الارض بتتكلم.. فرانكو-آراب

بقلم حامد الماطري
منذ أسابيع قليلة، صادف ان وجدت نفسي في احد المطارات الأوروبية انتظر دوري في صفّ كان اغلبه من الإسرائيليين.
وقفت في الصّف وانا أراقب المحيطين بي بشيء من الشغف، فشدّ انتباهي خصوصاً رجل واقف بجانبي يبحث في هاتفه ويكتب رسائل نصّية. هو نشاط عادي لشخص ينتظر دوره في ضجر، لكن ما اعتبرته غريباً هو انه كان يكتب على تليفونه بالعبرية.. كل شيء كان عبريّاً، الكتاب الذي تحمله زوجته، صفحة الاستقبال وقائمة الأسماء في هاتفه، كتاب التلوين الذي تحمله فتاة صغيرة في اول الصف..
في الواقع، وحتى أوائل القرن العشرين، كانت العبرية لا تزال لغة ميتة لا يستعملها الا بعض الرهبان في صلواتهم.. في مساعيهم لخلق دولة تجمعهم، اعتبر مؤسسو المشروع الصهيوني انه لا بد من استحضار العبرية كلغة مميزة للشعب اليهودي وكرافد للشخصية والهوية الإسرائيلية المستحدثتين، ولم يكن هذا بالأمر الهيّن حتى ان ‘هرتزل’ مؤسس الحركة الصهيونية قال ان حفظ بعض الجمل بالعبرية كان أصعب ما لاقاه في تنظيمه للمؤتمر الصهيوني العالمي سنة 1897. ومنذ ذلك التاريخ أخذ الصهاينة في اعادة احياء اللغة العبرية حتى صارت لغة قائمة الذات، يتحدّثها الجميع ولها صحفها وكتبها وأدباؤها ومترجموها.
استحضرت هاته الوصلة التاريخية وانا افتح هاتفي بدوري لتفقّد صفحتي في الفايسبوك، وأدركت حينها فقط أن كل شيء عندي، كل شيء، هو مكتوب سواء بالفرنسية او بالانجليزية... المفتاح باللغة الانجليزية، الصفحات فرنسية، المذكّرة التي اترك عليها الملاحظات لنفسي حتى لا أنساها، هي بالفرنسية، وكلّ الأسماء وحتى اسم أُمِّي على قائمة ارقام الهواتف مكتوب بالاحرف اللاتينية...
ادركت للحظة انني كتونسي، أو مغاربي بشكل أشمل، كنت الوحيد بين كل من عرفت من الأجناس والنِّحَل، من يستعمل لغة غير لغته في معاملاته اليومية مع زوجته وحتى مع نفسه… كان الروسي يكتب الأسماء في هاتفه بالأبجدية الروسية، وكذلك الهندي والعراقي والصيني والنرويجي. كنا نتحدّث كلنا الانجليزية كلغة وسيطة، لكن كلّهم كانوا يعودون الى لغتهم الامّ اذا ما فتحوا صفحة إنترنت ليقرأوا خبراً او ليتواصلوا مع ذويهم..
تبيّن لي اليوم ان حتى من لم يكن له لغة، مثل الاسرائيلي، صنع لنفسه لغة ليتميّز بها عن غيره ويكمل أركان شخصيّته وهويّته. بينما يتنكّر العربي اليوم واكثر من اي وقت مضى، في الشرق امريكانياً وفي الغرب فرنكوفونياً، لثقافته وهويته التي يراها أصلاً تتلون وتتفسّخ تحت وقع التلاعب الذي تتعرّض له من قبل سياسيين طوّعوا الدين والتاريخ والجغرافيا لخدمة البروباغندا التي ينفخون بها في عقول الناس.
صحيح انني اؤمن بخصوصية الشخصية التونسية واتفق مع الأصوات التي تقول بعدم كونها امتداداً مباشراً للشرق العربي بل انها تنفرد عنه بما تحمله من روافد متوسّطيّة وافريقية، ولكن هذا لا يعني ان نتنكّر لذاتنا وان نضع أنفسنا على الخارطة كقمر يجري في سماء "أمي العكري".
سيجادلني الكثيرون في انني ابالغ في تعميمي واستنتاجاتي، وفي كون الأحرف اللاتينية اسهل استعمالاً من تلك العربية، او ان استعمالنا المبالغ فيه للفرنسية ليس الا انفتاحاً على الثقافات الأجنبية وان في الامر اثراءً لتكويننا ولشخصيّتنا، وكونه "نتيجة طبيعية" للحقبة الاستعمارية، وان في هاته اللغة مدخلاً نتًخذه للعلوم والتكنولوجيا الحديثة، و و و ... ولكنّنا ندرك جميعاً ولو في قرارة أنفسنا ان هذا ليس صحيحاً، وأننا صرنا اقرب للغُراب الذي أراد تقليد مشية الطاووس حتى نسي مشيته ولا هو تعلم كيف يصبح طاووساً...
لسنا البلد الوحيد الذي وقع استعماره في التاريخ، لكن الدول الغارقة في التخلف هي وحدها التي أنكرت لغتها الأصلية واعتمدت لغة المستعمر حتى بعد خروجه من البلاد.
