نعمل جاهدين لاستجلاب الاستثمار الأجنبي من جهة، وننادي بتأميم هاته الاستثمارات من جهة أخرى. من غير المعقول أن نحتفي بالمستثمر في المؤتمرات وأن نسوّق للاستثمار في تونس، وأن نضع التّشجيعات ونرسم له أحلاماً وردية، ومن ثمّ ونتهجّم عليه بعد ذلك ناعتين إيّاه بنهب ثرواتنا.
انطلاقاً من حسّ وطني، أتمنى حقّاً ألا نكون أصلاً في حاجة إلى المستثمر الأجنبي، أن نكون قادرين على استغلال ثرواتنا الطبيعية بنجاعة ومردودية عالية... وأقول "أتمنى" ليس استنقاصاً من الكفاءات التونسية، فهي فوق مستوى الجدال، ولكنني أجادل في الطريقة التي ندير بها مؤسساتنا والتي تجعل المشاريع على تنوعها تتحول لشركات أخرى خاسرة وعالة على الدولة- ولو كانت تخرج الذهب!
فلنكن واقعيين، ولننظر إلى حالة الشركات الوطنية، إسمنت وكهرباء وفسفاط وكيمياء وتكرير وجبس وحلفاء ونقل وطيران وملاحة وضمان اجتماعي وحتى اتصالات... تقريباً كلّ الشركات الحكومية خاسرة أو تمرّ ب"عشرة الحاكم"... مجموع ارباح كلّ الشركات العموميّة التونسية المنتجة لا يتجاوز حدود 0.2 % من انتاجنا الداخلي، في حين أن الشركات الخاسرة تثقل كاهل الدولة بشيء يناهز خمس الميزانية حتى تنقذ العديد منها من شبح الإفلاس الذي يترصّدها مع كلّ ميزانيّة...
فساد وقلة مراقبة وسوء حوكمة وامور أخرى... طبعاً، ولكنّ هذا لا يلغي الواقع...
. عن أي تأميم نتحدث؟! هل نعتقد حقّاً أننا على قمّة الذّكاء، وأنّ باقي العالم من الحمقى؟
التّأميم... شعار رنّان في المطلق، ولكن أستغرب أن يرفع في اقتصاد مثل تونس، سنة 2017...
دولة لا تنتج أصلاً أكثر من بضع عشرات الآلاف من البراميل تريد أن تلعب ورقة التّأميم، ويقارنونها بإيران وفنزويلا؟؟؟
دولة لا تحقق اكتفاءها من الطّاقة ولا تستطيع أن تصمد أياماً معدودات قبل أن تغرق في الظلام لو انقطع عنها امداد الغاز الجزائري، دولة لا تنتج نقطة واحدة من البنزين خالي الرّصاص، ولا تمتلك مصفاة نفط ملائمة لإنتاجها النفطي، وتريد أن تأمّم حقول النفط؟ وكيف سيكون الأمر بعد؟ شموع ودرّاجات هوائيّة؟
دولة اقتصادها قائم على الاستثمار الأجنبي (من دون أن أكون داعما للفكرة أو مدافعا عنها) تتحدّث عن التّأميم؟
اقتصاد لا يحقّق اكتفاءه الغذائي، ويخسر نسيجه الصناعي لصالح التوريد والتهريب، لا يمكنه أن يتحدّث عن التّأميم... دولة تعيش على السياحة، وعلى دعم الدول، وعلى القروض، وعجزها التجاري والمالي يتفاقم من سنة لأخرى لا يمكنها أن تتحدّث عن التأميم!
شعب لا يتوقّف عن المطالبة بالزيادة، مهما كانت الظروف، وليس لديه أيّ استعداد أن ينقص شيئاً من عاداته أو كماليّاته، ويقيم الدنيا لو تأخرت شهريته او "منحة الإنتاجية" اسبوعاً، لكنه يريد التّأميم... عن أي تأميم نتحدث؟! هل نعتقد حقّاً أننا على قمّة الذّكاء، وأنّ باقي العالم من الحمقى؟
من يرفع شعاراً يجب عليه أن يكون واقفاً على أرضيّة قادرة على أن تحمله، ومؤمناً بفكرته ومستعدّاً لتحمّل ما سيلاقيه من صعابٍ لتحقيقها، وإلا فسيكون الأمر برمّته ضرباً من ضروب المراهقة!
نحن ببساطة ندقّ الأبواب الخطأ. حربنا لا بدّ أن تكون على الفساد، الفساد الذي يتعاطاه المواطن العادي قبل الوصول إلى فساد العصابات المنظّم، الحرب على الرّداءة في كلّ اليادين، على الإدارة المتكلّسة والمتخلّفة، على عقليّات مجتمعيّة تكرّس للتّواكل، ومنطق "عشرة الحاكم"، وثقافة المصلحيّة في والعلاقة المعقّدة بين الشّعب والدّولة.
بالنسبة لي، مشكلة البلاد تتلخّص في أنّه لم يقع الاتفاق على أنموذج اقتصادي واضح، ومسألة البترول ليست سوى الشّجرة التي تحجب الغابة من ورائها.
من جهة، تواصل الدولة المسير في منهاج ليبرالي بالأساس، محافظة على نفس العقليّات والخيارات والمنوال السّائد في سنوات التّسعينات وبداية الألفينات، بينما أصبح الخطاب الشّعبي مشبعاً بتوجّهات "يساريّة" بشيء من الرّاديكاليّة رافعاً لشعارات تتناقض مع الوضع المعيش، وهو في الواقع أمر عادي في مناخ ثوري.
في النهاية، نحن لا نعرف تقريباً ماذا نريد، أو أين نريد أن نذهب... الانفتاح أو الانغلاق... البناء أو الهدم... وكثيراً ما نتعامل مع الوضع المعقّد الذي نحن فيه اليوم، بأسلوب مراهق، لا يوجد فيه من هو على استعداد لتحمّل المسؤوليّة.
في غياب مشروع وطني، في غياب توجّه اقتصادي واجتماعي وحضاري متّفق عليه، تصبح كلّ السّياسات المتّبعة "حلولاً ترقيعيّة" من قبيل سياسة "إحيني اليوم واقتلني غداً"، وهي حلول لن تأخذنا بعيداً، بل ستستديم الفوضى وتزيد في عمق الهوّة بين الدولة والشعب، وستأجّج الاحتقان وإن أجّلت الانفجار... الى حين.
Comments
10 de 10 commentaires pour l'article 144367