التدخّل في شؤون الدول: أشكاله وحدوده ومحظوراته

<img src=http://www.babnet.net/images/3b/68a8777f9832b7.00695695_ijmqlenkhgpof.jpg width=100 align=left border=0>
ريم بالخذيري


بقلم ريم بالخذيري

الدول في تكوينها الجغرافي وامتدادتها الحضارية والثقافية والاقتصادية لم تكن يوما قلاعا محصّنة منغلقة على ذاتها، فالواقع وتوزيع الثروات يجعل من المستحيل على أي دولة أن تحقق اكتفائها الذاتي من كل متطلبات الحياة، وهو ما يجعلها مجبَرة على الاستيراد والتصدير وربما يجبرها ذلك على خوض حروب للحفاظ على وجودها وتعويض النقص الحاصل لديها سواء في الماء أو البترول أو غيرها من الحاجيات الأساسية.





ومن هنا نشأت فكرة الاستعمار التي امتدت على حوالي قرنين من الزمن (من حوالي 1800 إلى 1970)، واليوم بانتهاء الحقبة الاستعمارية تقريبا أصبح الحديث عن استعمار من نوع جديد لا تُستعمل فيه الأسلحة والطائرات والقنابل وإنما تُستعمل فيه اللوبيات واللوبينغات وحتى التدوينات. وأصبح التدخل في شؤون الدول يتم عبر هذه الآليات.

فما هو التدخل في شؤون الدول في الفكر السياسي؟ وما هي أشكاله وحدوده ومحظوراته؟


التدخل المحظور

هو قيام دولة أو جهة خارجية بممارسة ضغط أو اتخاذ إجراء يؤثر على السيادة الداخلية أو الخارجية لدولة أخرى دون موافقتها، بهدف التأثير على قراراتها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو العسكرية، بما يُعد انتهاكًا لمبدأ عدم التدخل المنصوص عليه في القانون الدولي.

حيث يُعد مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول أحد المبادئ الأساسية في القانون الدولي الحديث، ويرتكز على احترام سيادة الدول واستقلالها السياسي والإقليمي. ويشمل التدخل كل تصرف خارجي يؤدي إلى التأثير على إرادة الدولة في إدارة شؤونها بحرية، سواء كان ذلك عبر وسائل سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو إعلامية.

وقد نص ميثاق الأمم المتحدة، تحديدًا في المادة (2/7)، على حظر التدخل في المسائل التي تعتبر من صميم الولاية الداخلية للدول، ما لم يكن ذلك بموجب قرار صادر عن مجلس الأمن وفقًا للفصل السابع من الميثاق، كحالة تهديد السلم أو الإخلال به.

وقد شهد التاريخ المعاصر عدة حروب وصراعات اندلعت بسبب هذا النوع من التدخل، حيث تسعى بعض القوى إلى التأثير في قرارات دول أخرى، أو فرض أنظمة سياسية موالية، أو حماية مصالحها الإستراتيجية تحت ذرائع مختلفة.

من أبرز الأمثلة على ذلك:

* حرب فيتنام (1955–1975)، حيث تدخلت الولايات المتحدة لدعم الحكومة في جنوب فيتنام ضد الشيوعيين في الشمال المدعومين من الاتحاد السوفيتي والصين. وقد تحولت هذه الحرب إلى صراع إقليمي دموي راح ضحيته الملايين، وانتهت بتوحيد فيتنام تحت النظام الشيوعي، بعد انسحاب القوات الأمريكية.
* وفي مثال آخر، تدخل الاتحاد السوفيتي في أفغانستان عام 1979 لدعم الحكومة الموالية له، مما أدى إلى حرب طويلة استمرت عشر سنوات، وواجه خلالها السوفييت مقاومة شديدة من المجاهدين الذين حصلوا على دعم خارجي من الولايات المتحدة ودول إقليمية. وقد انتهى هذا التدخل بانسحاب القوات السوفيتية، لكنه ترك البلاد في حالة فوضى مهدت لظهور حركات متطرفة مثل طالبان.
* أما الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، فقد شكّل نموذجًا واضحًا لتدخل عسكري خارجي تحت ذريعة امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل. ورغم عدم العثور على هذه الأسلحة، أدى الغزو إلى إسقاط نظام صدام حسين، لكنه فتح الباب أمام الفوضى والعنف الطائفي وتفكك مؤسسات الدولة، مما تسبب في معاناة مستمرة للشعب العراقي.
* وفي سوريا وليبيا، أدى التدخل الخارجي في سياق ما عُرف بـ"الربيع العربي" إلى تفاقم الأزمات الداخلية وتحولها إلى حروب بالوكالة، حيث تدخلت قوى إقليمية ودولية لدعم أطراف متصارعة داخلية، ما أدى إلى تدمير واسع النطاق وانقسام سياسي عميق، لا تزال آثاره مستمرة حتى اليوم.

