رسالة مفتوحة إلى الدوائر المتخصّصة في العدالة الإنتقالية

<img src=http://www.babnet.net/images/2b/chahadatx4.jpg width=100 align=left border=0>


خالد مبارك ،
الشاكي باسم الشهيدين لدى اللّجنة الأمميّة ضدّ التعذيب



...

السادة و السيدات قضاة الدّوائر المتخصصّة ،

اليوم ، 18 أكتوبر، تمرُّ 29 سنة على دفن الشهيد فيصل بركات بعد قتله تحت التعذيب . و قريبا ستعودون إلى ملفّه أو بالأحرى سيعود إليكم فيصل طالبا إنصافه ممّن ظلمه ، و لظروفي الخاصّة سأستسمحكم في أن أتوجّه إليكم عبر منبر باب النات ، كممثّلٍ لفيصل و كشاكٍ وحيد باسمه أصلا ثمّ باسم عائلته إلى الأمم المتّحدة منذ 26 سنة قضاها الشابّ المغدور ممْسكا بتلابيب الجنرال بن علي ، حيث جرْجرَه أمام اللّجنة الأممية ضدّ التعذيب أين بقي حاكم تونس موقوفا على ذمّتها في قصره إلى أن مات .

لصالح من يتمّ تهميش المسار الدّولي ؟
و قد كانت اللجنةُ إياها قد أصدرتْ ضدّ دولة الجلاّدين قرار إدانة إبتدائيّا بتاريخ 10 نوفمبر 1999 في الشكوى رقم 60 لسنة 1996 و التي كنتُ رفعتها إليها بتاريخ 29 مارس 1994 و مازال الملفّ مفتوحا على احتمال قرار إدانة جديد للدّولة الحالية بما فيها آلتها القضائية العقيمة بفعل تواصل وقوعها تحت كلْكل النظام البائد ممثّلا ببعض أساطين قضاءِ التعليمات المُرسْكَلِين . و قد كانت اللّجنة الأممية قُبيْل الثّورة و حتى سنة 2013 أرسلتْ إلى الحكومة تنبيهات أكيدة و مستعجلة تأمرها فيها بأن تكمل مسار البحث الذي كانتْ تدّعي دائما أنه جارٍ ، بإخراج الرّفات أو دفع التعويضات للضّحايا و ذلك معناه أنّ اللجنة مقتنعة بثبوت التهمة على الدّولة المدانة بالتعويض و التي تبقى محلَّ تتبُّع ما لم تستجب لأمر السلطة الأممية ، فإذا فعلتْ تكون قد أقرَّتْ بمسؤوليتها كدولة مواصِلة لسابقتها و تنتهي القضية بذلك من الناحية الإجرائية . و قد كنتُ أندِّد باستمرار بتواصل تقاعس الدّولة لعشريتين عن ردّ المظلمة إلى الضّحية و تخفيف التبعات المتواصلة على الباقين على قيد الحياة و وضع حدّ لاستهتار الجلاّدين الباقين في مأمن من أي حساب او عقاب . و العجبُ كلُّ العجب في موقف فيلق المحامين اللذين يغفَلون عن الإدانة الأممية أو يُغْفلونها و يدخلون طائعين مُنقادين في لعبة زهير مخلوف ، وريث بشير التكّاري في الإصرار على إعادة القضية إلى المربّع الأول بجرّها إلى فرضيَّتيْ حادث المرور و الإخلال الطّبي . وفي الأخير ، ما توقّعْتُه منذ سبع سنين على الأقل حدث حرفيّا : الهيئة القضائية التي سيُناطُ بها حسْمُ الملفّ - و هي دائرتكم المتخصّصة - ستجد نفسها مغلولة اليدين و الرّجلين بنصّ إحالة نهائيّ غير قابل للطّعن إذا اختارت الهيئة المعنيّة الخضوعَ له واعتبارَه مجالها الأقصى ، فسوف تُدين البريء و تُبرِّئ المُدان و ذلك هو مخطّط دولة بن علي الموثّق بتاريخ 9 سبتمبر 1992. هذا ما حُدّد لكم منذ 29 سنة ، فهل تكون مؤسّسة العدالة الإنتقالية هي أداة تنفيذ تلك الخطّة ؟..



