قيس سعيد واتحاد الشغل.. مرحلة تقدير أثمان خيارات الهدنة والموالاة والمفاصلة

لطفي الحيدوري
صحفي وباحث تونسي .
صحفي وباحث تونسي .
مضى عام كامل على طرح الاتحاد العام التونسي للشغل، في بداية ديسمبر 2020، مبادرة من أجل تنظيم حوار وطني، يراها طريقا للخروج من الأزمة السياسية والاقتصادية التي بدأت تحتدم في البلاد وتنذر بتوتر سياسي واجتماعي لا تحتمله البلاد في ظل انتشار وباء كورونا. ولذلك اقترح اتحاد الشغل رؤية من أجل إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، وكانت وجهة المبادرة الأولى وثيقة مسلّمة إلى الرئيس قيس سعيد.
كانت منظمة الشغيلة تستحضر عند إعدادها لوثيقة المبادرة، الأزمة التي عصفت بالبلاد سنة 2013 وكادت تجهض المسار الانتقالي وتفكك الوحدة الوطنية.
ورغم صعوبة المقاربة بين الأوضاع السابقة وبين الأزمة التي بدأت تلوح صيف سنة 2020، نظرا للاستقرار الأمني وتنظيم عدة انتخابات تشريعية ورئاسية وبلدية، وضعت تونس على سكة التداول السلمي على السلطة، والتوجه نحو الإنجاز الاقتصادي والاجتماعي الذي طال انتظاره.. لكن قيادة المنظمة استشعرت بخبرتها التفاوضية الطويلة، وعبر لقاءاتها مع مختلف الفاعلين في مؤسسات الدولة من رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس نواب الشعب ورئاسة الحكومة، وغيرها من اللقاءات، أنّ البلاد مقدمة على أزمة قد تكون أعقد، وقد تكون تأثيراتها على الطبقة الشغيلة أشد وطأة.
لكنّ الجواب "القاسي" لم يكن متوقعا من رئيس الدولة، على هذه المبادرة التي جمّدها شكلا ومضمونا لستة أشهر، قبل أن يدعو إلى "شكل جديد من الحوار ليس كسابقه"، واعتبر الاستشهاد بالحوار الوطني لسنة 2013 باطلا لأنّه "لم يكن وطنيا"، في إشارة إلى تدخل خارجي مفترض، وهو ما استوجب ردّ حاسما من الأمين العام نور الدين الطبوبي: "من لا يحترمنا لا نحترمه مهما كان موقعه". فخفّف سعيد من عباراته مشيرا إلى أنّه يقصد حجم المشاركة في الحوار الوطني السابق. وكان ذلك أسابيع معدودة قبل أن يفاجئ الجميع بقرار القطيعة وإعلان الإجراءات الاستثنائية يوم 25 جويلية الماضي، وينفرد بجميع السلطات ليصبح المخاطب الوحيد. ومع ذلك لم يعلن القطيعة مع اتحاد الشغل فكان أوّل المدعوّين إلى قصر قرطاج، ضمن رسائل طمأنة للمنظمات الوطنية، استجاب لها الاتحاد العام التونسي للشغل، بل إنّ نور الدين الطبوبي أعلن دعمه لقرارات 25 جويلية ودعا رئيس الجمهورية إلى ضبط خارطة طريق واضحة للفترة القادمة، والتسريع بتعيين رئيس حكومة، ثم انكبّ الاتحاد على إعداد خارطة طريق للخروج من الأزمة، لم يختلف ردّ سعيّد عليها عن ردّه على ورقة الحوار الوطني، فدعا من يتحدثون عن خارطة طريق إلى "العودة إلى كتب الجغرافيا"، مؤكدا أن "الخارطة الوحيدة التي سيسلكها هي التي سطرها الشعب. وردّ الطبوبي أنّ الحل للأزمة السياسية هو "بناء مشروع وطني يؤمن به الجميع"، وأنّ الاتحاد لن يقبل بالحوار تحت خيمة "لجان شعبية".
