''يا عالم... أرضي محروقة''

<img src=http://www.babnet.net/images/2b/kaddadaech0.jpg width=100 align=left border=0>


بقلم حامد الماطري

كنت جالساً منهمكاً في أمر يخصّني، و إذا بنغمات تنبعث من حاسوب يلعب به ابني الصّغير تخترق تركيزي و تستحوذ على كلّ انتباهي.."جينا نعيّدكُن، بالعيد بنسألكُن...ليش ما في عندنا، لا أعياد و لا زينة...يا عالم، أرضي محروقة، أرضي حرّيّة مسروقة.."

هو مطلع أغنية قديمة لريم بندلي، تلك الصّبيّة اللّبنانيّة التي اشتهرت بأغانيها في الثّمانينات، و التي لا تزال تنشد في الرّوضات حتّى اليوم، مثل "غسّل وشّك يا قمر" و "طير و علّي يا حمام".. "أعطونا الطّفولة" هي أغنية غنّتها لبلدها لبنان، المثخن وقتها بجراح حربه الأهليّة. غنّتها لطفولتها المسروقة بين دويّ الانفجارات وصور الأشلاء و الدّماء، و صفّارات الانذار اللّيالي المقضّاة في الملاجئ.



سحبتني هاته الأغنية دونما استئذان إلى ذكريات الطّفولة، و إلى ذلك الزّمان، حين كنت صبيّاً صغيراً أعيش مع عائلتي المغتربة وقتها في دمشق، أتحدّث لهجتها و أدرس في مدارسها ، أقف في صفوف التلاميذ و أنشد أناشيد الولاء "لحافظ العهد، حافظ المجد" (حافظ الأسد).
و قفزت إلى ذهني ذكرى فريدة، عشتها ذات صباح من شتاء 1989، عندما كنت طفلاً صغيراً أدرس في مدرسة ابتدائيّة بدمشق. دخلت المعلمة ذاكالصّباح و هي باكية فجزعنا نحن الأطفال لهذا المشهد اللامعتاد.. قالت لنا أنها تبكي حزنا على اغتيال رئيس لبنان "رينيه معوض" الذي لم يمرّ على تسميته وقتها إلّا أسابيع قليلة، و كان الناس يأملون في أن يقود عمليّة مصالحة بين الفرقاء المتقاتلين، و ينهي حرباً أهليّة مستعرة منذ قرابة 15 سنة.
يومها قالت لنا المعلّمة: اليوم لن تكون لنا حصص العادة، سأطلب منكم جميعاً أن تصلّوا للبنان، كلّ بدينه.. مسلمين و مسيحيّين، أخرجنا القرآنو الكتاب المقدّسو أمضينا الصّباح في القراءة و الصّلاة و الدّعاء من أجل لبنان.. من أجل أن يحلّ السّلام في الجار الصّغير، من أجل الأطفال الذين كتب عليهم أن يناموا تحت أصوات القنابل و أن يكبروا في أرض محروقة.

تذكّرت هذه الحادثة و زاغت عيناي..كان السّوريّون دائماً حاملين لهموم "أشقّائهم العرب"، مضمّدين لجراحهم.. استقبلوا الفلسطينيّين و ساووا بين حقوقهم و حقوق أهل البلد، استقبلوا اللّبنانيّين ثمّ العراقيّين و فتحوا أذرعهم واسعة لاستقبال أجيال من المشرق و المغرب (و بينهم آلاف مؤلّفة من التّونسيّين)درستفي مدارسهم و جامعاتهم..
و وجدت نفسي أتساءل: ترى هل يجد أطفال سوريا اليوم من يصلّي من أجلهم؟
بالأمس هزّت صور الطّفولة المعذّبة في سوريا المحروقة، العالم من جديد. و بكى المعلّقون الصّحافيّون لصورة الطّفل "عمران" الذي يجلس في صمت و وجهه مغطّى بالرّماد و الدّماء...
كانوا أطفال عزّ و خير، ولدوا في الرّخاء و الأمان منذ سنوات قليلة، تيتّموا و عاشوا الأهوال، ثمّ وجدوا أنفسهم مهجّرين مشرّدين، تتلاقفهم الأرصفة بين المدن و ينظر إليهم المارّة في شفقة أو في ازدراء...
ألامس حرّ هذه الأيّام و نحن ننعم في برد المكيّف فأتذكّر قيظ الشّام و بادية الأردن، أين يتراصّ الآلاف من اللاجئين في المخيّمات.. حلب ترزح تحت العطش و انقطاع الكهرباء منذ أكثر من أسبوعين، فهل سمع أنينها أحد؟حلب تحترق و تإنّ تحت قصف لا يرحم، و لا يتوقّف، فهل من أحد يكترث؟

