بين الفصلين 98 و89 من الدّستور

إبراهيم البَرتاجي
أستاذ تعليم عال في القانون العامّ
أستاذ تعليم عال في القانون العامّ
لا شكّ أنّ قراءة الدّستور بنيّة البحث جاهدا، لسبب أو لآخر، عن مواطن الضّعف والغموض والتّناقض هي قراءة فيها غشّ، والغشّ يُفسد كلّ شيء. فالنّصوص القانونية محمولة على أنّ من وضعها يعي ما يقول وأنّه لم يقصد البتّة أن ينصب فخاخا لمن سيكون مدعوّا لتطبيقها ولا أن يضعه في ورطة يصعب الخروج منها. لكن البعض يصرّ، بصفة غريبة، على اختلاق كلّ ما من شأنه أن يقنع بأنّ النّصّ سيّئ وأنّ من وضعه لا يحسن صياغة النّصوص! وفي كلمة، إذا كان هنالك خلل، فهو غالبا في ذهن بعض الملاحظين الّذين يرفضون فهم النّصّ كما هو وتأويله حسب القواعد العلمية للتّأويل الّتي أقرّتها مجلّة الالتزامات والعقود.
وفي خصوص الدّستور بصفة خاصّة، إذا قرأناه من منطلق سليم، سنرى أنّه على درجة كبيرة من الإتقان في الصّياغة ومن الانسجام بين الأحكام. وليس هذا بالأمر الغريب نظرا للمنهجية الجادّة الّتي تمّ اتّباعها عند صياغته وللمراحل المتعدّدة الّتي مرّت بها تلك الصّياغة. وبذلك، نفترض مبدئيا أنّه أقرّ حلولا منطقية لمختلف الفرضيات وأنّه لا وجود لوضعيات مأساوية، ولو في غياب هذه المؤسّسة الدّستورية أو تلك.
هذا ما يمكن أن نقوله مثلا عند قراءة الفصل 98 من الدّستور الّذي ينصّ على فرضية استقالة رئيس الحكومة ويعتبرها استقالة للحكومة بكاملها. ويبيّن الفصل أنّه، في هذه الحالة، " يكلّف رئيس الجمهورية الشّخصية الأقدر لتكوين حكومة طبق مقتضيات الفصل 89 ".
ينصّ الفصل 89 من الدّستور على محاولتين في خصوص تكوين الحكومة. تنطلق المحاولة الأولى مع التّرشيح الّذي يقوم به الحزب الفائز في الانتخابات التّشريعية. ويمكن أن يستغرق تجسيد هذه المحاولة الأولى مدّة شهرين. أمّا المحاولة الثّانية، فتنطلق بالمشاورات الّتي يقوم بها رئيس الجمهورية بغاية تكليف الشّخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة. ويتعيّن تجسيد هذه المحاولة في أجل شهر. وإذا تمّ استنفاد مختلف الآجال المنصوص عليها في هذا الفصل، نكون اقتربنا من أجل الأربعة أشهر الّذي يُحتسب من التّكليف الأوّل والّذي بمروره، يجوز لرئيس الجمهورية حلّ مجلس نوّاب الشّعب.
يتمثّل الإشكال في معرفة المقتضيات الدّستورية المضمّنة بهذا الفصل والّتي يتعيّن تطبيقها في حالة استقالة الحكومة، عملا بالإحالة المذكورة في الفصل 98 من الدّستور. قد يذهب التّفكير إلى الرّجوع إلى لفظة " الأقدر " الّتي نجدها في هذا الفصل والّتي ذكرها الفصل 89 في خصوص المحاولة الثّانية لتشكيل الحكومة. لكن تؤدّي هذه القراءة إلى نتائج يصعب قبولها، باعتبار أنّ هذه المحاولة لا تدوم سوى شهر، وهي مدّة قصيرة إذا أخذنا بعين الاعتبار مدّة الأربعة أشهر الواجب انتظارها قبل إمكانية المرور إلى حلّ البرلمان. يُضاف إلى هذا أنّه، حسب هذا النّصّ، يتمّ احتساب الأربعة أشهر انطلاقا من " التّكليف الأوّل ". فهذه العبارة تصبح دون معنى، إذا نحن سلّمنا بوجود تكليف واحد في خصوص فرضية استقالة الحكومة.
في الحقيقة، لا شيء يدلّ على أنّه، حسب الفصل 98 من الدّستور، عند حصول هذه الفرضية، يتمتّع رئيس الجمهورية بفرصة واحدة لتكليف الشّخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة. ولو أراد النّصّ ذلك لذكره بصريح العبارة، كأن ينصّ على انطباق الفصل 89 بداية من فقرته الثّالثة. أمّا وقد جاءت الإحالة إلى الفصل 89 بشكل عامّ، فلا يمكن أن نستثني من مقتضيات هذا الفصل إلّا ما يتعارض بداهة مع فرضية الاستقالة.
وبالرّجوع إلى الفصل 89، نجد أنّ الاستبعاد لا يمكن أن يطال إلّا الإجراء اللّصيق بالانتخابات التّشريعية والمتمثّل في التّرشيح الّذي يقوم به الحزب الفائز. في ماعدى ذلك ينطبق الفصل، في حالة الاستقالة، بمختلف المراحل الّتي ينصّ عليها. ويكون بذلك الفرق الأساسي بين فرضية الانتخابات وفرضية الاستقالة هي نقطة انطلاق إجراءات التّكليف الأوّل الّذي يقوم به رئيس الجمهورية. ففي حين أنّه في الفرضية الأولى، تنطلق هذه الإجراءات بالتّرشيح الّذي يقوم به الحزب الفائز، فإنّه في الفرضية الثّانية، تنطلق هذه الإجراءات بتقديم الاستقالة.
وبذلك، في حالة استقالة الحكومة، يتمتّع رئيس الجمهورية بفرصتين لتكليف الشّخص الّذي سيكوّن الحكومة الجديدة. ومن الطبيعي أن ينطلق التّشاور منذ التّكليف الأوّل تماشيا مع روح الفصل 89 في هذا الخصوص ومع ما نصّ عليه الفصل 535 من مجلّة الالتزامات والعقود الّذي جاء به : " إذا تعذّر الحكم بنصّ صريح من القانون اعتبر القياس فإن بقي شكّ جرى الحكم على مقتضى القواعد العامّة للقانون ". وبعد التّكليف الأوّل الّذي يمكن أن يدوم شهرين، يمكن أن نمرّ إلى التّكليف الثّاني، إلى آخر الإجراءات المنصوص عليها صلب الفصل 89 من الدّستور.
بهذا الفهم، لا نصل إلى إمكانية حلّ مجلس نوّاب الشّعب إلّا بعد القيام بمحاولتين لتكوين الحكومة وبعد فترة زمنية تجعلنا نقترب من مدّة الأربعة أشهر المذكورة في الفصل 89. وهو ما يسمح بالمحافظة على الصّبغة الاستثنائية لحلّ البرلمان، كما أرادها الدّستور. فلا ننسى أنّه، حتّى في صورة فشل المحاولة الثّانية لتكوين الحكومة، يبقى حلّ البرلمان مجرّد إمكانية متاحة لرئيس الجمهورية. وهو ما يفهم من عبارة " لرئيس الجمهورية الحقّ في حلّ مجلس نوّاب الشّعب ".
Comments
0 de 0 commentaires pour l'article 207549