لا تستبشروا....الدكتاتورية لن تعود.

المهدي الجندوبي
"فشل الديمقراطية سيؤدّي الى عودة الدكتاتورية" هذه مقولة متكررة منذ سنوات و أعاد إثارتها السيد حسن الزرقوني، محلّل نتائج سبر الآراء المطّلع، الذي صرّح لمجلّة جون افريك أن "الوضعية ملائمة لعودة الدكتاتورية". قد تفشل التجربة الديمقراطية لكن الدكتاتورية رغم عيوبها ليست كما يتصوّره البعض نظاما يسهل "إرساؤه" و الحكم "بالقوّة" مهما كان بغيضا، يحتاج الى شروط داخلية و خارجية ليست كلّها متوفّرة و الى "مهارات قيادية عليا" لا يجب أن نتوهّم إمتلاكها بهذه السّهولة.
"فشل الديمقراطية سيؤدّي الى عودة الدكتاتورية" هذه مقولة متكررة منذ سنوات و أعاد إثارتها السيد حسن الزرقوني، محلّل نتائج سبر الآراء المطّلع، الذي صرّح لمجلّة جون افريك أن "الوضعية ملائمة لعودة الدكتاتورية". قد تفشل التجربة الديمقراطية لكن الدكتاتورية رغم عيوبها ليست كما يتصوّره البعض نظاما يسهل "إرساؤه" و الحكم "بالقوّة" مهما كان بغيضا، يحتاج الى شروط داخلية و خارجية ليست كلّها متوفّرة و الى "مهارات قيادية عليا" لا يجب أن نتوهّم إمتلاكها بهذه السّهولة.
كثيرا ما نسمع الحديث عن "العصى"و فرض القانون" و "قوّة الحاكم" و كأنها طبيعية و أقلّ جهدا و تكلفة من الحوار و النقاش و الإقناع و الإقتناع و الوفاق و التوافق لكننا ننسى أن "مسك العصى" في المجتمع العصري، يحتاج هو ايضا الى إمكانيات مادّية و الى قدرات تنظيمية لا يجب أن يستخفّ بها كل حالم أو طامح إن وجد بيننا.
فالمشكل اليوم في تونس لم يعد الوصول الى الحكم و لكن القدرة على البقاء في الحكم و تحويل الأفكار و المشاريع و الرغبات الى أعمال ملموسة تفيد الناس. "فشل الديمقراطية" لن يؤدّي حتما الى الدكتاتورية لكنه سيؤدّي الى نظام عاجز من صنف آخر يصعب تصوّر ملامحه لكنه يمكن أن يشبه في بعض جوانبه ما جرى في التشاد في الثمانينات أو ما تعرفه الصومال منذ أكثر من عشريتين من عدم إستقرار و إنهيار للسّلطة و ظهور قيادات مناطقية تتصرّف و كأنها دويلة.تدهور الدول بئر بلا قاع و هناك دائما أسوء من السيء.
من يقّدّم فرضية عودة الدكتاتورية يتصوّر بصريح القول أو ضمنيا، أن القوات المسلّحة هي التي "ستقوم بهذه المهمّة" و هي مقولة وهمية تفنّدها كل الحجج التاريخية و كل الدراسات التي بيّنت أن هناك فعلا إستثناء تونسيا قوامه الوطنية و الإنضباط و ثقافة مدنية الدّولة. إن دور الجيش أثناء حوادث الثورة و تعامل المواطنين معه بكل ثقة رغم الإحتجاجات قبيل الثورة و بعدها، حجّة إضافية على أهمية "إبتعاد الجيش عن السياسة" حتى يكون اثناء الأزمات المزلزلة، القوة الوطنية الحامية للجميع دولة و مؤسسات و مواطنين و هذه الخاصية غابت عن دول أخرى تداخلت فيها مصالح قيادات الجيش مع الأنظمة المنهارة فغابت عن الدولة القوّة المنظمة و الحامية للجميع، سلطة و شعبا.
أما الحجج التي تستدعي تجارب عربية فهي تتجاهل أن دور الجيش منذ ثورة جمال عبد الناصر و رفاقه الضبّاط الأحرار في مطلع الخمسينات من القرن الماضي كانت على خلفية نصرة قضية فلسطين و الزعيم عبد الناصر كان ضابطا تحت الملك فاروق و عاش مرارة الهزيمة في حرب 1948، و كل الإنقلابات التي تلتها في المشرق العربي على طوال النصف الثاني من القرن العشرين وظّفت القضية الفلسطينية لتبرير شرعية وصول الجيش للسّلطة. أما دور الجيش في الجزائر فقوامه التاريخي الجناح المسلّح لجبهة التحرير الوطني و هم مواطنون حملوا السّلاح لمقاومة الإستعمار، و شكّلوا النواة الطبيعية للجيش غداة الإستقلال سنة 1962، و كلّها ظروف خصوصية لتاريخ كلّ دولة عربية. إن التشابه في بعض الوضعيات لا يعني بالضرورة التشابه في الحلول.
كلّ هذا لا يعني عدم الإستفادة من الخبرات العسكرية عند مغادرتها الخدمة كما أشار الى ذلك حديثا السيد ناجي جلول الأستاذ المؤرّخ وزير التربية السابق في آخر تصريحاته، و هو أعلم أن الجنرالات في أمريكا ترشحوا للإنتخابات الرئاسية و نجح بعضهم كما نجح الجنرال ديغول في فرنسا لكن بعد مغادرة الخدمة نهائيا. و اذكر في السبعينات أن الشركة الجهوية للنقل في باجة ادارها ضابط متقاعد، كما اذكر طرفة متداولة حول الوزير الأول السابق في السبعينات المرحوم الهادي نويرة عندما إستدعى لأوّل مرّة المرحوم الضابط زين العابدين بن علي ليكلّفه بمهمّة سامية في الدّولة فخاطبه قائلا: "جنرال كم يلزمك من وقت لنزع البدلة العسكرية؟".
