هل بات الغنوشي عبئا على حركته؟

بقلم: شكري بن عيسى (*)
الكل تقريبا داخل مقر مونبليزير صار يلمح التضخّم المتعاظم لنوازع "الشيخ" نحو الرئاسة، وحتى "جزم" الحمامي ذات ليلة في برنامج على قناة "التاسعة" في فيفري المنقضي بأن رئيس حركته "لن يترشح للرئاسة" قابله توبيخ صاعق من الغنوشي وحاشيته الخانقة، الى حد أن "الناطق الرسمي" حينها صار يتنقل من مكتب الى مكتب لتبرير فعلته "الشنيعة" وتأكيد "عدم العود"، ومع ذلك وجدنا بعد اسابيع فقط ناطقا رسميا جديدا للحركة، وحوار البارحة على قناة "نسمة" لم يأت بجديد تقريبا سوى تأكيد تعاظم الرغبة نحو قرطاج بل حسم القرار من زعيم النهضة في الخصوص بشكل شبه نهائي.
الكل تقريبا داخل مقر مونبليزير صار يلمح التضخّم المتعاظم لنوازع "الشيخ" نحو الرئاسة، وحتى "جزم" الحمامي ذات ليلة في برنامج على قناة "التاسعة" في فيفري المنقضي بأن رئيس حركته "لن يترشح للرئاسة" قابله توبيخ صاعق من الغنوشي وحاشيته الخانقة، الى حد أن "الناطق الرسمي" حينها صار يتنقل من مكتب الى مكتب لتبرير فعلته "الشنيعة" وتأكيد "عدم العود"، ومع ذلك وجدنا بعد اسابيع فقط ناطقا رسميا جديدا للحركة، وحوار البارحة على قناة "نسمة" لم يأت بجديد تقريبا سوى تأكيد تعاظم الرغبة نحو قرطاج بل حسم القرار من زعيم النهضة في الخصوص بشكل شبه نهائي.
الحوار الذي امتد على مدى ساعة واحدة أكد أن الغنوشي لازال "وفيا" لنفسه، يكرر نفس المقولات والشعارات التي صارت مستهلكة ودون فعالية ولم تغيّر من واقع البلاد البائس، مركّزا على "المصالحة الشاملة" و"التوافق" و"الاستثناء التونسي الوحيد في العالم العربي"، الشعارات التي اعادها مئات المرات في كل لقاءاته وتصريحاته وندواته وحواراته، الى حد انه يمكنك توقّع كل شيء في العالم الاّ كونه لا يذكرها عند ظهوره.

والفقر المضموني والشعاراتي والبرامجي كان صارخا في الحوار، وكشف محدودية اكبر الفاعلين السياسيين في المشهد الوطني في ابتداع وابتكار البدائل والخيارات وفي خلق رؤية عميقة واضحة للخروج من المأزق الحاد الذي تعيشه البلاد، وعاد بنا الى مقولات بالية جوفاء تستحضر خطب مزالي في ربط الاجر بـ"الانتاج والانتاجية"، راميا بالمسؤولية على "الاخر" الاول الذي وصمه بـ"الاقصائي" و"الاخر" الثاني الذي رماه بالمتاكسل الباحث عن "مسمار في حيط"، لمقولات مجترة جوفاء لم يعد لها معنى اصلا.
وخلى الحوار من معاني ودلالات وغايات عميقة وبعث للامل للتونسي المنهك من قلة ذات اليد والفاقد للثقة (في جزء عالي) في دولته، مكتفيا بتاكيد عدم علاقة النهضة بالاخوان المسلمين، وبتخليها عن "الاسلام السياسي" وبانها "اسلام ديمقراطي"، والرسائل على الاغلب كانت شخصية بحته، بارتداء ربطة عنق لاول مرة في ظهور تلفزي بعد الثورة، وطلبه من الشاهد عدم الترشح في مواعيد 2019 محذرا اياه من تكرار ما كان سيغرق فيه جمعة في 2014، وكأن اليوم الحلّ الوحيد للانسداد الحاصل في البلد يتمثل في ترشح او عدم ترشح الشاهد للرئاسيات القادمة.
والدعوة اليوم الى "حوار وطني اجتماعي للتوافق حول طرق ايجاد الحلول المناسبة للازمة الاقتصادية الحالية" كانت المخرج الوحيد (لقائد سياسي يسوّق نفسه لقرطاج) للتفصي من مسؤولية حزبه في التأزم الحاصل وللهرب من تقديم حل لا هو ولا حزبه قادرين على تقديمه، والحوار كشف بالفعل محدودية الرجل في المجال الاقتصادي الذي يشكّل نقطة الضعف الكبرى، لزعيم حركة دعوية في الاصل وجدت نفسها اليوم في معمعة الاقتصاد والعلاقات الدولية والتحديات الامنية والجيواستراتيجية بفقر واضح في الرصيد البرامجي والتجربة.
