هل كل من دخل للوظيفة العمومية بدون مناظرة هو بالضرورة فاسد؟

كريم السليتي (*)
منذ أن وُجدت الدولة الحديثة كان لا بد لها من جهاز إداري ينهض بمهامها، من أصغر حلقة في السلم الوظيفي، الشاوش، إلى أعلى الهرم، الوزير أو المدير العام الذي يقرر السياسات. هذه الوظائف لم تُنشأ عبثًا، بل بُنيت على مبدأ جوهري: أن الدولة ملك لجميع مواطنيها، وأن خدمة الشأن العام تقتضي مساواة في الفرص واختيار الأكفأ والأصلح والأمين. المناظرة، أو الامتحان العمومي، لم تكن يومًا مجرد آلية تقنية، بل كانت رمزًا للعدل ودرعًا ضد الإقصاء والمحسوبية وضمانا للحد الأدنى من الشفافية وتكافؤ الفرص.
منذ أن وُجدت الدولة الحديثة كان لا بد لها من جهاز إداري ينهض بمهامها، من أصغر حلقة في السلم الوظيفي، الشاوش، إلى أعلى الهرم، الوزير أو المدير العام الذي يقرر السياسات. هذه الوظائف لم تُنشأ عبثًا، بل بُنيت على مبدأ جوهري: أن الدولة ملك لجميع مواطنيها، وأن خدمة الشأن العام تقتضي مساواة في الفرص واختيار الأكفأ والأصلح والأمين. المناظرة، أو الامتحان العمومي، لم تكن يومًا مجرد آلية تقنية، بل كانت رمزًا للعدل ودرعًا ضد الإقصاء والمحسوبية وضمانا للحد الأدنى من الشفافية وتكافؤ الفرص.
لكن ما بين النظرية والواقع مسافة طويلة. ففي عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، ثم أكثر اتساعًا في عهد زين العابدين بن علي، أصاب التوظيف العمومي عطبٌ خطير نجني نتائجه الوخيمة اليوم للأسف الشديد. حيث تحوّل التوظيف العمومي من بوابة للكفاءة إلى ساحة للمحاباة. رأينا أبناء الحزب، وأقارب المسؤولين، وأصدقاء النافذين يتسللون إلى الإدارات، لا بفضل امتحان ولا بكفاءة مشهودة، بل بشبكات الولاء. أحيانًا بالرشوة، وأحيانًا باستغلال النفوذ، وأحيانا لاعتبارات جهوية، وأحيانًا بتوريث الوظائف كما لو أن الدولة مزرعة خاصة.
الخطر هنا ليس في الأفراد وحدهم، بل في المنظومة التي تُنتج شعورًا عامًا بالظلم والتهميش والإقصاء. فعندما يُقصى شاب نزيه اجتهد ودرس ونجح من ضمن الأوائل، ليحل محله آخر لم يمر بأي امتحان سوى قربه من نافذ أو دفعه لرشوة، فإن الرسالة التي تُبث للمجتمع واضحة: الحق ليس معيارًا، وإنما الحيلة أو الوساطة (الأكتاف). وهنا يبدأ الانهيار المعنوي الذي لا تقاس كلفته بالأموال، بل بتآكل ثقة الناس في دولتهم. بل الأخطر من ذلك أن تنتشر ثقافة الواسطة والرشوة في عقلية المجتمع لتصبح هي القاعدة وتصبح المناظرة والشفافية والكفاءة هي الإستثناء.
لكن، هل يعني ذلك أن كل من دخل الوظيفة العمومية بلا مناظرة هو بالضرورة فاسد؟ الحقيقة أعقد من هذا التعميم. فهناك من وُظّف بقرار سياسي ظرفي، أو بعقود استثنائية، أو في سياقات لم يكن له يد فيها. في ذاته قد يكون نزيهًا، وقد يؤدي عمله بأمانة. لكن رغم ذلك، يظل واقعًا في إشكال أخلاقي: أنه أخذ مكان من هو ربما أكفأ وأحق منه. فالفساد ليس فقط في ذمة المرتشي، بل أيضًا في المنظومة التي سمحت لغير الأكفأ أن يحل محل الأكفأ.