حتى وقت قريب، كان سكان العاصمة قادرين على استذكار اسم عمدة باريس اكثر من شيخ مدينة تونس، ويتابعون الانتخابات الفرنسية بشغف غريب، ويقترحون على اي مقيم اجنبي في تونس، ألمانيا كان او برازيلياً، ان يتعلم الفرنسية للتخاطب مع اهل البلاد عِوَض ان يساعدوه على تعلم العربية.
من العجيب ان تخلو شوارعنا من اسم الامير عبد القادر الجزائري وهو بشهادة الكثيرين أهم الشخصية المغاربية في التاريخ الحديث، بل أن أغلب التونسيين يجهلون من يكون. كذلك الحال مع عبد الكريم الخطابي.. والأغرب أن أحد الشوارع الرئيسية في العاصمة تحمل أسم شارل دي غول وهو الذي يعتبر مجرم حرب في حق الآلاف من شهداء حرب بنزرت الذين سقطوا تحت رصاص وقنابل جيشه وبأوامر منه. حتى اليوم، وبعد مرور أكثر من ستين سنة على استقلال تونس، لا يزال الشارع محافظاً على إسمه، بل لا يبدو أن أحداً منزعج من الأمر.
هنالك فرق شاسع بين الانفتاح على ثقافة اجنبية وبين الارتهان الكامل لها، وإلا ما للتونسي لا يقرأ الا كتباً ومراجع فرنسية؟ ما للمثَقّف التونسي لا ينال صكوك الاعتراف الا اذا اثبت تمكّنه من أمهات الأدب الفرنسي وتضلّع في تاريخ فرنسا وجغرافيتها؟ ما للتونسي منقطع تماماً عن اهم الإصدارات في أمريكا كما هو منقطع عن الأدب الانجليزي او الروسي او حتى المتوسطي اسبانيا كان او يونانياً او حتى عربياً؟
يصدمني عندما اسافر للشرق ان ادرك ان إصدارات مصر والشام والخليج لا تدخل اسواقنا. ان كتّاباً شبان لامعين كمحمد صادق او علاء الأسواني لا يعرفهم احد في بلادي... منذ سنتين، أهداني صديق مصري قصة نصحني بقراءتها ("هيبتا" وهي بالمناسبة فعلا رائعة). قلّبت الكتاب بين يدي فوجدت انها الطبعة السادسة والخمسون… هي وبالرغم من نجاحها الكبير، لم -ولن- تطأ مكتبات بلادي التي ازدحمت رفوفها بكتاب فرنكوفونيين اكثر من عاديين، وعمّرت واجهاتهاالزجاجية اصدارات محلّيّة تجترّ الرواية الرسمية لتاريخنا الحديث من دون عمق او نقد، لتطنب في مدح الزعيم واستذكار بطولاته...
ويأتي "الثقفوت" من بعد ليتبرّموا من هذا الشعب "الأُمِّي" العازف عن القراءة وعن مطالعة ما يعرضونه (او هم يفرضونه عليه) عليه من وجبات ادبية دسمة!
نحن نحمل عقداً متأصلة تجاه المستعمر السابق. ولا بد من أن نعترف بأن دولة الإستقلال ساهمت في استفحالها بدل أن تعمل على معالجتها، فصار منتهى طموح التونسي هو أن "يشبه" الفرنسي في كلامه أو لباسه أو حتى شكله ولونه. عوض الأستثمار فعلياً في تاريخ المجتمع التونسي وتراثه الإنساني الثري، فرضت أساطير "الشعب المقمال" وأطروحات الزعيم حول "الفقر والجهل والسخط" نظرة دونية مبالغ فيها تجاه الشخصية التونسية وجعلت شعبنا ينقطع مع جذوره لننتج أمةً منبتة تعاني من عقد نقص لا تحصى، وتعجز عن تجاوزها أو حتى طرحها بطريقة صحية من دون أن يستجلب ذلك صداماً عنيفاً بين مختلف المدارس.
اعتقد اننا من بين الدول القليلة في العالم التي تدار شؤونها بلغة غير لغتها الرسمية.. ومن المهين ان ينطق سفراؤنا وممثلونا في الخارج، وحتى رؤساؤنا، بلغة اجنبية، حتى في بلدان غير ناطقة بالفرنسية! كذلك هنالك فرق شاسع بين استعمال الفرنسية كمدخل للتكنولوجيا والعلوم الحديثة وان نصبح حبيسين لهاته اللغة وإصداراتها وغير قادرين على مجاراة العلوم لعدم تمكّننا من مجاراة اللغات الأكثر تقدّماً كالإنجليزية والالمانية.
قال احد الجزائريون يوماً عن اللغة الفرنسية انها "غنيمة حرب" غنمناها من الفترة الاستعمارية. اليوم وانا ارى الغالبية الساحقة من نوابغنا يستقبلون في الجامعات الفرنسية دون غيرها، اعود للاعتقاد بأننا نحن، ونخبتنا وادمغتنا، من كنا غنيمة حرب حملتها فرنسا وبقيت تتمتّع بها لعقود بعد ان خرجت -عسكرياً- من منطقتنا المغاربية لتترك في رقبتنا اغلالاً وقيوداً فكرية وثقافية أشدّ وطأً واكثر فعالية من تلك التي كانوا يستعملونها وقت الاستعمار.
Comments
3 de 3 commentaires pour l'article 166762