و كم تراهم الأطفال يتألّمون في باقي المدن و القرى المحاصرة، أو في المخيّمات.. ترى هل يشعر بهم أو بمعاناتهم أحد؟
أنظر الى شاطئ البحر المكتظّ بالمصطافين فأستحي.. تتراءى لي في الأفق أرواح الأطفال الغرقى في المتوسّط، تائهةً تبحث عن براءتها الشهيدة بين زبد الأمواج..
في سوريا قدّمت الطفولة قرباناً لالهة الحرب و جنون السلطة...
يا ويلنا جميعا من يوم اذا الموؤودة سألت، بأيّ ذنب قتلت؟!يا ويلنا من المرايا ان نرى فيها انفسنا بقبحنا و أنانيتنا و نفاقنا؟!كم يلزمنا من الصلوات حتى نكفّر عن خطايانا التي لوّثت سقف السماء...؟

منذ بضعة أسابيع، التقيت بشابّ سوري يعمل نادلاً في أحد المطاعم فتجاذبنا أطراف الحديث. الفتى حامل لشهادة عليا في العلوم السّياسيّة و كان يحلم بالعمل في السّلك الدّيبلوماسي، حتّى شبّت النار في بلاده فلم يعد له بها مقام و هو من قرية معارضة تفنّن النّظام في التّنكيل بها و بأهلها منذ الأيّام الأولى للثورة،فلم يرحم فيها لا البشر ولا الحجر.
روى لي قصّته، و هي شبيهة بقصص الكثيرين من بني بلده، مثخنة بالآلام و المآسي و التّيه بين الأصقاع... قال لي في خاتم حديثه، و بكثير من المرارة: "للأسف، خذلتنا الحكومة التّونسيّة، كنّا ننتظر منها شيئاً من الرّحمة، فلم نجد غير التّضييق".
اختنق الصّوت في حلقي، فأنا أدرك حقّ المعرفة صدق قوله...
منذ سنة، و اثر حوادث غرق اللاجئين في البحر بين تركيا و اليونان، و حادثة الطّفل الغريق التي أبكت العالم، عملت على تنسيق جهود مجموعة من الأصدقاء قصد إغاثة عدد من اللاجئين السوريين و استقدامهم إلى تونس (كما استقبلتهم عائلات في ألمانيا و في كندا و ايسلندا و نيوزيلاندا)... وجدت إقبالاً رائعاً، و تدفّقت الوعود بالمساهمات السّخيّة، فهناك من تطوّع بمنزل ليأوي عائلات لاجئة، و هناك من وعد بتوفير عمل، أو بالتكفّل بتدريس الأطفال في مدارس خاصّة، هذا غير المساهمات العينيّة و الماليّة...
تحمّست للموضوع و انطلقت في الإتّصالات مع وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين، ثمّ حملت نفسي و تقدّمت إلى السّلط الرّسميّة التّونسيّة قصد المضيّ في تنفيذ المشروع... للأسف،صدمت بسلبية غريبة و بيروقراطية مقيتة،و لم أجد غير الصّدّ و الرّفض، و تشكيلة عجيبة من الحجج و التّعلّات... كلام عن الأمن و عن داعش، و عن صعوبات لوجستيّة، و تساؤلات غبيّة عن مغزى نقل عدد من الأسر من المخيّمات في الأردن أو في لبنان إلى تونس... لكن أكثر ما استشاط غضبي أن أغلب من تحدّثت إليه حاول أن يزايد عليّ في وطنيّتي و هو يقول بأنّه كان أحرى بنا أن "نفكّر" في جموع الفقراء و المشرّدين من بني تونس...
أحدهم قال لي بشيء من البغض: "فليعتني بهم المرزوقي و أصحابه من "أصدقاء سوريا"... لا أعرف كيف تمالكت نفسي عن صفعهǃ
يبدو أنّ دولتنا، و مسؤوليها، أو على الأقلّ جزء منهم، خسروا -من جملة ما خسروا- ضمائرهم و انسانيّتهم.