اللافت أن الدراسات العلمية لم تُنتج إلى اليوم أدلة قاطعة على أن الموظفين الذين دخلوا بالواسطة أو بالرشوة أكثر فسادًا بالضرورة من غيرهم. لكن التجربة العملية اليومية تكفي لمن عاش دهاليز الإدارة. من خَبِر الإدارات والمؤسسات والشركات العمومية يدرك بكل وضوح الفرق الشاسع: الموظف الذي اجتاز مناظرة بشق الأنفس، وأثبت جدارته، غالبًا ما يحترم وظيفته ويشعر بثقل المسؤولية. أما من دخل من الباب الخلفي، فكثيرًا ما يحمل شعورًا بأنه محمي، وأن وظيفته تحصيل حاصل، وأنها حق مكتسب، فيضعف عنده الحافز ويقلّ عنده الإحساس بالواجب.
وهنا مكمن الخطورة: ليس في فساد الشخص وحده، بل في تكريس ثقافة اللامساواة. وما أصدق قول الله تعالى:
﴿قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾ [المائدة: 100]
نعم، قد يكثر الداخلون بالواسطة، وقد يترقون ويُثنون عليهم، لكن الطيب في النهاية هو الأصلح، وهو من تبقى سيرته ناصعة في ميزان الانتاج والاجتهاد و العدل والتاريخ.
إن من دخل بالواسطة أو الرشوة ليس معفى من مسؤولية الإصلاح. على العكس، هو أول من يجب أن يقف ضد تكرار هذه الجريمة، لأن بقاء هذه المنظومة هو الذي سيحوّل أبناءه غدًا إلى ضحايا أو متهمين. الفساد في التوظيف ليس خطيئة فردية فقط، بل هو وباء عام، والمصاب به والمتفرج عليه سواء في المسؤولية.
توصيات عملية
حتى لا يبقى الكلام مجرّد تشخيص للمشكلة أو بكاء على الأطلال، لا بد من توصيات عملية تُترجم مبدأ العدالة في التوظيف إلى واقع ملموس:1. منع وتجريم التوظيف خارج المناظرات: لا يجوز أن يُفتح أي باب للتوظيف في القطاع العام إلا عبر مناظرات وطنية شفافة، معلنة مسبقًا، تخضع لرقابة قضائية وإعلامية.
2. منع توريث الوظائف: يجب سنّ قانون واضح يمنع توظيف أبناء الموظفين في نفس الإدارات أو المؤسسات أو حتى نفس القطاعات، منعًا لاحتكار الدولة من قبل عائلات بعينها. فالدولة ليست شركة خاصة، بل ملك عام لجميع المواطنين.
3. رقمنة المناظرات: اعتماد المنصات الرقمية الكاملة من التسجيل إلى النتائج، لتقليل تدخل البشر في مسارات الانتقاء، وضمان أن تكون النتائج قابلة للتدقيق.
4. تعزيز الرقابة الشعبية: نشر كل النتائج التفصيلية للمناظرات مع الأعداد والمراتب، وتمكين منظمات المجتمع المدني والإعلام من مراقبة سير الامتحانات والاختبارات.
5. ربط الترقية بالكفاءة لا بالولاء أو الأقدمية: حتى بعد التوظيف، يجب أن تبقى الترقية والمسار المهني مبنيين على الأداء والأمانة والتكوين المستمر، لا على القرب من المدير أو الانتماء الحزبي أو الأقدمية.
6. تشديد تجريم التوسط والرشوة: يجب أن يُصنّف أي تدخل في التوظيف أو الترقية، سواء بالوساطة أو بالرشوة، كجريمة فساد يعاقب عليها القانون بصرامة، مع حماية المبلّغين عنها.
بهذه الإجراءات يتحقق المبدأ القرآني الخالد:
"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا" [النساء: 58]
فالأمانة هنا ليست مجرد أخلاق فردية، بل نظام عام يقوم على منع الظلم، وضمان أن يصل إلى الوظائف من هو أقدر وأجدر.
فلا يستوي الخبيث والطيب، ولا يستقيم حال الدولة إلا إذا أعيد الاعتبار للعدل، وعُصم المال العام والوظائف العمومية من التوريث والرشوة والواسطة. وقتئذ سنرى كيف سيتحسن ويتطور أداء الإدارات العمومية والخدمات العامة وكيف تنتقل المؤسسات والشركات العامة من الخسائر وشبح الإفلاس إلى تحقيق الأرباح والإزدهار.
* كريم السليتي
كاتب وباحث في الإصلاح الإداري
Comments
0 de 0 commentaires pour l'article 314864