كلام على هامش أزمة التعليم

بقلم حامد الماطري
تعيش بلادنا منذ سنوات على وقع حلقة جديدة من مسلسل الأزمات المتواصل منذ سنتين في قطاع التّعليم، والذي يلعب دور البطولة فيه وزير التربية ناجي جلّول، ومعه ثلّة من نجوم نقابات التّعليم والمكاتب التنفيذية والإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل.
قبل كلّ شيء، من المهمّ جدّاً أن نتّفق على التّشخيص، ولا أعتقد أنني أقدّم هنا شيئاً جديدا حين أقول أنّ أزمة التعليم أعمق من أن نحصرها في صراع بين الوزارة والنّقابة، بل تحمل أبعاداً تتعدّى الزمن الرّاهن وتعود إلى قرابة ربع القرن، لتتلخّصبالذّاتفي 3 محاور:
1. التّعليم في تونس تعليم تلقيني ومنغلق، ضعيف من النّواحي الثّقافيّة والقيميّة، يشجّع على الاختصاص بشكل عقيم، في عصر أصبحت الكفاءةتتطلّب مقاربة شاملة ومنفتحة.
2. تعليمنا في قطيعة غريبة مع حاجات الشّارع، ومع تطلّعات سوق الشّغل، ومع باقي العالم بل وحتى مع مستجدّات العصر ومراكز العلم والتكنولوجيا والأدب والفكر المعاصرة، فبقي حبيساً في ثنائيّة اللّغتين العربيّة والفرنسيّة ولعبة التّناسخ والتنافس بينهما في الآن ذاته..
3. المقاربة التي تعتمدها مناهجنا التعليمية وطريقة تقديمها لا تصنع المواهب ولا تشجّع على التّألّق، بل بالعكس تحجّم الخيال وتخنق الفكر النّقدي لتكرّس للرّتابة، فتغرس عند التّونسي ثقافة"عشرة الحاكم" بمختلف أبعادها، تلك التي نجدها لاحقاً منتشرة في كلّ المجالات وكلّ المستويات..
أعدّد هاته المشاكل حتّى أبرز كم هي بعيدة عن النّقاط التي يتمحور حولها النّزاع اليوم.
مشاكل التّعليم التّونسي هيكليّة ومنهجيّة وعميقة، ولا عجب إذاً أنّ أغلب التّونسيّين اتّفقوا على كون إصلاح التّعليم أحد أوكد أولويّات ما بعد الثّورة. كيف لا وقد أيقن الجميع أنّه صار أحد عناصر الأزمة، فاستحال مصنعاً لشباب عاطل عن العمل، لا هو يستجيب لحاجيّات سوق الشّغل ومتطلّباته، ولا هو بقادر على إيجاد حلول لنفسه باستنباط مشاريع أو فتح آفاق ذاتيّة.

المؤلم، هو أنّه في الوقت الذي كنّا نتهيّأ فيه للدخول في برنامج إصلاحي، عرف قطاع التّعليم العمومي في تونس أحلك أيّامه على امتداد السّنوات السّتّ الأخيرة، دقّت خلالها نواقيس خطر عديدة.
للأسف -أعجب هذا النّقابيّين أم لم يعجب- لا يمكن فصل نقابة التّعليم عمّا يحصل، فهي التي بدأت في الإضرابات العشوائيّة -المنسّقة- منذ يوم الخميس 20 جانفي، أي أقلّ من أسبوع على الثّورة وحين لم يكن في القصر حاكم يحكم (إضرابات مهنيّة لا علاقة لها بمطالب الثّورة) ... منذ ذاك التّاريخ لم يخلو ثلاثيّ دراسي من إضراب -أو إضرابات. و "ابتزّوا" سلط الإشراف المتعاقبة بالامتحانات، والأسابيع المغلقة، والعودة المدرسيّة، بل وبالامتحانات الوطنيّة، وصولاً إلى القرار "الكارثة" الذي أقدم عليه ناجي جلّول في 2015، في خضمّ عركة كسر العظام مع النّقابة التي تتواصل منذ تولّيه الوزارة، بأن "وهب" النّجاح للجميع من دون تمييز أو تقييم.