الحقيقة، لم يفاجئني كثيراً موقف المسؤولين، الشّيء من مأتاه لا يستغرب.. و مثل هذا الموقف هو في النّهاية سياسة الدّولة التّونسيّة تجاه المسألة السّوريّة منذ انتخابات 2014.
الأدهى و الأمرّ، أنّ شقّاً واسعاً يربط بين معاناة الشّعب السّوري و ثورته على نظامه، بل و يذهب حدّ تحميله المسؤوليّة في ما يتعرّض له.
في الواقع، القول بأن الثورة جلبت الفوضى والخراب، هو قول جاهل بقدر ما هو متخاذل.هو كمثل تحميل المسؤولية عن القمع ليس للنظام القمعي، بل لمن يتمرد عليه ويرفض تقبله كأمر طبيعي، ومثل تحميل المذلول مسؤولية الإذلال، فلو رضي بالذل لما عوقب هو و أهله على رفضه الذلǃ وكأن مقاومة الشعب العراقي للاحتلال أدت إلى قتل مئات آلاف العراقيين، وليس الاحتلال ذاته، وكأن انتفاضة الفلسطينيين أدت إلى معاناتهم، وليس الاحتلال الصهيوني..و بموجب هذه المغالطات، لو رضي الشعب السوريّ بالذّلّ و المهانة، لكان الآن ينعم بالهدوء والأمانǃ
لكن ماذا يمكن أن ننتظر من "نخبة" عمادها "الجهل و الفرعنة"..؟
ان نكره داعش و كل ما تمثله من همجية و حيوانيّة و فسوق و أجرام، أن ندرك المؤامرة الدّةليّة التي تستهدف سوريا، فهذا لا يعني أن ندافع على أجرام و همجية و وحشية جيش بشار الأسد و نظامه...
في القضية السورية، الكلّ مجرم و الكلّ قاتل. لا يوجد إلا طرف واحد لم يختر حربه: الشعب السّوري الشهيد، ومن ورائه من أحرار الجيش الذين رفضوا قتل الأبرياء فأضحوا مطاريداً.

إذا لم ينفع العقار في ما أفسده الدّهر، لماذا لا نحاول على الأقلّ أن نمرّر بعض العبر إلى أطفالنا؟
لماذا لا يقع تنظيم حصص لتحسيس الأطفال في المدارس عندنا بما يعانيه إخوانهم المنكوبون في سوريا، كما فعلوا معنا نحن صغاراً في اوائل التسعينات مع مآسي البوسنة أو مجاعات الصومال؟
أليس حريّاً بنا أن نفتح أعينهم على العالم حتّى يتمعّنوا فيه و يتّخذوا منه العبر؟ أن يفهموا أنّ سوريا كانت عروس البلدان قبل أن تلتهمها نيران الحقد و الكراهية و الاستبداد.. أن سوريا لم تكن قطّ بؤرة للارهاب و الدّمار بل كانت في أغلب الأحيان نموذجاً مشعّاً للتّقدّميّة.. علّ صغارنا–على الأقلّ- يفهمون قيمة الثورة عندما تخلّصك من براثن الاستبداد المجرم، ذاك الذي لا يتوانى في حرق البلاد و تشريد العباد ليفرض نفسه على الجميع... حتّى يدرك من لا يفهم أنّ الثورة على الظّلم لا تقاس فقط بوزن القفّة، و ليست حفلة لإعادة توزيع الغنائم، و لا يجب أن نتنكّر لها لمجرّد أنّها عرفت بعض الصعوبات في نحت طريقها الى الأمام..
أحكوا لأطفالنا –و كبارنا- عمّا يحدث في سوريا الشهيدة، و عن المحنة التي يعيشها أهلها الذين تركوا مساكنهم و عماراتهم و حدائقهم خوفاً على حياتهم،بعد أن وجدوا أنفسهم عالقين في مصيدة مميتة بين نظام سفّاح لا يرحم، و فصائل إرهابيّة تنافسه في الإجرام، و هم الذين لم يقترفوا إثماً غير أنّهم نادوا بقدر أكبر من الحرّية و الكرامة، أسوة بباقي شعوب العالم.
حدّثوهم عن المحرقة السّوريّة التي هرع إليها حمّالة الحطب من كل حدب وصوب، علّهم يدركون قيمة أن يكون لك وطن يحميك و يحتضنك، قد لا تجد فيه كلّ ما تحلم به، لكنّه يكفيك جوعك و يؤمن ليلتك و يدفئك في أيّام الصقيع...
علّموا أطفالكم، علّهم يفهمون -و يعلّمون آباءهم و أمّهاتهم- أن الحفاظ على الوطن أشدّ قدسيّة من المال و من الحياة، و هو بلا شكّ أهمّ من كلّ النّعرات السياسية و الحزبية و القطاعية و الجهوية و المذهبية الضّيّقة، و التي تكاد تذهب ببلادنا من دون أن نشعر...