واليوم برصيد حكومي متآكل ووضع حزبي ممزق ورصيد ثقة حسب استبيانات الراي ضحل جدا، يبدو على الواضح ان الغنوشي بل الاحرى بطانته المقربة اختارت الهرب الى الامام نحو قرطاج عبثا، والحلم بمجد تليد لن ياتي ولن يتحقق ليس لوجود اعتراضات خارجية كبرى على الغنوشي فقط، بل لان حزبه في اغلبه يعلم انعدام حظوظه الشعبية وهو المعترض الاول في الخصوص، والامر سيزيد في الشرخ الداخلي الحاصل في النهضة والذي وصل الى حدود قصوى لولا ضبط الامور في كل مرة.
الغنوشي في استبيانات الراي المتواصلة يصنف في الموجة الاخيرة بين الذين يثق فيهم الشعب لقيادة البلاد، مع حافظ نجل السبسي والهاشمي الحامدي وبقية الفاقدين للثقة الشعبية بنسب اقل بكثير من حاجز 10%، وشخصيته الغامضة المتناقضة زادت في توتر علاقته بالقاعدة المنتخبة، ويعتبر متأخرا كثيرا على نوايا التصويت لحزبه الذي يراوح بين 20% الى 35%، ومن المؤكد انه من بين عناصر غياب ثقة الناخب في الحزب.
الضغط الخارجي والضغط الداخلي من منظومة الفساد السابقة (المتواصلة حاليا) استغل الى حد بعيد ارتباك الغنوشي السياسي ورغبته الجامحة نحو الرئاسة وفرض عديد التنازلات، والنهضة باتت اليوم بعيدة بمواقف زعيمها التاريخي وحاشيته عن مرجعياتها المبدئية في خصوص القضية الفلسطينية والاسرة (المثلية الجنسية وغيرها..) وفي مكافحة الفساد والمحاسبة، وجعلها تخسر النقاط الثمينة لفائدة خصوم سياسيين صاروا يحرجونها في العمق ويفضحون مواقفها المرتبكة والمتضاربة في الخصوص.
اردوغان في تركيا مثّل قطيعة مع اربكان وصالح بين القيم والمبادىء وبين الاجتماعي والاقتصادي، ومارس الحكم المحلي قبل ان ينتقل الى السلطة في الحكومة والرئاسة، ومنجزاته الاقتصادية والاجتماية رسّخت نفوذه كما ان تناسقه ووحدة خطابه زادته قبولا برغم التدهور في الحريات العامة، والحقيقة ان اردوغان يتميز على الغنوشي بملكة الخطابة وحضور البديهة والجمع بين الديني والسياسي والاقتصادي والدولي الذي انبنت عليه دولة تركيا الجديدة من خلال "العمق الاستراتيجي" الذي نظّر له داوود اوغلو، وهو ما يفتقده في العمق الغنوشي الذي فرّق داخل حزبه.
والمتخلي عن الجبة لفائدة ربطة العنق باختياره الهروب من ازمة حزبه ومواجهة معارضة متصاعدة داخل بيته السياسي نحو قرطاج عبثا، لن يحقق على الاغلب لا هذا ولا ذاك وسيزيد في تازيم الامور، واستعادة الاستقطاب الايديولوجي في رئاسيات 2019، ومزيد تقسيم التونسيبن على اساس مقولات "النمط المجتمعي"، وفشله على الاكثر سيعمق في ازمة محتدة على المواقع والنفوذ، في غياب تصورات ورؤى استراتيجية مستقبلية لحزب يسير نحو افق غير واضح بالمرة في سياق اقصاء للشباب والكفاءات، لا يزال يدار بمنطق الولاءات والشبكات.
وانتهاج سياسة عدم مواجهة الحقيقة بالهرب الى الامام دون دخول في عمق المشكل من قائد سفينة يمتلك كل خيوط اللعبة المالية الداخلية والدولية وربط مصير الحزب بنزعاته ومصالحه الشخصية يرهن الحزب في وضعية دقيقة قد تتفجر في اي وقت بحصول هذا الحدث او ذاك داخليا او خارجيا.
ونعيد السؤال اليوم بقوة دون انتظار جواب لن ياتي بوضوح لا من هذا الشق ولا من ذاك لانعدام الجرأة في المقاربة ولانعدام الخيارات البديلة للطرفين: "هل بات الغنوشي عبئا على حركته"؟
(*) قانوني وناشط حقوقي
Comments
7 de 7 commentaires pour l'article 145989