"قرار الإحالة رقم 1 " :
هذا النص عبارة عن توليفة من مجموع ما قام به القضاء البحثي من أعمال كان وراءها ثلّة من القضاة اللذين خلفوا مجموعة بشير التكاري التي كان عُهد إليها بإنقاذ النظام من إدانة أمميّة ثانية وشيكة سنة 2009 قبيل الإنتخابات . مع العلم أن التكاري هذا كان وزيرا للعدل و رئيس الحملة ألإنتخابية لبن علي و هو الذي أعلم اللجنة الأممية بموافقة الحكومة على إخراج رفات فيصل بكل سرور و دون قيد أو شرط وهو الذي عيّن قاضي التحقيق حمادي الشنوفي الذي بقي يسوّف إلى أواسط 2011 حين أُطْرِد من السلك في قائمة الوزير نور الدين البحيري . في نفس الفترة تمّت تسمية علي عبّاس كقاضي تحقيق مكَلّف بقضية فيصل بركات ، و ناجي درمش الذي جيء به في 2012 من محكمة بن عروس أين كان قاضي تحقيق إلى قرمبالية بصفة وكيل للجمهورية . أمّا علي عبّاس ، فإنه لم يوقِفْ أحدا ولا هو تمكّن من جلب عتاة الجلادين . لاقيْتُه غير مرّة و أمدّيْته بإفادتي بما أعرفه من القضية و أعطيته وثائق الإثبات من اللجنة الأممية و تلك التي لدى رئاسة الجمهورية و كلّها تكفي و زيادة لإدانة كلّ الفاعلين ، فإذا القاضي يترك الميدان و يتطوّع للإنضمام إلى هيئة الإنتخابات لستة أشهر كاملة . ثم نسّقْتُ له عملية إخراج رفات فيصل في فاتح مارس 2013 بينه و بين منظمة العفو الدّولية (4 أفراد) و الضّيف الأسكتلندي ، أخصّائي التشريح الجنائي د. ديريك باوندر . فما راعني إلاّ و هو يُصدِر بمعية ناجي درمش المذكور قرارَ "إطلاع على أوراق القضية" يطلب فيه وكيلُ الجمهورية توجيه تهمة المشاركة في التعذيب و التزوير والرشوة إلى ...طبيب التشريح و شاهِد الإدانة رقم واحد ضدّ القتلة . بعد أربع سنوات على ذلك يصدر قرارٌ عن "دائرة اتهام" بمحكمة الإستئناف بنابل مؤرّخٌ في 4 ماي 2017 يُنقَل فيه طبيب التشريح الدّكتور الصّادق ساسي إلى المرتبة الأولى في قائمة المتّهَمين مكان ...زين العابدين بن عليّ . و بذلك يكون "الجماعة" قد انتقلوا من الإسْتِتار والحذَرإلى الإستفزاز و التشفّي بالضّحايا . و لم تَمُرَّ إلا أسابيعُ قليلة حتّى انتفع علي عبّاس بترقية خيالية بأن عُيِّن بعد إتمام مهمّته ، كَرّة واحدة ، مدّعيا عامّا لدى التعقيب في صيف 2017 ، حيث يُمْكِنُه "مراقبة" أية أحكام "غير مناسِبة" قد تأتي إلى التعقيب من عدليّة نابل ، ضرورة أن محكمة التعقيب "غير مضمونة" بالنسبة لقضيتيْ فيصل ورشيد إذ سبق و صدرعنها قرارٌ لن تجدوا له أثرا في نصّ الإحالة ، برّأ الأطبّاء و اعترف لهم بفضلهم في إثبات الحقيقة و أعادهم إلى موقعهم الطبيعي كخبراء مهنيين و كأطبّاء الصحة العمومية المحايدين . و في حالة فيصل و رشيد فهُمْ أقربُ حلفائهما و الحافظين لحقِّهما في سجلاّت دُوليَّة لا تطالها يد الجلاّدين و من والاهم . هذا الحُكم وحدَه يُسْقط قرار الإحالة الذي بين أيديكم لأنّه يكشف انغماسه في البحث في اتجاه وحيد ضدّ شهود الإدانة ولصالح القتلة Instruction à charge.
كلّ هذه الوقائع تعني أنّ اللذين كان جهاز القضاء أداةً طيّعة في أيديهم يسعوْن لإعادة بسْطِ نفوذهم عليه ، كما عاينَتْه جمعية القضاة أخيرا بمرارة و لكن بصوت عالٍ بمناسبة الإستهتار القضائي الذي فاق كل الحدود في النيابة العمومية بنابل منذ 2017 ، حيث جيئ بالقاضي خالد عبّاس ، الرئيس المنصّب على نفس جمعية القضاة زمن بن علي ، كرئيس لمحكمة الإستئناف بنابل أين تنتظره قضايا كثيرة تتطلّب "الإحاطة" حتى لا تفلت من أيدي "أصحابها" ... و بذلك تكتملُ حلَقةُ التحكّم و التّوجيه و يسْتتبُّ العبث بالقضاء و نشر الظّلم على رؤوس الملإ كما في قضية التحرّش التي تعلّقت بزهير مخلوف و غيرها ممّا ذكرَتْه جمعيتكم الموقّرة بحقّ المسمّى خالد عبّاس .