يتناسى البعض أيضاً أنّ جزءاً كبيراً من المشكل صنعه "ندائيّ" آخر هو الطّيّب البكّوش، عند تولّيه الوزارة في حكومة الباجي 2011، إذ أغدق بالصّلاحيات على النّقابة حتّى صارت شريكة كاملة الصّفة في الإدارة، فهي تسمّي المديرين وهي تتدخّل في... كلّ شيء. وهو بذلك زرع طريق من خلفه في الوزارة بشبكة واسعة من الألغام وجعلهم يعملون في ظروف شبه مستحيلة.
أقول هذا حتى أؤكّد مرّة أخرى على أنّ المشكلة لم تأتي مع ناجي جلّول، بل تواطئ فيها كلّ وزراء ما بعد الثورة -ربّما باستثناء سالم الأبيض. وبينما كنّا نأمل في الإصلاح الجذري، صار تسيير المرفق في حدّ ذاته أمراً أقرب إلى المستحيل مع السّلوك الأرعن الذي صارت تسلكه كلّ الأطراف – بلا استثناء.
نتيجة "العركة" التي دامت أكثر من اللازم، ولا نرى لها أفقاً قريباً، هي أكبر عمليّة "نزوح تعليمي" في تاريخ تونس، ولجوء كلّ من يقدر (أو لا يقدر) إلى المؤسّسات التّعليميّة الخاصّة، لا طمعاً في تعليم أفضل، بل إدراكاً منهم أنّ التعليم العمومي أصبح يعيش فوضى مزمنة مرّت به من مرحلة الأزمة إلى مرحلة الانحلال الهيكلي.
وقفنا سويّاً على ما أنتجته السياسات التعليمية في التسعينات، من تجفيف المنابع وقتل الفكر النّقدي وأي مساحة ثقافيّة أو وجوديّة أو حتّى قيميّة لدى الشّباب المتعلّم، إذ ولّدت جيلاً مريضاً أخرج عشرات الآلاف من الإرهابيّين والمتطرّفين و"الحارقين" والمنحرفين، وصولاً إلى قتلة التّمساح...
أخشى كثيراً من جيل اليوم الذي يدرس في مدارس عموميّة شعارها عدم الانضباط واختلال الأولويّات وموازين المسؤوليّة. أخشى ممّن كان الدّرس الأوّل الذي تعلّمه في المدرسة هو "نفسي نفسي ولا ترحم من مات"!
وأخشى أكثر من تلك المدارس الخاصّة الأشبه بالكانتونات، يؤمّها أبناء المرفّهين وميسوري الحال،فتعزلهم عن أبناء شعبهم وترفع الحواجز بين الطّبقات الاجتماعية منذ الصّغر، حتى تصبح عوالم موازية، لا تلتقي إلا لتتصادم.
أخشى أيضاً من "نخب الغد من أبناء نخب اليوم" ممّن يدرسون في مدارس ومعاهد خاصّة تنافقهم وتماريهم،تحتفل بهم مع كلّ آخر سنة فتلبسهم الطّرابيش المربّعة والرّداء الأسود، وتوزّع عليهم شهادات برّاقة، وتقوّم ما استطاعت من أعدادهم، وتتغاضى عن تطاولهم على أساتذتهم، بل وتنزل عند رغبتهم بتغييرهم إن هم أرادوا ذلك، وتكاد مديرة المؤسّسة أن "تتحزّم" وترقص لتلاميذها وأوليائهم خشية أن يغادروها (وهم الحرفاء المكتنزون ومصدر الكسب) إلى مؤسّسة أخرى منافسة تقدّم "عرضاً" أفضل.
