انتهاء صلوحية المجلس الوطني التاسيسي في 23 اكتوبر: قول مظلل للرأي العام

بقلم أحمد الصغير،
خبير قانوني، المدير التنفيذي لمنظمة أوروينا للتثقيف و التدريب في مجال حقوق الانسان،
جنيف.

خبير قانوني، المدير التنفيذي لمنظمة أوروينا للتثقيف و التدريب في مجال حقوق الانسان،
جنيف.
كثر اللغط في الاسابيع الاخيرة في تونس عن انتهاء الشرعية، شرعية المجلس الوطني االتأسيسي، و شرعية الحكومة، و شرعية مؤسسة رئاسة الجمهورية، وذلك بحلول يوم 23 اكتوبر 2012 على حد دعمهم باعتبار ان الفصل 6 من الامر عدد 1086 لسنة 2011 المؤرخ في 3 أوت 2011 و الذي يتعلق بدعوة الناخبين لانتخاب أعضاء المجلس الوطني التأسيسي، ينص على انه يجتمع المجلس الوطني التأسيسي بعد تصريح الهيئة المركزية للهيئة العليا المستقلة للانتخابات بالنتائج النهائية للاقتراع و يتولى إعداد دستور للبلاد في أجل أقصاه سنة من تاريخ انتخابه . و مع احترامنا للقراءات القانوينة لهذا الفصل و الامر الوادر فيه، فاننا نعتقد أن هذه القراءات هي عرجاء أو على الاقل عوراء لا تمشي الا بساق واحدة و لا ترى الا بعين واحدة. اذ من غير المعقول واقعا و قانونا الاكتفاء بمنطوق الفصل 6 من الامر المذكور و الاستغناء أو الاعراض عما عداه من النصوص. و كأننا بصدد قراءة جبرية و تعسفية تقف عند ويل للمصلين . بالاضافة الى ذلك فاننا نعتقد أن الاكتفاء بقراءة قانونية صرفة لا تأخذ في عين الاعتبار المعطيات السياسية وطبيعة المرحلة و التحديات الخطرة التي تمر بها بلادنا اليوم هو في أحسن الحالات موقف غير مسؤول و ينم اما عن جهل او عن سوء نية مبيتة للنيل من البلاد و الحيلولة دون تحقيق أهداف الثورة. وسنعرض فيما يلي الى مؤيدات و حجج بطلان القول بانتهاء صلوحية المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر 2012.

في البداية نود أن نشير الى أن الموقف الذي يسعى للتأسيس قانونيا لانهاء صلوحية المجلس الوطني التاسيسي في يوم 23 اكتوبر 2012 يكتسي على خطورة كبيرة ويمكن تأويله بطريقتيْن. اما أن المدافعين عن هذا الرأي هم جاهلون بالقانون والسياسة و لا يولون أي اعتبار لخطورة المرحلة التي تمر بها تونس، لاسيما في حالة الفراغ الدستوري و المؤسسي الذي قد ينجم عن الاخذ بهذا الرأي. أو ان الداعين لهذا الرأي هم بكل بساطة يريدون جر البلاد الى الفوضى و الللاشرعية واغراق تونس في متاهات و ظلمات لن نخرج منها قبل عقود قادمة. لذلك نرى أنه من المفيد اعتماد منهجية متفتحة و متكاملة تقوم على أساس ادماج العناصر السياسية و العناصر القانونية في تناول هذه المسألة approche juridico-politique.
فمن المعلوم أن المهمة الرئيسية للمجلس الوطني التأسيسي، السلطة الاصلية في البلاد التي انبثقت عنها الحكومة و رئاسة الجمهورية، مكلف أساسا من طرف الشعب بكتابة الدستور. و في هذا السياق فاننا نعتقد جازمين انه لو اقتصر عمل المجلس على اعداد وكتابة الدستور لأمكن له الفراغ من ذلك العمل في التاريخ المحدد بالامر المشار اليه أعلاه، اي في سنة لا أكثر. لكن و الحال أن الفصل الثاني من القانوني التاسيسي عدد 6 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية ينص على انه يتولى المجلس الوطني التأسيسي بصفة أصلية وضع دستور للجمهورية التونسية، كما يتولى أيضا بالخصوص المهام التالية :
1 ـ ممارسة السلطة التشريعية.
2 ـ انتخاب رئيس المجلس الوطني التأسيسي.
3 ـ انتخاب رئيس الجمهورية .