و لِنخْتِمَ المشهد ، لا بدّ من المقارنة بحالة القاضي برهان العزيزي في قضية رشيد الشّمّاخي ، حيث انتهى في قرار ختم البحث ، إلى ردّ الإعتبار للأطباء ، بعد أن كان قد أمر بهم فسُجنوا في أواخر 2012 ، و ذلك هو الحكم الأوّل الذي ينصفُ الأطبّاء و يثمّن عملهم و لكنّكم لن تجدوا أثرا لهذا الجانب الأهم في القرار المذكور ، و ذلك تواصلٌ لِتسْمِيم القضية من طرف زهير مخلوف ، بتحويل قضية قتل الشهيد من التعذيب إلى العبث الطّبّي . و ذلك ما يفسّرُ تجاهل قرار ختم البحث للقاضي العزيزي و هو الوثيقة القضائية الوحيدة التي كانت ثمرة استقصاء ميداني معمّق مكّن القاضي من فرز المعلومات و رصْد و تجاوُزِ مواضع التضليل التي أُريدَ له أن يقع فيها ، فما كان من الجهاز إلاّ أن اسْتبقَه إلى الإستئناف فألغتْ "دائرة اتهام" مُسيَّرةً عمَلَه مطالِبةً إياه - و هي لا تعرف شيئا من الأمر ولا صلاحية لها لإعادة البحث - بإعادة توجيه الإتهام إلى الأطبّاء و تجديدِ مَسْخِ أشهَرِ قضيةِ تعذيبٍ في العالم بتحويلها إلى قضية إخلالات طبّية . و في ذلك نشر القاضي العزيزي دراسة رشيقة عن العلاقة بين قاضي التحقيق و دائرة الإتّهام ، نزّل فيها ضمنيًّا حالة رشيد و خلُصَ إلى أنّه لا يحقّ للدّائرة لا واقعا و لا قانونا أن تلغي قرار ختم البحث .
أمّا وكيل الجمهورية ناجي درمش ، فخصّص إقامته في قرمبالية لتصْفيف قضيتيْ فيصل و رشيد باستنساخ طلبات النيابة بعد الإطلاع على "الإعلام بأوراق القضية" حرْفا حرْفا و فصْلا فصلا من قضية رشيد إلى قضية فيصل في ماي 2013 ، رغم أنّ الوقائع و الحيثيات مختلفة تماما بين هذه الحالة و تلك .
و قد تابع السيد درمش مع قاضي التحقيق كيف أنّ الخير امتنع عن فتح ملفّ جديد ، كما في المرّات الثلاث السابقة بين 1991 و 2009 .و كان ذلك من منطلق أن القضية كانت فُتحت في أوت 2009 تحت عدد 27227/1 و هي القضية التي اصطنعها البشير التكاري مع نيابة قرمبالية عندما توسّل إلى اللجنة الأممية أن تعطيه وقتا كي يُخرج الرّفات كما وصفناه أعلاه . بعد الثّورة ، بقيتْ نيابة نابل متمسّكة بتبييض مسار التكاري و رسْكلَتِه بوجوه جديدة و لكن بنفس روح المناورة و الإخْتيال . طُرِحتْ هنا مشكلة ماهية الجريمة التي صارت الآن تعذيبا و قتلا بينما هي في البدإ قتلٌ عن غير عمد بحادث مرور مع الفرار و لم يُسألْ فيها المتّهمون الحاليون . فكانت الحيلة أن يأتوا بجميع المتّهمين فيتّهمونهم بحادث مرور لم يحصلْ فيصِحَّ بذلك ترسيم القضية برقمها و تاريخها المذكورين أعلاه و من ثَمَ يعيدون تكييفها بالتُّهم الجديدة و كذا فعلوا وعلى ذلك نصّصوا في أحكام مُكتملةِ الشكل و التدْبيج . ووَجد ذلك العبثُ المطلق من يصادق عليه و يمْهُرُه بختم القانون التونسي .
و يقودُني ذلك إلى أن أُذكِّر هنا بأن المجلس الوطني للحرّيات وثّق في تقريره السنوي لعام 2001 أنّ وكيل الجمهورية ببن عروس ناجي درمش هو الذي قام يوم 25 أكتوبر 2000 بحفظ قضية قتْل المواطن زياد اللواتي (رقم 7373/3) في مركز الأمن ببن عروس "لعدم وجود جريمة" . "والحال أنّه كان قد عاين بنفسه آثار العنف على جثّة المقتول" ، كما جاء في التقرير . حصل ذلك في الذكرى العاشرة للشّهيدين فيصل بركات و رشيد الشماخي ...