المفاصلة السياسية
يقول نور الدين الطبوبي إنّه لم يمنح صكا على بياض لقيس سعيد، بل طالب بعدم إطالة الفترة الاستثنائية، خاصة أن فيها عطالة للدولة، في ظل استحقاقات اجتماعية واقتصادية كبيرة للشعب التونسي. لكنّ قيس سعيد لم يوضح رؤيته المستقبلية في أي اتجاه يسير بتونس، عدى التمسك بتكرار شعارات "الشعب يريد" و"تطلعات الشباب".
ويبدو أنّ قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل ترفض أن تكون في صف "موالاة" لقصر قرطاج، أو حتى أن تحسب كذلك. وهي صورة ما كادت المنظمة النقابية تتخلص منها بانهيار حكم زين العابدين بن علي، عندما كانت المنظمة مزكية لحكمه ومهادنة لخياراته الاجتماعية محتوية لسقف الحراك النقابي. وقد بدأ يتردّد في أوساط المراقبين السياسيين وحتى داخل الصف النقابي، توجّس من أنّ قيادة المنظمة وهي مقبلة على المؤتمر العام بما سيحمله من جدل حول الفصل 20 المتعلق بتمديد ترشحات القيادة الحالية، قد تمضي نحو تنازلات لفائدة قيس سعيد، وهو ما فنّده نور الدين الطبوبي يوم 29 سبتمبر الماضي أمام نقابيي بك الإسكان، مؤكّدا أنه لا يختار المواجهة بل يتخذ مسافة خيارات توجهات وخيارات، لا تصطف مع المعارضة ولا مع الرئيس، وأنّ "مثل هذا العهد ولى وانتهى والعمّال لن يكونوا حطب نار". وأضاف: "إما أن نكون كلنا في الوضوح ونكون شركاء في الوطن وفي بناء خياراتنا، وإما أن يكون قدرنا النضال السلمي من أجل تعديل البوصلة حول الخيارات الوطنية الصرفة".
ويتكرر في تصريحات القيادة النقابية لاتحاد الشغل الدفاع عن موقع المنظمة باعتبارها شريكا معترفا به من قبل من يحكم. بل إنّ القيادة النقابية استحسنت الموقف الأمريكي الذي عبّر عنه السفير دونالد بلوم للطبوبي بمقر الاتحاد، يوم 1 نوفمبر الحالي، عندما "أكد بلوم استعداد الولايات المتحدة لدعم تونس والمؤسسات الديمقراطية وتشريك الاتحاد العام التونسي للشغل في هذا المسار، خاصة في المجال الاقتصادي الذي يطلب الإسراع في حلول عملية وفي المفاوضات مع المؤسسات الدولية وإخراج تونس من الوضع الصعب الذي يمر به الاقتصاد الوطني".
ويبدو أنّ خشية الاتحاد العام التونسي للشغل، هو أن يتحوّل "البناء القاعدي" الذي ينظّر له قيس سعيد إلى قاعدة الحوار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والقانوني في البلاد، بما يزيح مكانة المنظمة التاريخية ويفرض أمرا واقعا يستقوي بالخطاب الشعبوي الذي يمكنه عندما يتوجب الأمر تعبئة الحشود "لتطهير البلاد" إن اقتضى الأمر من المنظمات التي سينتهي دورها بفضل "الفكر السياسي الجديد".
وهذه الخشية هي التي تفسّر تأكيد الطبوبي أنّه لا ديمقراطية دون أحزاب ومنظمات، وأنّ الشباب الذي يتحدث عنه قيس سعيد موجود ومنتظم داخل هذه الهياكل المدنية والسياسية.