4 ـ الرقابة على عمل الحكومة ،
فانه لا يمكن بأي حال من الاحوال التطرق الى الامر عدد 1086 لسنة 2011 المؤرخ في 3 أوت 2011 و خاصة الفصل 6 منه دون النظر في أحكام القانون التاسيسي عدد 6 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية و خاصة الفصل الثاني منه. و الا فانه يصبح هذا الاخير بلا معنى و لا معنى كذلك لكل ما قام به المجلس التأسيسي من أعمال و تدابير.
و بالنظر الى أن المجلس الوطني التأسيسي يمارس الى جانب مهمته الاصلية المتمثلة في اعداد دستور جديد للجمهورية التونسية، السلطة التشريعية في البلاد من سن للقوانين و ووضع مؤسسات الدولة و غيرها، الى جانب رقابته على انشطة الحكومة، فانه من غير القانوني و لا المنطقي الالتزام بنص الفصل 6 من القانون الامرعدد 1086 لسنة 2011 مؤرخ في 03/08/2011 المتعلق بدعوة الناخبين لانتخاب أعضاء المجلس التأسيسي دون االنظر في أحكام الفصل الثاني القانون التاسيسي عدد 6 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية. حيث أنه لئن كان الفصل 6 من الامر المذكور لا يتحدث الا عن مهمة كتابة الدستور، فان مقتضى الفصل الثاني من القانون التاسيسي عدد6 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسط العمومية و واقع الحال يؤكدان أن المجلس قد دأب منذ نشأته على ممارسة اختصاصاته التي حددها لنفسه في القانون التاسيسي المشار اليه أعلاه و ليس وفقا للفصل السادس من الامر المذكور، و لم نرى اعتراضا من احد بما في ذلك المعارضة على ممارسة المجلس لهذه اللاختصاصات. كما أنه لم يكن من المستصاغ أن يعيب أحد على المجلس الوطني التأسيسي القيام بمباشرة السلطة التشريعية أو الرقابة على الحكومة و الا لآل الامر الى دكتاتورية جديدة تتهدد البلاد لو ترك الامر فقط للسلطة التنفيذية برأسيْها.
والحال و أن الامر كذلك واقعا و قانونا، و بناء على أنه لم يعترض أحد على ممارسة المجلس التأسيسي لتلكم الاختصاصات فانه من غير المنطقي الرجوع في هذا الوقت بالذات الى الامر عدد 1086 لسنة 2011 مؤرخ في 03/08/ 2011 واعتباره الميزان الذي توزن به الشرعية أو المشروعية كما يحلو لبعض القانونيين ان يفصلوا. لذلك فلا مناص من اعتبار الامر عدد 1086 لسنة 2011 مؤرخ في 03/08/2011 و خاصة الفصل 6 منه لاغيا بالنظر الى التعارض والتناقض البيّن و الكبير القائم بينه و بين النص الللاحق له و المتمثل في الفصل الثاني من القانون التأسيسي عدد 6 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية. حيث أنه لا يمكن لأحد ان يحل هذا التناقض و الاختلاف الصارخ بين النصيْن بالنظر الى أن التعارض و الاختلاف يتعلق بجوهر اختصاص المجلس الوطني التأسيسي. ففي حين يقتضي الامرعدد 1086 لسنة 2011 أن المجلس يتولى، فقط، اعداد دستور للجمهورية التونسية في أجل أقصاه سنة، يقتضي الفصل الثاني من القانون التأسيسي عدد 6 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية أن المجلس يقوم اضافة الى اعداد الدستور، و في الوقت نفسه، بممارسة السلطة التشريعية و الرقابة على عمل الحكومة، هذا بالاضافة طبعا الى انتخاب رئيس المجلس الوطني التأسيسي وانتخاب رئيس الجمهورية، و هما مهمتيْن قد فرغ المجلس منهما منذ بداية ولايته. و أمام المهام الكبيرة التي أسندت للمجلس وفقا للقانون المؤقت المنظم للسلط العمومية بالمقارنة مع مهمة واحدة أسندت له من طرف الامرعدد 1086 لسنة 2011، يصبح من غير المستصاغ قانونا الحديث عن الفصل 6 من هذا الامر باعتبار أن هذا الاختصاص هو مشمول بالفصل 2 من القانون المؤقت المنظم للسلط العمومية و يزيد عليه. لذلك فلا يمكن منطقا و لا واقعا و لا قانونا أن نطلب من المجلس الوطني التأسيسي الانتهاء من كتابة الدستور في أجل أقصاه سنة و القول بأن بقاءه بعد هذا التاريخ يعتبر غير شرعي و مخالف للقانون و ذلك بالنظر الى أن السنة المحددة في الامرعدد 1086 لسنة 2011 لا تنطبق على واقع الحال نظرا لقيام المجلس بالموازاة بمهام تشريعية و قانونية أخرى تتجاوز بكثير ما نص عليه الامر المذكور.