القضاء العادي كالعادة :
ستجدون في كلّ نواحي "قرار الإحالة رقم 1" الذي أمدّكم به رضوان الوارثي ، مدير ديوان وزير العدل سابقا ، أعْمالِي لربع القرن الماضي و التي أقمْت بها حجة الشهيد و كشفْت بها كذب السلطة و انغماسها في محاولة إخفاء الجريمة و سعيَها الدّؤوب لتضليل اللّجنة الأممية للإفلات من الإدانة بأيّ ثمن قبل الثورة وبعدها . و لكنّ قرار الإحالة هذا يذْكُرُني و المسارَ الطّويل على وجه الإضطرار لأنّ الجانب الدُّولي معلوم لدى المطّلعين و حتى المتابعين عن بعد ، ثمّ لأنني حرِصْتُ لدى قاضي التحقيق على أن تكون وقائع القضيّة مثبّتة كما عايشْتُها و نتائجُ تدويلها واضحةً كالبداهة بما فيها حكم الإدانة لسنة 1999 . لذلك فقرارُ الإحالة يُغْفِل إدْراج المسار الدُّولي كقاعدة قانونية أقوى و أولى من أيّ إجراء داخليّ لتتبُّع الدّولة المذنبة و ردِّ المظلمة إلى الضحايا ، بل يردُّ هذه المهمّات إلى القضاء العادي في إخلال قانوني و أخلاقيّ جسيم يتظاهر من خلاله باعتبار أنّ الجانب الدّولي عنصرٌ هامشي لا تترتّب عليه أي استتباعات لصالح الضحايا . من هنا يُفْهَمُ حرصُ المشرّع التّأسيسي على حماية المسار الإنتقالي من الإختطاف و التسييس بتأكيد السياق الثّوري كاستثناء وحيد يجيز التخلّي المؤقّت عن بعض مسلَّمات القضاء العادي ، كما هو معمول به في كل قوانين العالم .
و قد كان هذا القضاء العادي قد شرّق بالقضية و غرّب منذ 2011 فكانت في طورها التحقيقي تنطلق ابتدائية وتصل إلى التعقيب بعد بضع سنين ثم تعود إلى الإستئناف لتصل مجدّدا إلى التعقيب في ممارسة كاريكاتورية أنكى من تلك التي ربح بها النظام السّابق عشريتين على حساب الضحايا . و الحاصل بعد كمّية الجلسات التي تمّتْ إلى الآن أنّ الضّحايا جُرِّدوا من أهمّ سلاح لا يقدر على ردّه أحدٌ و هو حكم اللّجنة الأممية الصّادر ضدّ الدّولة التونسية بتاريخ 10 نوفمبر 1999 و الذي أدان الحكومة لأنّها لم تسْعَ إلى منع التعذيب (الفصل 12 من المعاهدة الأممية ضدّ التعذيب) و لا هي حقّقت في احتمال حدوثه عندما ادّعى به الضحايا و المجتمع المدني (الفصل 13) . أي أنّ التعذيب بشهوده و شواهده هو في حكم الحاصل ، كما وصّفْتُه في نصّ الشكوى ، ما لم تتوصّل الدّولة المتّهَمَة إلى نفي التهمة عن نفسها بإثبات أنها طبّقت الفصلين المذكورين ، و هو ما انتظرتْه اللّجنة و مازالت تنتظره إلى اليوم . ولأنه يستحيل على الدولة العميقة ، التي استوطنتْ قلب الدّولة ، أن تتجاهل المسار الدّولي أو أن تجابهه صداميّا ، فقد لجأت إلى استعماله ضدّ نفسه إذ هي تشيد به ظاهريًّا ثم هي تَخْلُص إلى نتيجةٍ تُناقِضُه و تنْقُضُه مُؤدّاها : نحن نقرُّ بتشريح د. صادق ساسي و أخذْنا علما باختبارات د. باوندر و زملائه الأوروبيين الثلاثة و مجمل الأعمال الطبّية التي بُنيَتْ عليها القضية ، و لكنْ طبيب التشريح بالنسبة لنا مذنب و مزوّر رغم أنف الحقيقة و بتلك الصّفة نُحيلُه بل نجعَلُه المتّهمَ رقم 1 بعد أن كان - ويبْقى - شاهدَ الإدانة رقم 1 . و بما أننا نحن مرْجعَ نظرِكم فاحكموا طبق الإحالة و لاتخرجوا عنها !

