حرب الزعيم.. معركة الشعب!

في مثل هذا اليوم 19 جويلية 1961 انطلقت حرب الجلاء ببنزرت بين الجيش التونسي والجيش الفرنسي
نصّت وثيقة الاستقلال التي وقّعت بين تونس وفرنسا في 20 مارس 1956 على تحصّل تونس على استقلالها التام ما عدا مدينة بنزرت. وبنزرت التي تقع على بعد 60 كم شمال العاصمة تونس تعتبر إحدى أهمّ المدن الاستراتيجيّة، فهي أقرب نقطة لفرنسا في إفريقيا، كما أن موقعها الجغرافي يتوسّط حوض البحر الأبيض المتوسّط مما جعلها أهمّ قاعدة عسكريّة خارجيّة لفرنسا، قبل إنشاء حاملة الطائرات شارل ديغول، للإشراف على افريقيا التي بدأت شعوبها في تلك الفترة في الحصول على استقلالها من فرنسا، وللسيطرة كذلك على منافذ البحر الأبيض المتوسّط. كما تعتبر قاعدة خلفيّة لقوّاتها في حرب الجزائر.
كانت تونس منذ الاستقلال تبني في دولة جديدة من الصفر، فانتخب الشعب مجلسا تأسيسيّا لكتابة دستور للمملكة التونسيّة، وذلك قبل الإطاحة بالملك الأمين باي من طرف الحبيب بورقيبة واعلان الجمهوريّة في 25 جويلية 1957. كما تأسّست عدّة هياكل حيوّية من الصفر لعلّ أهمها القوّات المسلّحة من جيش وشرطة وحرس وديوانة. ولم يصدر من الجمهوريّة الفتيّة أية ردّة فعل على بقاء جزء من السيادة الوطنيّة تحت الاحتلال سوى طلب لاسترداد بنزرت تقدّمت به تونس في سبتمبر 1958 تطالب فيه فرنسا بإعادة المدينة قبل فيفري 1960، فوافقت فرنسا برئاسة شارل ديغول جزئيا على الطلب بتسليم بعض الثكنات الواقعة وسط المدينة الى الجيش التونسي مع بقاء سيطرتها على الميناء العسكري (وما تابعه) والقاعدة الجوية، إلى جانب شبكة الاتصالات والدفاعات البحرية، مما يوحي بعدم نيّة فرنسا تسليم المدينة.

كان الحبيب بورقيبة في تلك الفترة يعيش ضغوطا سياسيّة من عدّة واجهات. فداخليّا كان التيار اليوسفي المعارض (أتباع الزعيم صالح بن يوسف) الذي عارض سابقا الاستقلال الداخلي في 1955 واعتبره خذلانا للمقاومة، يرى في سكوت بورقيبة عن بنزرت تواصلا للخذلان والخيانة، وقد بدأ التيّار فعلا في كسب مؤيّدين. أمّا مساندي بورقيبة من المناضلين القدامى فقد بدأوا يتململون من تجبّر بورقيبة واستفراده وقمعه رموز النضال الوطني كالطاهر بن عمار والحبيب ثامر وغيرهما. أما خارجيّا فقد كان جمال عبد الناصر مهيمنا على المشهد العربي بما أن التيار القومي العروبي كان سائدا، وكان عبد الناصر هو من يتزعّم هذا التيّار. وكان الزعماء العرب كعبد الناصر في مصر وبن بلّة في الجزائر ينظرون إلى بورقيبة على أنّه عميل للغرب ، و أنّ الإستقلال الذي يفتخر به غير موجود ، بحكم أن بنزرت و الصحراء التونسيّة مازالتا بأيدي فرنسا، فكان بورقيبة يعيش حالة من شبه العزلة السياسيّة خاصة لدى الدول العربيّة أو الدول حديثة العهد بالإستقلال أو ذات الأنظمة الثوريّة.
