أيام قرطاج السينمائية 2025: فيلم "كان يا مكان في غزة" يركز على الهشاشة الاجتماعية لشباب القطاع المحاصر ويضع الاحتلال خارج الكادر
تابع جمهور الدورة 36 لأيام قرطاج السينمائية مساء أمس الأحد 14 ديسمبر بمسرح الأوبرا في مدينة الثقافة بتونس العاصمة فيلم "كان يا مكان في غزة" للمخرجين الفلسطينيين عرب وطرزان ناصر، وهو عرض يتنزل ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة.
لا يتعامل هذا الفيلم مع غزة بوصفها مسرحا للدمار فقط كما لا يسعى إلى توثيق اللحظة الراهنة بآليات السينما التسجيلية، فهو يذهب إلى خيار أكثر تعقيدا يتمثل في تفكيك الواقع عبر الخيال معتمدا السخرية السوداء كأسلوب واستراتيجية فنية واعية وظفها المخرجان لتصوير العبث الذي يحكم الحياة اليومية تحت الحصار، ولإعادة تشكيل صورة الفلسطيني خارج ثنائية الضحية والخطاب المأساوي الجاهز.
لا يتعامل هذا الفيلم مع غزة بوصفها مسرحا للدمار فقط كما لا يسعى إلى توثيق اللحظة الراهنة بآليات السينما التسجيلية، فهو يذهب إلى خيار أكثر تعقيدا يتمثل في تفكيك الواقع عبر الخيال معتمدا السخرية السوداء كأسلوب واستراتيجية فنية واعية وظفها المخرجان لتصوير العبث الذي يحكم الحياة اليومية تحت الحصار، ولإعادة تشكيل صورة الفلسطيني خارج ثنائية الضحية والخطاب المأساوي الجاهز.
تدور أحداث الفيلم على مدى 90 دقيقة حول قطاع غزة سنة 2007 حيث يعقد يحيى الطالب الشاب صداقة مع أسامة وهو مالك لأحد مطاعم. يتاجر الاثنان في المخدرات بينما يقومان بتوصيل سندويتشات الفلافل لكنهما يقعان في صدام مع شرطي فاسد ومغرور. ويبني الأخوان ناصر فيلمهما على سرد مزدوج يبدأ بحكاية صغيرة وهامشية قوامها شخصيات تعيش على تخوم القانون والاقتصاد، ثم ينقلب فجأة نحو سينما داخل السينما حيث يصبح التمثيل نفسه موضوعا للفيلم. وهذا التحول الذي يبدو في ظاهره مجرد لعبة سردية هو أيضا انتقال مقصود من الهامش الاجتماعي إلى هامش الصورة ويبرز كيف تُصنع الحكاية الفلسطينية؟ ومن يملك حق تمثيلها؟ وبأي أدوات؟
سينما داخل السينما
أما في القسم الثاني من الفيلم، فإن هذه الأسئلة تتكثف عبر تصوير تجربة إنتاج عمل سينمائي محلي يفتقر إلى الشروط التقنية والرمزية للسينما ويقع في تناقضاته الخاصة. وهنا لا يسخر الفيلم من الشخصيات فقط وإنما أيضا من آليات الخطاب الرسمي ومن هشاشة الفرق بين الواقع والتمثيل.
ورغم الطابع الكوميدي الذي طغى على بعض المواقف، فإن الفيلم جاء مشبعا بإحساس دائم بالفقد والاختناق. فالزمن الذي يتحرك فيه السرد ليس زمنا خطيا وإنما زمن دائري يعيد إنتاج الحصار ذاته بأشكال مختلفة. وحتى المرور الزمني للأحداث لا يمنح خلاصا للشخصيات وإنما يؤكد أن التغيير محدود وأن المأساة مستمرة حتى حين تتبدل الوجوه والأدوار.
أما على المستوى الجمالي، فإن "كان يا مكان في غزة" يستثمر في مفارقات النوع السينمائي مستعيرا عناصر من أفلام الجريمة وأفلام الحركة لكنه يعيد تفريغها من بطولتها التقليدية. فالبطل هنا ليس منتصرا إنما بدا كائنا مرتبكا محاصرا بين فقدان الذات ومحاولة فاشلة للتمثيل سواء في الحياة أو على الشاشة.
موت أم استشهاد؟
وعلى مستوى بناء الأحداث يختار الأخوان ناصر أن ينطلق فيلم "كان يا مكان في غزة" من النهاية: جنازة الشاب يحيى في صورة بصرية مألوفة في الذاكرة الفلسطينية والعربية وحتى الإنسانية تُفهم تلقائيا على أنها تشييع لشهيد سقط برصاص الاحتلال أو تحت القصف. ولا يحتاج المتفرج إلى تفسير إضافي فالصورة وحدها كافية لإنتاج المعنى. غير أن الفيلم مع تقدم سرده يعود إلى الوراء ليقوّض هذا اليقين، كاشفا أن يحيى مات برصاصة طائشة أثناء تصوير مشهد سينمائي أطلقها فلسطينيون يؤدون أدوار جنود للاحتلال الإسرائيلي.
