الفقر في تونس.. الارقام المتضاربة

بقلم: شكري بن عيسى (*)
” الاستبيان هو لعبة الكلمات بالارقام“ (Albert Brie)
” الاستبيان هو لعبة الكلمات بالارقام“ (Albert Brie)
لا ندري الحقيقة ان كان المعهد الوطني للاحصاء سيأتينا بعد خمس سنوات ليعيد تقديم الارقام التي قدمها آخر الاسبوع المنقضي، ويؤكد انه وفق المنهج الجديد يجب مراجعتها والرفع فيها بخمس نقاط، مثلما فعل في 30 ديسمبر 2016 مع نسبة الفقر لسنة 2010، حيث تم الترفيع فيها من 15.5% الى 20.5%.
الارقام التي قدمها المعهد الوطني للاحصاء، في ندوته الصحفية قبل ايام، الخاصة بالاستهلاك والانفاق ومستوى عيش الاسر لسنة 2015،

المحصّلة الملتسبة للمسح تمثلت في "تراجع نسب الفقر بحوالي 5 نقاط بين 2010 و2015"


وهو ما يثير الشكوك حول نزاهة الارقام الحالية الخاصة بـ2015، والتي سيصار الى تغييرها بنسبة قد تصغر او تكبر في المسح القادم بعد 5 سنوات، ما دام تغيير المناهج وتغيير الاشخاص يسمح بذلك، والامر الحقيقة موضع شكوك عالية لدى الراي العام في خصوص الاستبيانات والمسوح والتحقيقات والدراسات، التي سجلنا فيها شحنة سياسية واضحة وتوظيفا عاليا خاصة في ظل اختراق الادارة، وفي ظل طغيان المال السياسي في خصوص مراكز الاستبيانات، وفي وضعية الحال اذ كنا نتقبل الى حد "دواعي" الملاءمة، فان نسبة "النزول" في النهاية ظهرت مصطنعة، بين نتيجة حالية بـ15.2% ونتيجة قبل سنوات 20.5%، هي في الاصل 15.5%!!
المشكل يتعمّق اكثر بالنظر لحقيقة الاوضاع، اي الواقع المعيش الذي يعيشه التونسي، بعد الانهيار العميق في المقدرة الشرائية، والصعود الصاروخي في عديد الاسعار بعد الثورة، حيث استغلت عديد القطاعات الظروف واشعلت الاسعار، خاصة في السكن بشقيه الكراء والمباني والاراضي، زيادة للمواد الغذائية وملحقاتها والنقل والصحة بمكوناتها، التي تشكل قرابة ثلاثة ارباع انفاق التونسي، مع تآكل قيمة الدينار التونسي الحادة بالنظر لبقية العملات الاجنبية، وفي ظل تصاعد نسبة البطالة بعد الثورة الى اكثر من 50%.
صحيح بعد الثورة تمت زيادات في الاجور، ولكنها في كل الحالات لم تضاهي ارتفاع الاسعار والتضخم المستورد، صحيح ايضا تمت الزيادة في المنح المخصصة لـ"العائلات المعوزة" الى 150 د. والرفع في عددها الى 250 الف، وصحيح انه لا يمكن التشكيك في ارقام المعهد الوطني للاحصاء ومنهجيته، ولو انه مسألة الحيادية مسألة محل شبهات عديدة، الا انه في المحصلة التهميش استمر والفوارق تعمقت في الجهات وللفئات المسحوقة، في الوقت الذي لم نسجل فيه سياسة وبرامج تنموية حقيقية وانطلاقة للامركزية والتمييز الايجابي الذين نص عليهم الدستور.
الفقر يقاس بالارقام المرتبطة خاصة بالانفاق، ولكن الحقيقة هو منوال عيش كامل مرتبط بالتنمية اساسا، بمكوناتها المتعلقة بالبنية الاساسية والتشغيل والتعليم والكرامة والصحة والمساواة بين الجهات والافراد والعدالة الاجتماعية وغيرها، والواقع يثبت ان المطالب والحقوق التي قامت من اجلها الثورة وخاصة الاجتماعية ظلت بدون استجابة ان لم يقع تصفية جزء منها، واستشراء الفساد لا يصب في خانة تكريس الكرامة والعدالة والتنمية التي نادى بها الشعب في ثورته.
وحتى الحلول التي انتهجتها الدولة لامتصاص تفشي ظاهرة الفقر، ومن اجل طمس عمق الواقع وتأجيل التفجّر، باليات الحضائر والمنح وغيرها من المسكنات التي قد تحد من تفاقم الفقر واثاره، فارقامها تناقض بقوة ما تم تقديمه من المعهد الوطني للاحصاء، ودون الحديث عن الاجور المنخفضة لمئات الالاف، ودون التطرق لمئات الالاف من اصحاب الاجر الادنى او عمال الحضائر، الذين يعلم القاصي والداني ان اجورهم لا تكفي لمواجهة الحد الادنى "الغذائي" الصحي، يكفي عرض ارقام وزارة الشؤون الاجتماعية لتبرز الفارق بعمق.