الاستبداد الناشئ وعقدة الاتحاد
لا يعترف الخطاب الشعبوي العنيف المتنامي في تونس، ويغرق الشبكات الاجتماعية في الصراعات، بدور المنظمات ولا الأحزاب، غير أنّه ليس بمقدور التوجه الشعبوي والاستبدادي فسخ دور الاتحاد مرحليا أو عدم الاعتراف به، مثلما نجح تأثير الخطاب ضدّ الأحزاب.
إنّ صعوبة ضرب الاتحاد العام التونسي للشغل حاليا، تعود إلى قدرته التنظيمية والتعبوية، وإلى التمكين النقابي الإداري والجهوي والمحلي، فلا سبيل إلى ذلك الهدف البعيد، إن لم تتوفر الفرصة لضرب الاتحاد، إلاّ السعي مثلا إلى تفكيكه وضرب وحدته الداخلية، مثلما وقع لأغلب المنظمات والجمعيات تحت حكم الاستبداد. ولا يُستبعد أن تفتعل الملفات أو تفتح القضايا القديمة المتروكة لوضع المنظمة النقابية تحت طائلة شعار "التطهير" من الفساد، وقد يكون العمل النقابي عنوان "الخطر الجاثم" في مرحلة ما، صعبة، قد تدخلها البلاد بعد إزاحة الأحزاب من خط المواجهة مع طموحات قصر قرطاج. ولذلك فإنّ تأجيل المواجهة مع الطرف النقابي هو ما يفسّر استراتيجية ربح الوقت التي يسلكها قيس سعيد مع اتحاد الشغل منذ أن طرح مبادرة الحوار الوطني في صيغتها الأولى في ديسمبر 2020.
فالسلطة المستبدّة تقدّر دائما أيّ القطاعات أو الكيانات الأكثر قدرة على المواجهة فتؤجل مرحليا مصادمتها، وتشرع في تنفيذ سياساتها تدريجيا. وفي الحالة التونسية لا يمكن إضعاف المنظمة الشغيلة ذات القاعدة الواسعة المتنوعة اجتماعيا وسياسيا وفئويا، إلاّ بضرب قدرتها التمثيلية والتفاوضية، التي بدأ العمل عليها قيس سعيد عبر سياسة ربح الوقت والمناورة و"الإهانة" أحيانا.
إنّ حلم الشعبوية اليوم في تونس، هو أن يكون الاتحاد العام التونسي للشغل رافدا من روافد "المنظمات القومية"، مثلما كان الأمر في العهد البورقيبي، على غرار اتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين والاتحاد النسائي، ثم بسياسة الإخضاع بالقوة في عهد بن علي، وذلك من أجل تمرير كل سياسات البنك الدولي والجهات الدولية المانحة، ثم المرور إلى مرحلة البيعة والمناشدة.
ولقد أبان الخطاب الشعبوي، المعادي للحريات، عن مدى الكراهية للتنظّم المدني الديمقراطي بدءا بالأحزاب والبرلمان والانتخابات وصولا إلى المنظمات التي تعمل "التنسيقيات" الشعبوية الناشئة على شطبها من دور الوسيط في علاقة المجتمع بالدولة، وتعادي كل مطلبية قد تضعف "مشروعية" الانفراد بالحكم. وهذا ما يفسّر العداء للديمقراطية والحملات التفسيرية المروّجة لأزمة الديمقراطية التمثيلية، بهدف التمهيد لخلق مناخ دون "ردع" ديمقراطي عماده المنظمات والجمعيات والأحزاب والبرلمان، وقد يكون لا وجود لتصوّر مكان للعمل النقابي فيه.
وفي تلك المرحلة لن يكون أمام المنظمة الأولى تنظّما إلا الاحتماء بقاعدتها الواسعة وعدم المساومة على المناخ الديمقراطي، الذي يغذّيها تنظيميا، ويشكل من حولها قوى حيّة أخرى تدافع عن المجتمع أمام تغوّل الدولة والفرد الحاكم.
Comments
2 de 2 commentaires pour l'article 236657