"جرانتي العزيزة": عرض الوداع والوصية الفنية لفاضل الجزيري من ركح مهرجان الحمامات الدولي

<img src=http://www.babnet.net/images/3b/6899ee8f63a985.19935312_igmkljeqnhofp.jpg width=100 align=left border=0>


قدّم مهرجان الحمامات الدولي في دورته الـ59 في سهرة الأحد 10 أوت 2025 عرض المسرحية الأخيرة للفنان الكبير الفاضل الجزيري التي تحمل عنوان "جرانتي العزيزة"، فكانت كعمل يختار صاحبه اللحظة والمكان لوداعه الأخير. إذ مثلت تلك المسرحية شهادة فنية مكثفة تروي قصة تونس من الاستقلال إلى ما بعد الثورة سلط خلالها الجزيري دائرة الضوء على علاقة الفن بالسياسة من قلب تجربة فنان تجذّر في ذاكرة المسرح والسينما والموسيقى التونسية والعربية.

وبدا العرض رسالة وداع ووصية محملة بالوفاء للجمهور وللوطن، وكأنه كان يعلم أن هذه الليلة ستكون محطته الأخيرة على الركح. ففي فجر اليوم الاثنين 11 أوت، رحل الفاضل الجزيري بعد صراع طويل مع المرض لكنه ترك إرثا خالدا من الإبداع الذي سيبقى منارة للمسرح والثقافة في تونس.





مسرحية "جرانتي العزيزة": رحلة عبر نصف قرن من الفن والسياسة

من خلال شخصية "ماهر" أو "بتهوفن"، يستعرض الجزيري مسيرته الفنية التي امتدت لنحو خمسين عاما في فرقة الإذاعة الوطنية، كاشفا كيف كان الفنان شاهدا وشريكا في صناعة المشهد السياسي والاجتماعي في تونس. وانطلق العرض بمشهد عزف بيانو من أداء إلياس بلاقي، ومن خلال شخصية ماهر تتشابك السيرة الذاتية مع التأمل السياسي والفني في سرد معقد يحمل أبعادا ومقاصد متعددة.
وتميز العمل الفني بتوليفته الغنية التي جمعت بين التمثيل والموسيقى والغناء والرقص، حيث شارك في الأداء على المسرح كل من إشراق مطر وسليم الذيب مع كوريغرافيا لغيث نفاتي. كما تألق على الركح موسيقيون بارعون مثل لطفي الصافي على التشيللو وإلياس بلاقي على البيانو ومهدي ذاكر على الكمنجة مما خلق تجربة مسرحية متعددة الأبعاد تنسج حياة تونس السياسية والثقافية عبر عقود.

وعلى مدى ساعتين، استحضر العرض أسماء ومواقف سياسية بارزة من الحبيب بورقيبة إلى الثورة التونسية وما بعد 14 جانفي 2011، مرورا بشخصيات مثل اليوسفيين والهادي نويرة وأحمد بن صالح والشاذلي القليبي، إضافة إلى تكريم كبار الموسيقيين والمسرحيين الذين شكلوا هوية الفن التونسي.

وجسدت المسرحية من خلال علاقة "ماهر" بزوجته التي كانت رفيقة دربه الفنية والإنسانية قصة ثنائية الحب والخيانة، إذ اختارت الزوجة الانفصال والرحيل إلى السعودية بينما بقي "ماهر" متمسكا بـ"الجرانة" والكمنجة رمزا للحفاظ على جذور الفن والهوية وسط تقلبات الحياة السياسية والاجتماعية. وحملت هذه الرؤية الإخراجية بعدا سياسيا معبرا عن التحولات والانكسارات التي مرت بها تونس بعد الثورة.
ويطرح العرض أسئلة جوهرية حول دور الفن في السياسة ومدى تأثير المؤسسات الرسمية على الإبداع، حيث يعبر "ماهر" عن أسفه لفقدان فرقة الإذاعة الوطنية لروحها وتحولها إلى فرقة تجارية تفتقد للابتكار.

مسيرة فنية حافلة بالإبداع

وُلد الفاضل الجزيري سنة 1948، وانطلق في عالم المسرح في أواخر الستينيات ضمن نادي الشبيبة المدرسية بالمعهد الصادقي قبل أن يواصل دراسته في لندن وباريس. عاد إلى تونس ليؤسس عام 1971 مهرجان المدينة وفرقة مسرح الجنوب في قفصة، مسهما في نشر اللامركزية الثقافية.
قدم الجزيري أعمالا مسرحية خالدة مع فرق "المسرح الجديد" منها "الكريطة" و"العرس" و"الورثة" و"التحقيق" و"غسالة النوادر". وأسّس بعد 1990 "تونس للإنتاج" مواصلا تقديم عروض مسرحية وسينمائية متنوعة نالت جوائز وأثرت المهرجانات الكبرى. كما أحدث نقلة نوعية في العروض الموسيقية عبر "النوبة" و"الحضرة" و"نجوم" و"كاليغولا". وترك بصمة مميزة في السينما من خلال أفلام مثل "العرس" و"غسالة النوادر" و"عرب" و"ثلاثون" و"خسوف".
وفي 2022، حقق حلمه بتأسيس مركز الفنون بجزيرة جربة، جسّد فيه فكرته في تعزيز اللامركزية الثقافية وتثمين التعبيرات الفنية الجهوية، ليترك بذلك منارات جديدة للإبداع التونسي.
وبهذا العمل الفني الأخير على مسرح الحمامات، ودّع الجمهور الفاضل الجزيري، الذي ترك خلفه إرثا فنيا راسخا، وصوتا سيبقى حاضرا في ذاكرة المسرح والثقافة التونسية، وكأنه يقول "الفن هو الجرانة التي لا تغادرنا أبدا".


Comments


0 de 0 commentaires pour l'article 313173


babnet
*.*.*
All Radio in One