وهذا الانقلاب السردي لا يمكن التعامل معه بوصفه مجرد مفاجأة درامية، فهو يبدو خيارا فكريا شديد الخطورة لأن الفيلم، من دون أن يصرح، يعيد توزيع مركز الثقل في المقاصد والمضامين من قتل يُفترض أنه ناتج عن بنية استعمارية واضحة إلى موت يحدث داخل فضاء تمثيلي فلسطيني بفعل الإهمال والعبث وسوء التصرف. صحيح أن الفيلم لا يقول إن يحيى "ليس شهيدا"، لكنه يجعل موته ملتبسا ويضع صورة الشهادة نفسها موضع مساءلة من حيث قيمتها الأخلاقية ومن حيث آلية إنتاجها وتلقيها.
غياب الاحتلال خيار فني؟
والأكثر إرباكا أيضا في الفيلم، هو أن هذا الخيار يترافق مع غياب شبه كامل للاحتلال الإسرائيلي كفاعل درامي مباشر. إذ باستثناء مشاهد عابرة للقصف، يظل الاحتلال حاضرا كصوت أو كأثر بعيد لا كقوة ملموسة لها جنود وقرار. وهذا الغياب لا يبدو تفصيلا تقنيا وإنما اختيارا مقصودا يحوّل الاحتلال من بنية سياسية محددة إلى خلفية "ضبابية" بينما تُدفع الشخصيات الفلسطينية إلى واجهة الفعل والخطأ والعنف.
ومن هنا ينزلق السرد نحو اختزال الصراع في نتائجه اليومية لا في سببه البنيوي وهو ما يخلق اختلالا أخلاقيا في توزيع المسؤولية ويجعل القتل يبدو كأنه قدر معلق لا فعلا استعماريا فقط. وربما يكتسب هذا الخيار حساسيته القصوى حين يُقرأ في ضوء سياق إنتاج الفيلم وارتباطه بجهات تمويل أوروبية من بينها الاتحاد الأوروبي وألمانيا وفرنسا، وهي جهات لم تتخذ مواقف سياسية واضحة أو حاسمة إزاء عدوان الاحتلال الإسرائيلي المتواصل على غزة. وهذه المسألة لا تُطرح بوصفها اتهاما إنما كإشكال بنيوي في سينما ما بعد التمويل العابر للحدود، ومن هنا يطرح سؤال : إلى أي حد يؤثر الإطار التمويلي في تشكيل الصورة وفي تحديد ما يمكن قوله مباشرة وما يُفضّل إزاحته إلى الهامش أو تجريده من تجسيده البشري؟ فغياب الجندي الإسرائيلي عن الكادر في هذا السياق، لا يمكن فصله تماما عن شروط إنتاج الصورة وعن ذائقة سياسية دولية تفضّل نقد الداخل الفلسطيني على تسمية البنية الاستعمارية بوصفها الفاعل المركزي.
أما عنوان الفيلم، "كان يا مكان في غزة"، فيضيف طبقة أخرى من الالتباس. فهذه العبارة المستعارة من قاموس الحكاية الشعبية توحي بزمن ولى وانقضى وبغزة تُروى بوصفها ذكرى لا حاضرا مفتوحا على الفعل. وفي سياق ما بعد 7 أكتوبر 2023، يكتسب العنوان دلالة إضافية تتمثل في الحنين الضمني إلى غزة ما قبل عدوان الاحتلال الإسرائيلي، إلى زمن كان فيه الحصار قاسيا لكنه قابلا للسرد وكانت الحياة رغم هشاشتها ممكنة التمثيل. والعنوان يوحي بأن غزة الراهنة بما تحمله من دمار شامل باتت خارج قدرة السينما على التخييل ما يدفع الفيلم إلى العودة إلى زمن أقل إحراجا للصورة وأكثر قابلية للاحتواء الجمالي.
إن أخطر ما في فيلم "كان يا مكان في غزة" ليس ما يقوله صراحة وإنما ما يتركه معلقا. فالفيلم تم إخراجه بدهاء سينمائي غير بريء، لأنه يلعب على تخوم صورة مقدسة في لحظة تاريخية مفصلية تعيشها فلسطين المحتلة وخصوصا قطاع غزة المنكوب ولا تحتمل كثيرا من الالتباس. وفي المجمل، لا تكمن أهمية "كان يا مكان في غزة" في الأجوبة التي يقدمها بقدر أهميته في دفع المتفرج إلى إعادة التفكير في علاقته بالصورة وبالسينما وبالموت حين يتحول إلى خطاب. غير أن هذه الجرأة نفسها تجعل الفيلم عرضة لسوء الفهم وتضعه على تخوم منطقة أخلاقية وسياسية حساسة.





Comments
0 de 0 commentaires pour l'article 320282