مسرحية "(الـ)حُلم… كوميديا سوداء" لجليلة بكار والفاضل الجعايبي: عمارة تتداعى ووطن يعاد ترميمه
في العرض الأول لمسرحية "(الـ)حُلم… كوميديا سوداء" للثنائي جليلة بكار والفاضل الجعايبي، وإنتاج مشترك بين "فاميليا للإنتاج" و"فنون التوزيع الريو"، يجد المتفرج نفسه أمام تجربة مسرحية متكاملة شكلا ومضمونا تمتد على ساعتين وعشرين دقيقة وتعيد تشكيل علاقة المسرح بالواقع التونسي المعاصر من خلال رؤية جمالية وفكرية تمزج بين السخرية السوداء والتشريح الهادئ لجراح المجتمع.
ويعود هذا الثنائي المسرحي إلى الركح بوصفه فضاء لفضح التناقضات وكشف هشاشة اليومي، ولكن أيضا لاستعادة القدرة على السؤال، إذ لا يقدم العرض حلولا جاهزة بقدر ما يضع المتلقي أمام مرآة تُظهر ملامح واقع متصدع يتداعى ولكنه ما يزال يقاوم.
ويعود هذا الثنائي المسرحي إلى الركح بوصفه فضاء لفضح التناقضات وكشف هشاشة اليومي، ولكن أيضا لاستعادة القدرة على السؤال، إذ لا يقدم العرض حلولا جاهزة بقدر ما يضع المتلقي أمام مرآة تُظهر ملامح واقع متصدع يتداعى ولكنه ما يزال يقاوم.
عنوان العرض الجديد "(الـ)حُلم… كوميديا سوداء"، الذي تم تقديمه بقاعة الريو بالعاصمة مساء أمس السبت في سهرة افتتاح الدورة 26 لأيام قرطاج المسرحية (22 - 29 نوفمبر 2025)، يحمل مفتاح الدخول إلى عالم المسرحية. فالقوسان المحيطان بأداة التعريف "الـ" ينزعان عن الحلم يقينيّته ويحولانه إلى سؤال: هل هو حلم معرّف أم منقوص؟ وهل فقد تعريفه أم أننا فقدنا القدرة على التعريف؟ وهو ما يحدث اهتزازا في معنى الحلم ذاته وتضعه بين التحقق والتلاشي، وكأن التعريف لم يعد ثابتا ولا مضمونا. أما النقاط الثلاثة التي تتبع كلمة "حُلم" فتدعم بقوة هذا المعنى الدلالي وتفتح الباب أمام تأويل حلم مبتور غير مكتمل أو مؤجل إلى أجل غير معلوم. وتأتي عبارة "كوميديا سوداء" لتحدد نبرة العمل والجو العام للعرض، فهي تشير إلى ضحك يخرج من جوف الألم، كما تشير إلى فرح يكشف عن وجع دفين في مفارقة عجيبة بين المؤمّل والحاصل، تماما كما عبّرت إحدى الشخصيات (جليلة بكار) بمرارة حين قالت خلال العرض "حتى الحلم فسدوه علينا". وانطلاقا من هذا المعنى يصبح العنوان مدخلا جماليا وفكريا يهيّئ المتفرج لعالم مسرحي تتعايش فيه الطموحات والخيبات.