تُظهر هذه النماذج أن التدخل في شؤون الدول، حتى وإن تم تبريره بـدوافع إنسانية أو سياسية، غالبًا ما يؤدي إلى زعزعة الاستقرار وتفاقم الأزمات الداخلية، وهو ما يُعزز أهمية الالتزام بـمبدأ احترام السيادة الوطنية وعدم التدخل كشرط أساسي لضمان السلم والأمن الدوليين.


تونس والتدخل الأجنبي

ما فتئت تونس عرضةً للتدخل الأجنبي كغيرها من الدول منذ الاستقلال، حيث أن موقعها الجغرافي جعلها محل أطماع قوى عظمى لبسط نفوذها على القرار الوطني في السياسة والاقتصاد. وقد نجحت بلادنا إلى حد بعيد في ذروة الحرب الباردة في تجنب الاصطفاف المفروض حينها على الدول النامية بالانتماء إلى أحد المعسكرين: الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي والغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

وهذا النجاح جعلها بمأمن من المؤامرات ومحاولات إشعال صراعات داخلية ظهرت في دول مماثلة وتحمل بصمات مخابراتية أجنبية، وقد نتج عن ذلك سياسة خارجية متزنة تحظى بـاحترام دولي.

وبلغ التدخل الأجنبي ذروته في فترة ما بعد 2011 وتواصل لغاية 24 جويلية 2021، حيث أصبح القرار الوطني رهين قرارات صندوق النقد الدولي والدول المانحة. كما تخلت تونس لأول مرة عن سياسة الحياد الديبلوماسي، وحشرها ما وُصف بـ"مراهقي السياسة" حينها من الحكام في محاور دولية (مؤتمر أصدقاء سوريا 2012 نموذجًا). ومن المفارقات أنّ مؤسسات الدولة السيادية انخرطت في محاور متصارعة ومتنافرة المصالح.

كل هذا حوّل تونس إلى بلد مستباح دون رقيب وبتواطؤ من الحكام أنفسهم (قضية التسفير نموذجًا)، وتم بالتالي إضعاف الاقتصاد ونهب الثروات باسم المعاهدات.


أصوات دون ترددات

بعد أن استحال التدخل المباشر أو عبر وسطاء أو لوبيات حتى من الداخل، وبحكم أنّ الخطاب السياسي في تونس تغير مثلما ذكرنا، وأن السيادة الوطنية لم تعد مجرّد شعارات، فهمت الدول الصديقة والشقيقة أو تلك التي ترغب في الهيمنة أنّ عصر العلاقة العمودية انتهى، وأنّ من يرغب في التعامل مع تونس عليه الالتزام بالنواميس الديبلوماسية والتعامل بالمثل دون إملاءات، في إطار علاقات إستراتيجية تشاركية متكافئة.

لكن ظهرت بالتوازي مع ذلك أصوات لا تمثل سوى نفسها وربما مدفوعة الأجر، اختصت في نقد تونس والتحامل عليها مستعملة الفضاء الافتراضي ظنًا منها أنها ستجد صدى لذلك في الداخل أو محاولة بائسة للتأثير في علاقة الدول بتونس.

هذه الأصوات النشاز من أمثال السيناتور الأمريكي جو ويلسون، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية كارولاينا ومن شاكله، لا ترتقي لأن يُردّ عليها ديبلوماسيًا، فهي ليست صادرة عن حكومات أو منظمات، وبالتالي فإن تجاهلها هو الأفضل، والرد عليها عادة ما يكون من الشعب التونسي بنفس طريقة الهجوم.

كما أن مثل هذه الانطباعات ليست مؤثرة على سياسات الدول كما يرغب مروجوها، ولا يُعتدّ بها في مراكز الدراسات المالية العالمية.

هذه الأصوات المأجورة التي استحال عليها التدخل المباشر في تونس، غالبًا ما تضع نفسها للبيع لمن يدفع لها ليهاجم دولة أو شخصيات.
والمؤكد أن هؤلاء لا يكتبون ولا ينفثون سمومهم مجانا، والتونسيون أذكى من أن يقعوا في هذه المصيدة.


Comments


0 de 0 commentaires pour l'article 314186


babnet
*.*.*
All Radio in One