رأي: بسيكوأم بين التحريض و حرية التعبير

من قراء الموقع
ألمانيا
ألمانيا
شهدت الساحة الاعلامية في الآونة الأخيرة تحت شعار حرية التعبير العديد من الفرقعات التي تتعلق بالدين و الأخلاق و المجتمع من طرف بعض من صاروا شخصيات عامة أو ما يعبر عنهم بالمشاهير في مجتمعنا. و قد استرعت هذه المواضيع اهتماما شديدا لدى الناس لحساسيتها وتفاعلوا معها بطرق متفاوتة وجاءت أغنية "بسيكو ام" في هذا السياق كردة فعل مدوية على ما يجري في الساحة و تراءت لنا ملامح نوع من الحوار حول بعض المسائل التي تمت إثارتها فظن الكثير منا بأنها ستكون فرصة لتحريك المياه الراكدة في الاوساط الفكرية و تكون مقدمة للانطلاق و الحديث بنفس الحماسة و التفاعل في أمور أكثر أهمية تتعلق بواقع الشعب و تطلعاته. لكن ما راعنا الا و ان أعلن أولئك الذين كانوا سباقين في رفع راية حرية التعبير عن رفع شكاية لوكيل الجمهورية ضد مغني الراب. لست محاميا و لم أدرس الحقوق يوما و لكنني لن أترك لهم المجال للعبث بمستقبل هذا الشاب. شاهدت الفيديو الذي انتشر حول لقاء جمعه بسوسن معالج و فريق ممن صار ينتصر لها -وكأننا نتحدث عن غاندي أو نلسن ماندلا- و لقد استغربت طريقة الارهاب الفكري الذي قام هؤلاء بممارسته على هذا الشاب و محاولتهم جعله يتحمل المسؤولية التامة عن كل ما ورد من ردود فعل حول أغنيته . بصراحة لما رأيت هذا اللقاء لم أر لقاء صلح كما زعموا بل رأيت نسخة القرن الواحد و العشرين عن محاكم التفتيش حيث يوضع المتهم وسط زمرة من الأفراد الذين يكيلون له شتى الاتهامات الممكنة و يخيفونه بالأحكام التي استصدروها مسبقا لينتزعوا منه تراجعا عن أفكاره و إلا فسيعاقب. نعم هكذا فعلت الكنيسة في القرون الوسطي حيث يحاط المتهم بخصومه وحكامه في نفس الوقت و يطلبون منه التراجع و إلا سوف يحرق مع أفكاره. هؤلاء يفعلون نفس الشيء معه اليوم فهم بحسب تصريحاتهم في الفيديو , متأكدون بأنه سيدخل السجن لا محالة و سيعتبرالقضاء كلامهم قرآنا منزلا من السماء و ما على القاضي سوى الموافقة على الحكم الذي أصدروه مسبقا. هؤلاء الذين تذرعوا بحرية الفكر و التعبير و أطلقوا ما لذ و طاب لهم من نظرياتهم التنويرية و التحريرية لم يفهموا حرية التعبير لأنهم في حقيقة الأمر لا يسمحون سوى لأنفسهم بالتعبير و أما غيرهم فلا حق له في انتقاد أفكارهم هم من حقهم أن ينصبوا أنفسهم علماء و يعطوا الشعب دروسا و لكن غيرهم لا يستطيع الكلام هم يتضايقون حين يتهمهم أحدهم بالعلمانية و لكنهم لا يجدون حرجا في اتهام غيرهم بالتطرف . أنا لا أبرر هنا ما قد يلجأ اليه البعض من سب و قذف فمن يفعل ذلك يظهر مستواه الفكري المتدني و المفكر صاحب الرؤيا البعيدة لا يهتم بهؤلاء لانهم رعاع لا يستحقون الرد عليهم و لكن مغني الراب رغم أنه كان قاسيا نوعا ما في رده فانه لم يقم بسبهم مباشرة و انما اشار باستهجان لهم. أنا لست موافقا على الكثير من الأفكار التي طرحها هذا المغني لكنني لا يمكن أن أسمح لهؤلاء بارهابه فكريا و كيل الاتهامات المجانية له. هؤلاء يظنون أن حرية التعبير طريق في اتجاه واحد و نسوا بأن هناك اتجاها معاكسا لكل تيار يجب القبول بوجوده اذا أرادوا دخول معترك النقاش العام و إلا فليلجموا افواههم و ليبقوا في منازلهم و يريحونا من بنات أفكارهم.