"الدكتاتورية" ليست كما يتخيّله البعض نظاما معزولا عن الشعب على الأقل في بداياتها و لكم أمثلة تقدّمها الأفلام الأرشيفية حول الفاشية الإيطالية و النازية الألمانية في الثلاثينات من القرن الماضي حول قدرة هذه التيارات السياسية التي نشأت في بيئة مدنية و ليست عسكرية، على تعبئة الأنصار. لا يجب الإستخفاف اليوم بالتنوّع العميق الفكري و الطبقي ضمن نظام إجتماعي و ثقافي منسجم، الذي يتميّز به المجتمع التونسي و بقدرته الفائقة على الإحتجاج ضاعفتها ثقافة سياسية أتت بها الثورة في 2010على خلفية ثورة أعمق اتت بها الدولة الوطنية بعد الإستقلال و تمثلت في إنتشار التعليم في المدن و الأرياف و تزامنت مع ثورة تكنولوجية لم تعد أية سلطة قادرة على التحكّم فيها، جعلت من كل حساب فايسبوك جريدة قابلة للإنتشار الواسع و السريع و حوّلت كل صبي الى رئيس تحرير يكتب أو يصوّر و يجيز النّشر. كم ديكتاتور "بالقوّة" يعيش بيننا اليوم قادر على مواجهة هذا الشعب في هذه الظروف الموضوعية، إذا هاج و ماج؟ مضى زمن غلق الجرائد أو أيقاف بث المحطّات الإذاعية لإصدار البيانات. تقول العبارة الفرنسية ليس ديكتاتورا كلّ من يرغب في ذلك “ n’est pas dictateur qui veut “.
الوطنية و إستقلالية القرار لا يجب أن تخفي على كل ملاحظ أن تونس التي تبلغ مبادلاتها التجارية نسبة 80 في المائة مع الإتحاد الأروبي ستكون في مأمن من أي ردّة فعل دولية في صورة الإنتقال غير الشرعي من نظام منتخب الى نظام مفروض بإرادة لا تخضع لقبول جماهيري عريض. و حتى إن وجد تيار يندفع مع كل ديكتاتورية في بدايتها نكاية في "فشل الديمقراطيين" و جريا وراء وهم وطني جديد و تطبيقا لقاعدة "تبديل السروج فيه راحة"، فستوجد بالضرورة تيارات أخرى رافضة ستحظى بمساندة داخلية و خارجية عريضة.
في الفعل السياسي أثناء الأزمات و التوتّر لا تكون أغلبيات سبر الآراء و لا حتى أغلبيات الإنتخابات، هي الفاعل الرئيسي لأن "الأقليات الفاعلة" اي المنظمة و الناجعة هي التي تغيّر موازين القوى و هي التي تحدّد المصير.
و حتى إن برهن "ديكتاتورنا" الجديد بشيء من النجاعة في إدارة الحكم على قاعدة "الخوف يجيب الطاعة" فكيف يمكنه تحقيق التنمية الإقتصادية و هو المطلب الوحيد الذي يوحّد الجميع اليوم، لأنّ تونس وقتها ستخضع بالضّرورة، لإجراءات عقابية دولية خانقة. و في كلّ الحالات سيكون الحاكم الجديد تحت ضغط مضاعف يجعله عرضة لكل إبتزاز دولي فلا هو يتمتّع بحاضنة وطنية تدعمه و لا هو في مأمن من أطماع خارجية ستراهن على هشاشته الداخلية.
إن بغض الدكتاتورية و مساؤئها العديدة، لا يجب أن يؤدّي الى الإستخفاف "بفضائلها" في ظروف تاريخية إستثنائية، و لا بشروط نجاحها و إستحقاقاتها، كما أن حلم الديمقراطية و فوائدها لا يجب أن يخفي بعض "عيوبها". فشل الديمقراطية لن يؤدّي حتما، الى الدكتاتورية لأن الديكتاتويرية هي ايضا نظام له إشتراطاته التاريخية التي لا نرقى لها بمجرّد الرّسوب الديمقراطي.
إن ما بعد الديمقراطية سيكون أتعس من الديكتاتورية لأن وقتها ستكون الدّكتاتورية أرقى و أصعب مما نقدر عليه جماعيا، و هذا يحمّل كل المسؤولين الحاليين في السّلطة و المعارضة و كل الأحزاب و التيارات الفكرية و كل أطياف المجتمع المدني، كما يحمّل كل مواطن تونسي بصفة فرديّة، مسؤولية "التصحيح الديمقراطي" دون هروب او تهرّب و دون البحث عن شماعات سياسية سهلة الإتّهام نعلّق عليها فشلنا الجماعي سلطة و مجتمعا، حتى يتقلّص هذا البون بين المجتمع "الحقيقي و المجتمع الشّرعي" pays legal et pays reel الذي شخّصه شيخ الديمقراطيين في تونس الأستاذ احمد المستيري منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي. لماذا لم تنجح الديمقراطية فيما كان "الديمقراطيون" يلومون عليه النظام السابق؟ لماذا تبقى السّلطة الشرعية و المنتخبة منذ عشرية، في واد و الشعب في واد؟
Comments
4 de 4 commentaires pour l'article 220853