يبدو أن الخطاب السياسي التّبسيطي "الحدثوتي" وشعارات "النّمط" و "الحفاظ على المكتسبات" التي مهّدت وبرّرت لاغتيال المسار الانتقالي وعودة منظومة الاستبداد، يبدو أن تلك "النّغمة السّطحيّة"ومجموع الجدالات الفارغة نجحت أكثر ما نجحت في التشويش على الرّأي العامّ، والتّغطية على التّخريب والعبث الذي وقعفي المكتسبات الحقيقيّة للدولة والمجتمع التونسيين.
"مكتسباتنا" يا سادة، وإن لم تكن يوماً مكتملة، هي شيء من العدالة الاجتماعيّة ونصيب من المساواة. هي مجموعة قيم مجتمعيّة مترسّخة منذ قرون، والتّسليم بالحقّ في الحياة والأمان وجودة الصّحّة والتّعليم. وأهمّ من هذا كلّه، أن يكون للجميع الحقّ في فرصة حقيقيّة للرّقيّ وتغيير الحال والأمل في مستقبل أفضل.
والأكيد أنّه، وعلى امتداد ثلاثة قرون، مثّل التّعليم العمومي، منذ صيغته الزّيتونيّة مروراً بالصّادقيّة ووصولاً للمدرسة الحديثة، أهمّ آليّات المصعد الاجتماعي الذي شكّل بدوره أحد أهمّ محرّكات المجتمع التّونسي وأسباب حيويّته. ويذكر التّاريخ أيضاً أنّه، ومع كلّ مرّة تعطّل فيها المصعد الاجتماعي، عرفت بلادنا الثّورات والانتفاضات(ثمّ التّسويات)، ولعلّ آخرها ثورة 2011...
ولكنّ ما تعرفه المنظومة التّعليميّة في السّنوات الأخيرة من تخريب متسارع الخطى، سواء كان في المستويات الدّنيا أو الجامعيّة، يجعلنا نقلق بجدّيّة على مستقبل البلاد وفرص نهضتها، بل حتّى على التّوازن الاجتماعي والسّلم الأهليّ.
كثيراً ما أجد نفسي أحاور أشقّاء عرب من مصر أو ليبيا أو اليمن، أو حتّى إفريقيا السّمراء، فيقولون لي أنّ السّرّ الحقيقيّ في النجاح النّسبي لتجربة الثورة التونسية، وعدم انزلاقها في أتون الصراعات العنيفة التي عرفتها بلدانهم، يكمن في وعي الشعب التونسي، بمختلف طبقاته، ومنزلته التّعليميّة. أتمنّى حقّاً أن نحافظ على هذا المكسب وألا نفسده بأيدينا.
المهمّ... وبعيداً عن خطاب العويل، لا شكّ في أن الوزير والنّقابة اختلفوا في كلّ شيء، ولكنّهم اتّفقوا على الإجهاز -سويّاً- على التّعليم العمومي، وهو ما لا يجب أن يسمح به أحد. لا أشكّ في بلادن تزخر بالحكماء والعقلاء(مربّين وسياسيّين ونقابيّين) ممّن لا يستطيعون قبول ما آلت -وما قد تأول- إليه الأمور، وتقع على عاتقهم مسؤوليّة النّأي بأنفسهم وبالقطاع عن حالة التّمزّق التي تمكّنت من القطاع.
شخصيّاً كنت أنسّب مسألة تكاثر المدارس الخاصّة، والنّزوح الكبير نحوها، حتّى وقت قصير،فأعتبرها ظاهرةً أتمنّى أن تكون عابرة. لكنّني صدمت لمّا عرفت أنّ عدداً كبيراً من الأساتذة قاموا بسحب أبنائهم من المدارس والمعاهد التي يدرّسون بها، وتسجيلهم في مدارس خاصّة.
الأساتذة هم الأدرى بخبايا التّعليم العمومي كما الخاصّ، يعرفون مزايا وعيوب كلّ منهما... فإذا بدأ طاقم المركب في الاستعداد للقفز، فاعلم أنّ الماء قد تسلّل إلى القاع وأنّ خطر الغرق قد أصبح وشيكاً...
ولكن متى كان مستقبل بلادنا وأولادنا زورقاً تهون التّضحية به؟
Comments
4 de 4 commentaires pour l'article 139465