و في هذا الاطار نود أن نؤكد أنه على من يريد أن يشكك في هذا الرأي و يتمسك بمنطوق الفصل 6 من الامرعدد 1086 لسنة 2011، فعليه أن يطالب بالغاء كل القوانين و المعاهدات و المؤسسات و التدابير التي اتخذها المجلس الوطني التأسيسي أو قام بانشاءها، باعتبار أن الفصل 6 من الامرعدد 1086 لسنة 2011 لم ينص عليها و انما نص فقط على كتابة الدستور دون غيرها من المهام. و في هذا الصدد، يمكن أن نجزم بأنه لا يمكن لأي رجل قانون أو سياسة أن يأتي بحجة تدحض هذا القول و من كان يرى في رأيه الحجة و البينة على خلاف ذلك من جهابذة القانون الذين علا صيتهم مؤخرا في تونس، فسنكون مسرورون لسماع أو قراءة مواقفهم و تحاليلهم.
الاستئناس بقواعد التفسير و النأويل الدولي
و بالنظر الى الحاجة الى دعم موقفنا هذا باالمؤيدات و الحجج القانونية، خصوصا بالاستناد الى قواعد القانون الدولي العام و ما استقر عليه فقه القضاء الدولي الذي يمكن الاستئناس به في واقع حالنا في تونس، خاصة بالنظر الى الفراغ القانوني على المستوى الوطني التونسي، فاننا نرى من المفيد الاسترشاد و الاستئناس بقواعد التفسير و النأويل الدولي خصوصا تلك الواردة في اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لسنة 1969 فيما يمكن أن تنطبق على الواقع الدستوري التونسي. و في هذا الاطار يمكن أن نخلص الى المسائل التالية:
- يمكن اللجوء في تفسير القواعد القانونية الى عناصر تكميلية بما في ذلك الأعمال التحضيرية للقوانين وملابسات وضعها اذا كان المعنى غامضاً أو غير واضح، أو يمكن أن يؤدي إلى نتيجة غير منطقية أو غير مقبولة، أو أن يكون استمرار تطبيق النص مجحفا (المادة 23 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات)
- يعتبر القانون لاغيا إذا تم سن قانون لاحق يتعلق بذات الموضوع ويحقق أحد الشرطين الآتيين: أولا: أن يظهر في القاون اللاحق ( في واقع حالنا القانون المؤقت المنظم للسلط العمومية)، أو ثبت بطريقة أخرى أنه قد قصد أن يكون الموضوع محكوماً بهذه القانون الجديد، و هو ما قصده المجلس. ثانيا، اذا كانت نصوص القانون اللاحق غير متمشية مع نصوص القانون الأسبق لدرجة لا يمكن معها تطبيق القانونين في الوقت ذاته. (المادة 59 من اتفاقية فيينا).
- يمكن اعتبار القانون الأسبق قد أوقف تطبيقه إذا ظهر من القانون اللاحق أو ثبت بطريقة أخرى أن نية الأطراف كانت كذلك (الفقرة االثانية من المادة 59 من اتفاقية فيينا).
- ظهور حالة تجعل التنفيذ مستحيلاً. اذ يجوز الاحتجاج باستحالة تنفيذ القوانين كسبب لانقضائها إذا نجمت الاستحالة عن زوال أو هلاك أمر لا يستغني عنه لتنفيذها. و معلوم أنه لا يمكن و لم يكن بالامكان للمجلس أن يستغني عن ممارسته السلطة التشريعية و سلطة الرقابة على عمل الحكومة و الا انزلقت البلاد الى دكتاتورية مخيفة، كما سبق و أن اسلفا (المادة 61 من اتفاقية فيينا).
- إذا ظهرت قاعدة آمرة جديدة فان أية قاعدة قانونية نافذة، سابقة، تتعارض معها تصبح باطلة وتنقضي ( المادة 64 من معاهدة فيينا).