يتهمونه بأنه السبب في حملة السباب التي شنت عليهم في الفايسبوك و هم يعلمون جيدا أن السبب هو شطحاتهم الفكرية التي أمتعونا بها و بامكانهم أن يروا متى نشأت هذه الجروبات و متى أصدر هو كليبه ثم حتى ان صح ما يزعمون هل أن كل من يبدي رأيه في تفكير شخص ما هو السبب في كل ما قد يتعرض له ذلك الشخص من تصرف الرعاع؟ يتهمونه أنه السبب وراء تهديدات بالقتل و حالة الرعب التي عاشوها و كل ما قد يتعرضون له –و هي كلها تصرفات مستهجنة و لا يمكن لأحد أن يبررها- و هذا في الحقيقة أمر غريب و لو أردنا تطبيق هذه النظرية المعوجة في مجالات أخرى لرأينا العجب العجاب في العالم فكل من ينتقد السياسة الأمريكية الامبريالية مثلا و دعمها المطلق لاسرائيل هو حسب نمط تفكير هؤلاء المسؤول عما يحصل من ارهاب في العالم و لهذا فيجب أن يعتذر و الا فليحزم حقائبه ليلتحق باخوانه في معتقل غوانتنامو . يريدون ان ينسبوا ل"بسيكو ام" كل ردود فعل الناس وهو أمر غريب أن يصدر من محامية لها من العلم و الخبرة القانونية الكثير مما أفتقر اليه. فلننظر لما يحصل في الغرب مثلا فمنذ أكثر من أسبوع تقريبا راجت فيديو نجم الكرة السابق ايريك كونتونا الذي أشار الى وقوف البنوك العالمية وراء الأزمات الاقتصادية التي تعصف بالعالم و اقترح فكرة أن يتجه الجميع ليسحب نقوده من البنوك اذا اراد الناس القضاء على هذا النظام المالي الجائر فهل سمع أحدنا بالبنوك ترفع قضية ضد كنتونا لان احدى العصابات الثورية اليسارية المتطرفة مثلا قد ترسل تهديدات بالقتل لرؤساء البنوك الكبرى في العالم أم لأنه أساء لسمعة البنوك أمام حر فائها بنقدها.
تشتكي الممثلة و تقول لقد أبعدت جمهوري عني و أنها لا تملك عملا آخر غير الفن و هي تعلم جيدا بأنها هي المسؤولة الأولى عن كل ذلك بعدم احترامها لهذا الجمهور الذي تريد الحفاظ عليه. اذا كانت تخشى على جمهورها و لم تفهم بعد معنى حرية التعبير فلتترك المواضيع التي لا تفهم فيها و لتواصل تقمص أدوار "الخلايق" حتى تحافظ على هذا الجمهور. اذا كان مجرد رد شاب يغني الراب أزعجها و جعل فرائصها ترتعد فما بالنا بها يوم يرد عليها شخص له من العلم ما يجعلها حائرة في فهم و فك شفرة ما يقوله. ان تعامل هؤلاء الهستيري مع هذه الأغنية يدل بما لا يدع مجالا للشك على محدودية أفكار هؤلاء و حقيقة مستواهم فهم ليسوا كما يحاولون أن يوهمونا به أصحاب أفكار راقية للنهوض بالمجتمع بل مجرد أصحاب فرقعات إعلامية لا أكثر و لا أقل لأن صاحب الفكر الراقي لا يهتم بما قد يقوله عنه مغني راب و بما قد يكيله له من اتهامات فهدفه أبعد من ذلك بكثير. أذكر تلك القصة عن الرسول صلى الله عليه و سلم يسبه سفهاء قريش و ينادونه مذمما و لكن الرسول لا يلتفت اليهم و حتى حين غضب صحابته عن هذه التسمية و أرادوا الرد قال لهم دعوهم فانهم يسبون مذمما و أنا أسمي محمد. أتعلمون لماذا لم يعبأ الرسول بهؤلاء؟ لأنه صاحب رسالة تتجاوز محدودية تفكير هؤلاء و هو مستعد ليتحمل من أجلها ليس النقد فحسب بل السب و الشتم بل حتى ليقدم حياته ولن يعبأ بهم.
بصراحة ردة فعل من هذا النوع خير دليل على فراغ أصحابها و ضعفهم حين يضعون صلب أعينهم كسر ارادة شاب في نقد افكارهم و اظهار انتصارهم عليه أمام العلن بتخويفه بالسجن و البحث عن كل التهم لإلصاقها به ليكون عبرة لكل من يجرؤ مناقشة أفكارهم. إذا كانوا مصرين على تتبعه قضائيا فانا أنصحه بأن يرفع هو الآخر شكاية في التلفيق و الادعاء الكاذب ضد هؤلاء و ليلعب معهم لعبة القضاء إذا أرادوا ذلك. مع كل احترامي لهذا الشاب و لكن ماذا يمثل هذا الشاب اذا ما قارناه بالمفكرين و العلماء العظام حتى يجعله هؤلاء ألد الخصام لهم ؟ هو مجرد شاب نظر الى وضع بائس جامد من حوله وحاول طرح جملة من الافكار للخروج من هذا الجمود. أنا أتحفظ على الكثير مما طرحه و على بعض الأساليب التي اعتمدها في طرحه و لكن ألا يستحق ما طرحه النقاش عوض محاولة التخلص منه بشتى الوسائل. هؤلاء عوض ان يناقشوا أفكاره يختارون أقصر السبل و يحاولون تجريمه بشتى التهم ليبقى المجال مفتوحا لهم لوحدهم حتى ينيروا لنا الدرب بأفكارهم الراقية. و في نفس الوقت الذي يتهمونه فيه بالتحريض ضدهم و تأليب الرأي العام عليهم لا يرون حرجا في تحريض السلطة عليه و اتهامه بالانتماء لتيار خطير. لنفرض مثلا أنه دخل السجن و بقي هناك مدة من الزمن هل أنهم سيقنعونه آنذاك بخطئه أم سيزيدون في حقده و تشبثه بأفكاره بل و حتى حثه على التطرف؟
Comments
53 de 53 commentaires pour l'article 17324