الرجوع لميزانية 2017 يعطي عدد العائلات المتمتعين ببطاقات العلاج المجاني 250 الف، اما عدد العائلات المتمتعين ببطاقات العلاج بالتعريفة المنخفضة فهو 578 الف، اي رقم جملي يساوي 828 الف عائلة، واذا احتسبنا معدل كل عائلة 3.5 فرد يعطينا رقم مليونين و900 الف، وهذه العائلات التي صنفتها وزارة الشؤون الاجتماعية هي الحقيقة تعوزها الوسائل المعيشية اللازمة، وهي في حالة عجز عن توفير حاجياتها الحيوية والا لما تكبدت الدولة مصاريفها ولما وفرت لها المساعدات والمنح، ورقم مليونان و900 الف يختلف عميقا مع رقم الفقر المقدم في المسح الاخير لمعهد الاحصاء والمقدر بقرابة مليون و694 الف شخص.
وهو فارق يحتاج لتبرير دقيق، في ظل فوضى الارقام التي نعيشها، وغياب الدقة والوضوح التي في غيابها لا يمكن ان تكون للبيانات دلالة، والتعقيد والالتباس والغموض يفقد البيانات نزاهتها ومصداقيتها، وحتى لو اعتمدنا هذه الارقام وصدقنا بصحتها ودقتها، فالفوارق بين الاقاليم الشرقية وتونس البرى من ناحية والاقاليم الغربية بدت صارخة، ومثلا الفارق بين تونس الكبرى وولايات القصرين والقيروان وباجة والكاف يفوق 25 نقطة، كما ان الفارق بين الوسط البلدي والوسط غير البلدي يقارب 16 نقطة.
الامر يزداد ضراوة مع استفحال الامية وانتشار البطالة وغياب المرافق الاساسية، وهي اعتبارات تصخم وقع الفقر وهوله واثاره الصحية والفكرية والنفسية وغيرها، وهو ما ينعكس على مؤشر التنمية الجهوية الذي يقيس باكثر وفاء واقع التنمية، احصائيات 2014 تضع ولايات القصرين والقيروان وجندوبة وباجة والكاف وسليانة وسيدي بوزيد وقفصة في وضعيات مثيرة للفزع، وهو ما يفسر في جزء كبير التفجر الاجتماعي الذي لم يفتر في هذه الجهات، والغبن والاقصاء والتهميش الممنهج زمن المخلوع لم يتم القطع معه اليوم بل يتفاقم في اكثر الحالات.
وبارقام المعهد الوطني للاحصاء لسنة 2014، الامية في سليانة والقيروان والقصرين وجندوبة تفوق 30%، والبطالة في القصرين تفوق 20 وفي قفصة وجندوبة تصل 26%، اما الفقر فالنتائج الاخيرة تعطي للقصرين رقم مفزع يقارب 33% اي قرابة 145 الف ساكن منهم قرابة 44 الف تحت خط الفقر اي بدون قوت يومهم، ونفس المسح يعطي نسبة فقر للقيروان قرابة 35% اي ما يعادل 199 الف شخص منهم ما يزيد عن 58 الف تحت خط الفقر بلا قوت يومهم..
ودون الغوص في تفاصيل الارقام داخل المناطق وخاصة في المناطق غير الحضرية حيث تتضاعف الارقام ويتعمق الوقع، ودون الغوص في التفاصيل الخاصة بالمرأة حيث تتضاعف الارقام ويحتد الاثر، وباعتماد الارقام "الرسمية" للمعهد وبقطع النظر عن التضارب الحاصل والالتباس المسجل، فالمعطيات تظهر فقرا واسعا في التنمية لا تزال تعيشها جهاتا وفئاتا بحالها، و"الحقرة" لا تزال مستمرة والحيف والحصار لا يزال ضاربا، ومئات الالاف لا تزال تعيش الجوع والعطش الحقيقي وتصارع الموت الصارخ، ويتملكها اليأس والاحباط القاتل، وهذا الانكى.
ومسكنات الحكومة اليوم في القروض الصغرى وعقود "الكرامة" لن تستجيب الحقيقة للحد الادنى المطلوب، والواقع يزداد بؤسا في الوقت الذي يتصاعد فيه ضجيج الوزراء والنواب في "البلاوات" ولا نرى لهم حضورا لهم في معاناة الجهات، ولا ابتكارا لحلولا مبتكرة تفتح نافذة ولو صغيرة للامل!!
(*) قانوني وناشط حقوقي
Comments
3 de 3 commentaires pour l'article 136467