قرّر بورقيبة القيام بخطوة لكسب التأييد حوله وانهاء مشكل بنزرت فتوجّه إلى فرنسا للقاء شارل ديغول في مدينة رامبوييه وفاتحه بموضوع بنزرت في فيفري 1961. و حسب ما كتبه ديغول في كتاب " مذكّرات الأمل " ، فإنّ هذا الأخير حاول إقناع بورقيبة بالتريّث لفترة زمنيّة وجيزة ، لأنّ فرنسا راحلة بطبعها، و أنّ البقاء في المستعمرات لم يعد أمرا مجديا ، و كلّ ما في الأمر أنّ فرنسا قد بدأت في تجربة القنبلة الذريّة في صحراء الجزائر ، و ما أن تنتهي التجارب حتى تغادر تونس، و أنّ مسألة بنزرت لم تعد بالأهميّة التي يتصوّرها بعد التطوّر المذهل لآليات الحرب. لكن بورقيبة أصرّ على خوض الحرب رغم فتيّة الجيش التونسي وعدم تكافئ القوّات التونسيّة مع ثالث أعظم جيش في العالم في ذلك الحين. وحسب رشيد التيّاس وهو أحد القادة الميدانيّن -وغيره ممن عاش المعركة في شهاداتهم التاريخيّة- أنه كان واضحا عدم تكافؤ القوى بين الجانبين لبدء المعركة، لكن بورقيبة أصرّ على المواجهة وقام في 30 جوان 1961 بتحريك الحرس الوطني للتصدّي لعمليّة توسيع مدرج القاعدة الجوّية في بنزرت. فبدأت الأزمة الديبلوماسيّة تلوح بين الطرفين. إستغلّ بورقيبة الوضع ليخطب في الجماهير يوم 14 جويلية ويحثّهم على الاستعداد لمواجهة فرنسا لتحرير بنزرت، وطلب من المدنيّين مؤازرة الجيش والتطوّع للقتال، كما طلب من الفلّاقة (المقاومون القدامى ضد فرنسا) الانضمام لهذه المواجهة، ممّا استفزّ شارل ديغول، ليعلن يوم 18 جويلية عدم استعداده للمفاوضة حول مدينة بنزرت.
وفي مثل هذا اليوم 19 جويلية 1961 قامت قوات الجيش التونسي صحبة آلاف من المتطوعين بحصار القاعدة العسكريّة ببنزرت وقاموا باقتحام مركز التموين الفرنسي بالمصيدة (أحد أحياء بزرت)، كما نجحت المدفعية التونسية في تحطيم سبع طائرات فرنسية. لم تتوانى فرنسا في الردّ على هذا الهجوم فقامت بتعزيز قوّاتها من فرنسا والجزائر وذلك بإرسال المزيد من القوّات والطائرات والفرق المختصّة وتمكنت من احتلال جزء كبير من المدينة. كان الجيش التونسي في سنته الخامسة منذ تكوينه يواجه أحد أعتى جيوش العالم بمساعدة مدنيّين متطوّعين غير مدرّبين، مما حوّل المعركة إلى حرب شوارع غير متكافئة. واستمرّت المعارك حتى يوم 22 جويلية عندما صدر في نفس اليوم قرار من مجلس الأمن الدولي يدعو فيه الطرفين إلى وقف إطلاق النار، ووصول الأمين العام للأمم المتحدة داغ همرشولد إلى بنزرت لإيجاد حلّ للأزمة. عسكريّا تعتبر نهاية المعركة انتصارا لفرنسا نظرا لسقوط قرابة 700 شهيد تونسي وأكثر من 1500 جريح مقابل 30 قتيلا فرنسيا وبضع مئات من الجرحى. لكنّه يعتبر سياسيّا نصرا لتونس بعد أن اضطرّت فرنسا لفتح باب التفاوض الذي انتهى بالجلاء التام عن كامل الأراضي التونسيّة في 15 أكتوبر 1963.
يعتبر عدّة مؤرّخين اهتمّوا بهذه المعركة أن بورقيبة كان يعلم اختلال موازين القوى، وأن مسألة الجلاء بالنسبة لفرنسا هي مسألة وقت، لكنّه اصرّ عليها ودفع بهذا العدد المهول من الشهداء والجرحى لضرب عدّة عصافير بحجر، فقد بدّد تشكيك مناوئيه بالتخاذل والعمالة لفرنسا، وقام بالتخلّص من عديد الفلّاقة الذين بدأوا يتململون من سياساته بدفعهم نحو معركة خاسرة مسبقا، كما استغلّ المعركة لكسب شرعيّة في قمع معارضيه، إذ قام مباشرة بمحاكمة مناوئيه وتعذيبهم فيما يعرف بصبّاط الظلام والحكم عليهم بالإعدام، وقام بعدها أيضا بتصفية صالح بن يوسف والتضييق على الأحزاب وحضرها وإعلان سياسة الحزب الواحد، كما اكتسب بعض من الشعبيّة في العالم العربي واستطاع تحسين علاقته بجمال عبد الناصر وقام بزيارة مصر وأريحا وعدّة دول عربيّة كانت تنظر له بريبة.
المصادر:
كتاب بنزرت معركة بورقيبة لعمار الخليفي
كتاب بورقيبة سيرة شبه محرمة للصافي سعيد
كتاب الحبيب بورقيبة سيرة زعيم للطاهر بالخوجة
موقع تورس
موقع باب نات
ندوات مؤسسة التميمي للبحث العلمي
شهادات تلفزيّة لمعاصري الحرب
Comments
0 de 0 commentaires pour l'article 145443