هذا على مستوى التحليل و التاسيس القانوني، أما فيما يتعلق بالجانب السياسي، الذي يبدو أنه هو الباعث أساسا على الدعوات غير المسؤولة لتقديس تاريخ 23 اكتوبر 2012 كنهاية لعمل المجلس الوطني التاسيسي سواء أتم المجلس مهمة كتابة الدستور أم لا، فاننا نعتقد أن هذا الموقف غير القانوني كما سبق و أن بينا، لا ينم عن وعي و لا عن حس سياسي مسؤول. بل على أغلب الظن فان هذا الموقف الاخير انما ينبغي فهمه ضمن اطار استراتيجية الفوضى المنظمة التي تتوخاها للاسف بعض الاطراف السياسية و الاجتماعية منذ الاعلان عن نتائج انتخابات 23 اكتوبر 2012. حيث أن هذه الاطراف لم تقبل يوما بنتائج الانتخابات و هي منذ أول يوم كانت قد قررت و شدت العزم على ان تعرقل أي تقدم في مجال التنمية و الاصلاح في البلاد. حيث تم على سبيل المثال الحديث عن شهر مارس 2012 كأجل لاسقاط الحكومة، ثم بعد ذلك تواطؤوا على شهر جوان 2012 لاسقاط الحكومة من جديد، ثم هاهم الآن في الثلاثي الثالث يقررون اسقاط الحكومة عن طريق انقلاب دستوري في 23 اكتوبر 2012.
كما تجدر الاشارة الى أن النية المبيتة لارباك عمل المجلس التاسيسي، وجره الى نقاشات حول مواضيع جانبية، و فرض مواضيع لا تهم الشعب في شيء على أجندته، بالاضافة الى الجو السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي الصعب الذي تتملكه الاحتجاجات و الاعتصامات و الوقفات الاحتجاججية و المسيرات و العنف المنظم، الخ، لم ييسر في شيئ عمل المجلس الوطني التأسيسي و لا أداء الحكومة.
كما أننا لا نستبعد أن المراد من نزع الشرعية عن المجلس الوطني التأسيسي و من ثم الحكومة، انما يهدف الى منع الحكومة من تنفيذ برامج التنمية التي تم اقرارها والشروع فيها، وذلك لان الاطراف المشاغبة لا يرضيها ان ترى الحكومة تحقق بعضا مما وعدت به شعبنا. أضيفوا الى ذلك أن الاطراف التي استفادت من بطئ عمل الحكومة و ترددها و ضعف اداءها في العديد من المجالات، أصبحت تخشى على نفسها من المحاسبة و المساءلة القانونية بعد أن كثر الحديث و تعالت الاصوت مؤخرا بضرورة أخذ زمام المبادرة من جديد و استكمال تحقيق اهداف الثورة.
لذلك فانكم ترون القوم يتنادون الى ناديهم و أربابهم تحت قبة نداء تونس، دار الندوة، و يكيدون و يمكرون و يخططون ويسعون الى القضاء على الثورة، وليست الحكومة فقط أو المجلس التاسيسي كما يعتقد البعض. ان الهدف الرئيس من وراء هذه التحركات هو سعي المفسدين و المجرمين الى المحافظة ما أمكن عن امتيازاتهم غير الشرعية و الافلات من العقاب و رفضهم الخضوع للمحاسبة والمساءلة القانونية. فلكم أن تتصوروا مصير هؤلاء لو تمكن المجلس الوطني التاسيسي من اعتماد القوانين الاساسية المتعلقة بالعدالة الانتقالية و محاسبة الفاسدين ووضع مؤسات الدولة و الانتهاء من وضع دستور تقدمي للبلاد التونسية يضمن الحقوق و يقطعع مع ثقافة الافلات من العقاب.
ان استعجال انهاء صلوحية المجلس الوطني التأسيسي و من وراءه القذف بالحكومة و رئاسة الجمهورية في غياهب عدم الشرعية انما يهدف للضغط على المؤسسات الدستورية الشرعية و اضطرارها للتفاوض و القبول بمنطق التوافق الذي سيؤدي حتما الى تحسين قدرة الفاسدين و المتورطين في جرائم ضد الشعب على التفاوض من أجل المحافظة على امتيازاتهم و الافلات من العقاب والمساءلة، و من ثم العودة من أكبر باب لحكم البلاد و التحكم في رقاب الشعب الذي اساموه سوء العذاب لعقود خلت. ان سعي هؤلاء انما يذكر بحالة الغارق الذي يوشك أن يغرق فيتمسك بأي شيئ للنجاة. أو الثور الذي يحاصر من كل مكان فيجمع قواه و يهجم مع ادراكه لفشله سلفا. او ربما فريق القدم الذي يوشك أن يخسر المقابلة فلا يبق له سوى المناورة و الاندفاع بتشنج نحو تعديل النتيجة أو على الاقل الخروج بأقل الخسائر. لقد ابتلينا بالكثير من بني شعبنا ممن لا مروءة له ولا شعور بالمسؤولية. و للاسف فان هؤلاء مستعدون لحرق العباد و اغراق البلاد نكالة في الشعب و من انخبهم الشعب. نرجو أن يتفطن الجميع لكيدهم و ردهم على أدبارهم كي ينقلبوا خاسرين.
أحمد الصغير
Comments
22 de 22 commentaires pour l'article 54311