لائحة اتهام كارثية على حقوق الضّحايا
و يجدر الوقوف هنا عند الهيكلة الكارثية الجديدة للائحة التُّهَم التي استحْدثها رضوان الوارثي و من معه بالمبالغة المسرحية في الإجتهاد Excès de zèleعن جهل أو عن سوء نية كي يَصْدُر عن الدّائرة المتخصصة حكْمٌ هجين متهافت على درجة من الهُزال القانوني و المنطقي تنزع عنه أية جدّية و تجعله في جميع الصّور ساقطا لدوافع شكلية .
إنّ قوة العدالة الإنتقالية تكمن حصريّا في طبيعتها الإستثنائية الحميدة المستَمدّة من ثورة معترفٍ بها محلّيا و دوليّا ببُعْدَيْها السياسي و الأخلاقي . و ذلك ما يكسِبُها القدرة على تجاوزعائق الزّمن و إحباط تخطيط التورسيوقراطيين بوضع متاريس عملية و قانونية ذاتية تُسقِط عنهم التّتبّع إن نُزِعَ عنها طابَعُها السياسي . كذلك فعل زين العابدين بن علي بالإصرار على جعل التعذيب خارج نطاق القضاء التونسي إلى شهر أوت 1999 بالإمتناع عن تعريفه كجريمة و إدراجه في المجلّة الجنائية . و كذلك فعل الباجي قايد السبسي عندما مرّر حال تولّيه رئاسة الحكومة في 2011 قانونا يجعل جريمة التعذيب تسقط بانقضاء 15 سنة ، أي بالضبط ما يكفي من الوقت لضمان إفلات كبار الجلادين و آمريهم من المساءلة ، بالعجز أو الوفاة . فقرار الإحالة يبدأ بالتعذيب ثم يَتِيهُ في تُهمٍ شنيعة ولا شكّ ، و لكنّها تسقُط بانقضاء عشرة أعوام ، هي القتل العمد و الإغتصاب و الإحتجاز التعسّفي ، ممّا يُتيح مهاجمَةَ قرار الإحالة نفسه و أيةَ أحكام تكون مبنيّةً عليه .
إلى ذلك ، فإنه لا يغيب عن السيد رضوان الوارثي و من معه ما أثير عمليا أمام المحاكم من اعتراضات صريحة على روح العدالة الإنتقالية التي جُعلتْ لتُحصِّن الضحايا من الحيل القانونية الشكلية التي تكون نتيجتها ضياع حقوقهم حتى قبلَ الدّخول في مضمون تظلُّماتهم ، أي ببساطة إلغاء تلك الحقوق بجرّة قلم . هذا ما أتتْه المحاكم العسكرية في قضية برّاكة الساحل مثلا ، وهذا ما حكمتْ به بعض محاكم الطّور البحثي في قضيتي الشهيدين فيصل بركات و رشيد الشّماخي . لكنّ بارقةَ الأملِ لأصحاب الحقوق تأتي مرّة أخرى من اللجنة الأممية ضدّ التعذيب في قضية المواطن التونسي رشاد جعيدان . فقد اعترضت اللجنة الأممية على الحُجَّة الشكلية لمحكمة تونسية أسقطت بها دعوى الضحية و طالبت الحكومة بالإمتناع مستقبلا عن تبرير إضاعة حق الضحايا بأسباب إجرائية أمامها .