عمارة قديمة قيد الترميم ووطن يقاوم السقوط
واختار الجعايبي في هذا العمل أن تدور أحداثه داخل عمارة قديمة تبدو آيلة للسقوط لكنها في وضع ترميم متواصل، في استعارة واضحة لواقع يتأرجح بين الانهيار ومحاولة الإنقاذ. ففي بداية المسرحية يبدو المكان مرتبا ومنظما، وكأن الحياة فيه ما تزال تستند إلى شيء من النظام الهش، غير أن هذا النظام سرعان ما يبدأ في التفكك مع تقدم الأحداث وتفاقم التوتر بين الشخصيات، ليتحول تدريجيا إلى فضاء من الفوضى والبعثرة، وهو ما تظهره "السقالات" والأغطية البلاستيكية وهي دلالة بصرية قوية على أن الترميم لا يزال في بداياته، وأن المكان مثله مثل المجتمع يعيش على وقع أشغال لم تكتمل. ومع تسارع وتيرة الأحداث، تنتشر الأواني المبعثرة وبقايا الطعام والكراسي المقلوبة، فيتحول المكان إلى أثر مرئي للانهيار الداخلي الذي تعيشه الشخصيات، وكأن تحول الفضاء نفسه هو تعبير عن تحول النفوس والعلاقات.
وتتجسد الشخصيات بوصفها فسيفساء اجتماعية تمثل طيفا واسعا من الواقع التونسي، وهي تحمل أسماء الممثلين الحقيقيين هم جليلة بكار وجمال مداني ومحمد شعبان ومنير خزري ومريم بن حميدة. وقد ألغت اللعبة المسرحية المسافة بين الذات والدور وتحول الركح إلى مساحة مواجهة صريحة بين الممثل ونسخته الدرامية. وأظهر العرض شخصيات تتباين في الطباع والخلفيات والمواقف، لكنها مجبرة على التعايش داخل فضاء واحد ما يجعل من العمارة رمزا للوطن بكل تناقضاته حيث تتصادم الشخصيات أحيانا وتتماسك أحيانا أخرى، وتبدو علاقاتها محكومة بقلق وجودي وبواقعية يومية خانقة حتى تصبح العائلة/المجموعة التي تتقاسم المكان نموذجا مصغّرا لتونس اليوم وللعالم العربي وللإنسان عموما في بيئته الوجودية الكونية.
"حُلم" مؤجل
ولا تنحصر القضايا المطروحة في هذه المسرحية في بعد واحد وإنما تتقاطع في مستويات عديدة داخل نسيج العرض، حيث أبرزت الأحداث الصراع السياسي الذي تعيشه البلاد منذ الثورة وما يحمله من ضبابية وارتباك، والأزمة الاقتصادية التي فرضت ثقلها على تفاصيل الحياة اليومية وهي التي أدت بدورها إلى أزمة اجتماعية وثقافية وأخلاقية جعلت الرؤية المستقبلية مشوّشة وغير واضحة. ويمضي العمل كاشفا كل هذه التصدعات ليقدم الواقع بصورته العارية دون "رتوش" أو محاولات تجميل.
أما الإيقاع الداخلي للمسرحية فقد أخذ منحى تصاعديا مدروسا. إذ بدأ العرض بإيقاع هادئ يشي بأن الأمور ما تزال تحت السيطرة، لكن هذا الهدوء ما يلبث أن يتحول شيئا فشيئا إلى احتقان فإلى اندفاع ثم إلى انفجار، إذ تتكاثف الحوارات وتشتد الصراعات بين الشخصيات التي تشترك في نفس المصير التراجيدي وعوض التوحد للبحث عن حلول تشتدّ بينها النزاعات حتى يبلغ التوتر مداه، فيظهر الانهيار جليا على المكان وعلى الشخصيات معا، ليصل المتفرّج إلى نهاية تضعه أمام مشهد أقرب إلى شبه السقوط الكامل ولعلها فترة مخاض لولادة وعي جديد من قلب الركام ليتجدّد "حُلم" جديد قابل للوعي والإدراك وينير العتمة لغد مشرق في وطن يحتاج إلى إصلاح حقيقي لا إلى رقع تضاف فوق جدران متصدعة.
ومع أن العرض يكشف انكسارات كثيرة، إلا أنه يترك الباب مواربا أمام إمكانية بناء حلم جديد، حلم لا تبتلعه الأقواس ولا تشطبه النقاط الثلاث وإنما يستعيد معناه في مواجهة الخراب.







Comments
0 de 0 commentaires pour l'article 319013