أيها السادة و السيدات قضاة الدّوائر المتخصّصة ،
هذه هي الوضعية القائمة اليوم و التي مبناها أخلاقي-سياسي قبل أن يكون قانونيا . فالإقرار للثّورة بحقّها في تشريع استثناءات مؤقّتة لإفشال محاولات مجرمي الماضي التفصّي من أفعالهم ، ليس كمُحاجَجتِها بشكليات فارغة لتأبيد الظّلم و قهر الناس و دفعهم إلى كل ألوان العمل اليائس . هكذا طرحْتُ الموضوع منذ 2014 على المنظمات الدّولية الأهلية (المقصّرة في حقّ تونس منذ 2011) و على اللّجنة الأممية (المقصّرة بدورها لمنحها 30 سنة تقاضي لحكْم تورسيوقراطي و على حساب ضحاياه) . و قد طالبْتُهم جميعا بتحمّل مسؤوليتهم الجسيمة في هذا الظّرف الدّقيق من قضايا ضحايا التعذيب في تونس و في العالم أجمع ، اليوم و إلى دهْرٍ قادم . مع التأكيد على ضرورة الدّفع قبل فوات الأوان باتجاه حقوق الضحايا وضدّ كلِّ الحِيَل الشَّكلية لإضاعة حقوق الضّحايا . إنّ أقرب حكم سيصدر عن لجنة أمميّة أو شبيهة لها في قضية مشابهة ، على المستوى القارّي ، أوروبي أو أمريكي مثلا ، سوف يحدّد فقه القضاء الدّوليJurisprudence في هذا الخصوص إمّا لصالح الضحايا أو لصالح الجلاّدين . فإذا تبنّت محكمتكم إدانة الأمم المتحدة لسنة 1999 و القرار الصادر عن اللجنة الأمميّة لصالح مواطننا رشاد جعيدان و نصّصت على أنها تجعله جزءا من القضاء التونسي و كأنّه صادرٌ عنها فإنّها تكون خطتْ خطوة كبرى في اتجاه التاريخ .

و أنتم ، أيها السادة و السيدات قضاة الدّوائر في قضية الشابّين المغدوريْن فيصل و رشيد ، و اللذين ينتظر الجميع ما سيصدر عنكم ، ماذا ستكون قصّتُكم ؟
مع رجائي لكم بسداد الرّأي و الثبات على الحقّ .





   تابعونا على ڤوڤل للأخبار

Comments


2 de 2 commentaires pour l'article 213315

ObservateurTN  (France)  |Jeudi 22 Octobre 2020 à 14h 23m |           
أهلا سيّد بن موسى ، عادة لا أردّ على المساهمات غير الممضاة أو الأسماء المستعارة ، خاصّة أنّ هذه ليستْ أوّل مرّة تُعلِّق فيها على ما أنشر في قضية الشّهيدين بأحكام عامّة و مطلقة ، مع التبرّم من الطّول و عدم الوضوح و انعدام المعنى و تكدّر المزاج و كثرة الإيحاء و سوء الخطّ و و... ، من منطلقٍ عدميّ يرمي إلى إثباط القارئ و منع التواصل بين المرسِلِ و المُتَلَقِّي .. و لكنّي سأعتبر أنّك على حسْن نيّة وأفكّر معك على هذا الأساس
لاحظْ معي قبْلاً أنّ المحامين و المحاميات مثلا و هم كثْرٌ تبارك الله ، و غيرهم من المعنيين مباشرة بمن فيهم أصحاب الحقّ الشّخصي الشّكلي ، لا يتكلّفون مشقّة التعليق أو المساهمة ، بل لا ينبسون ببنت شفة و يتمترسون على خجلٍ و وجلٍ وراء صمتٍ يصُمُّ الآذان ، خاصّة بعد انتحار زهير مخلوف . أتعتقد أنّ موقفَهم هذا طبيعيّ وأنت الذي أثرْت "قلْب الحقائق" بما يوحي أنّك تعرف الحقائق غير المقلوبة ، كما أشرْتَ إلى المبالغة و كأنّك وسطيٌّ في القضية ؟ هؤلاء
يتواطؤون بإخفاء الحقيقة ليطغى الزّيف و الكذب ممّا خلّفه المَخلوف إياه .. و ليس هناك من وسيلة إلى ذلك أيسر من تعاليق الكُسالى و المستعجِلين و طالبي الحدّ الأدنى من المجهود ، أو المتظاهرين بذلك . و بالتّاكيد أن ما خفي وراء المجهول هو أعظم ..
أما في ما يخصّ ما لا تصدّقه من إلقاء فيصل بركات القبض على الزّين بن علي منذ 1994 و حتى موت كبير الجلاّدين هذا ، فقد تكون محقّا إذ لم ترَ الوثائق الرئاسية و الأممية التي يحرص مجموع الإعلام على طمسها و التي يمكنك أن تطّلع عليها على هذه الرّوابط :
• حكم اللجنة الأممية ضدّ التعذيب ضدّ نظام بن علي بتاريخ 10 نوفمبر 1999 يلخّص لك المسألة من الألف إلى الياء :
https://digitallibrary.un.org/record/436671?ln=fr
• صفحتنا ضدّ المزيِّفين و الزيَّفين :
https://antifaussaires.jimdofree.com/bientأ´t-30-ans-la-vأ©ritأ©-doit-أھtre-dite/
• صفحتي على الفايسبوك مع تتبّع فترة شهر أكتوبر منذ2015 :
https://www.facebook.com/khaled.benmbarek.79
سيد بن موسى ، أنا أضع بين يديك الطّريق إلى المعلومة المقيَّدة في سجلاّت دُولية تعرّفك على قضية لا يمكنك الخوض فيها دون الإطّلاع . أمّا إذا كنت تأتي إلى مقالي لتبديل الجو و الإسترخاء و المتعة أو سوى ذلك من نوايا غير واضحة ، فقد أخطأْتَ العنوان على طول ... أقول هذا و أنا أذكّرُك والقارئ الكريم بتعليق لك من نفس الطّينة على نصٍّ لي منذ ... أربع سنوات :
تعليق Ben Moussa أسفله عن مقالي بباب النات : "رسالة اعتذار إلى الأطبّاء..." بتاريخ 07/12/2016 :
https://www.babnet.net/festivaldetail-135115.asp
"كلام غامض مبهم مطول لا يفيد ولا يغني شيئا
فلماذا الاعتذار وعن ماذا وممن ؟ ....
وما فعله هؤلاء ومن هم اساسا ؟"
(عندما أربط التدخّليْن ، يحْضُرُني يونس شلبي في مدرسة المشاغبين...)

أرجو أن تكون فهمتني سيّد بن موسى . سلام

BenMoussa  ()  |Lundi 19 Octobre 2020 à 09h 31m |           
مقال مطول ضره اكثر من نفعه
يهول الامور ويقلب الحقائق
لا يقرؤه الا من يريد استخدامه ضد الضحية وعائلته او الكاتب
فهل يصدق احد مثل هذا الكلام "الشابّ المغدور ممْسكا بتلابيب الجنرال بن علي، حيث جرْجرَه أمام اللّجنة الأممية ضدّ التعذيب أين بقي حاكم تونس موقوفا على ذمّتها في قصره إلى أن مات ."


babnet
All Radio in One    
*.*.*