أتمنى أن يصل ندائي لوزير التربية، أو من سيخلفه في مهامّه...يجب طرح مثل هذه المسائل مع تلاميذنا، و لا بدّ من التقاط "الرّمزيّات" و ادراك "القيم اللّامادّية" التي نريد أن نمرّرها للنشئ. إن لم نبادرهم بطرح مشاكل الأمّة و نقاشها مع شباب تونس، فسيجدون بين صفحات الأنترنات العشرات من مواقع الدّواعش التي ستتطوّع لإجابتهم عن تساؤلاتهم، لكن بشكل آخر...
أتمنّى كذلك أن تراجع الدّوائر الرّسميّة التّونسيّة موقفها من استقبال اللاجئين السّوريّين، و لو كان ذلك بأعداد رمزيّة، على الأقل بما يحفظ سمعة الشّعب التّونسي و انسانيّته، فليس أمرّ من المحنة التي يتعرض لها الشعب السوري، و الذي ذلّ من بعد عزّ، إلا العزلة و اللامبالاة التي يلقاها من اخوانه...


Comments


5 de 5 commentaires pour l'article 129840

Mandhouj  (France)  |Dimanche 21 Août 2016 à 16:20           
نعم هي صرخة.. تبعثها لنا الصورة .. هي واقع يومي يعيشه السوري ، اليمني ، العراقي ، و غيرهم ، ... ياعالم حرقوا يومي .. لكن ياعلم أعدك أنهم لن يحرقوا مصيري ...
إذا الشعب يوما أراد الحياة :: ....... البقية أعداء الشعوب يعرفونها ، لذلك تجدهم اليوم في أعتى مظاهر العنف و القتل و التهجير و الإبادة .

Hassine Hamza  (Tunisia)  |Dimanche 21 Août 2016 à 14:49           

''يا عالم... أرضي محروقة''
::::::::::::::::::::::::::::
ياأخي حامد
عبّرت عن المرارة واللوعة التي يحس بها كل العرب والمسلمين وأحرار العالم

يقول المثل : يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه

ولقد أثبتت اﻷحداث التي نشاهدها في عالمنا العربي
أن أولياء أمرنا إما جهّال وإما جبناء وإما ذوي نفوس مريضة
فباعوا اﻷرض والعرض
وخدموا العدو الذي أطلقوا عليه إسم المسؤول الكبير
ونسوا أوتناسوا أن الله أكبر

Kamelwww  (Tunisia)  |Dimanche 21 Août 2016 à 13:25           
نحن العرب ضحية سياسة فرق تسد. وقد نجح الغرب معنا في تطبيق هذه السياسة التي تمكنه من السيطرة علينا وعلى مقدراتنا وثرواتنا دون أن يضطر لمحاربتنا.
ونحن العرب، لشدة غباءنا، وقعنا في هذا الفخ. وبعض من حكامنا أصبحوا يساعدون الغرب على السيطرة علينا. أنظر إلى بني جهلان حكام الجزيرة العربية كيف يتزاحمون لنيل رضاء أسيادهم في الغرب، وانظر حتى إلى الشعب العربي المتلهف للذهاب إلى العيش في الغرب طمعا في مال وجاه.
أملنا الوحيد هو رجل ليس ككل الرجال، يهابه القريب والبعيد، يخاف الله في رعيته ويحكم بالعدل ويوحد بني يعرب المتشرذمين. نحن بحاجة إلى رجل يشبه يوسف ابن تاشفين او محمد ابن تمرت أو عقبة ابن نافع أو عمر ابن عبد العزيز أو حتى جمال عبد الناصر.
سيأتي هذا الرجل لا محالة لأن الأمور دول، ومن ساءه زمن، سرته أزمان.

Tarek Zied  (Tunisia)  |Dimanche 21 Août 2016 à 07:44           
هناك من الظلم والقهر ماهو اشد كي لا ننسى الاستاذ الذي احرق نفسه ليلة العيد القهر علقم مر لايعرفه الامن شربه مرا من ايدي من لايخشى الله

Adam1900  (Poland)  |Dimanche 21 Août 2016 à 07:08           

الحرب العالمية الحديثة في الوطن العربي

سنبيعهم الكثير من الأسلحة و نعدهم بالحرية ، سنجعلهم يقتلون بعضهم بعض دون أن نخرج من ثكناتنا .. يا ناس الأغريق احتلوا طروادة باستخدام حصان من خشب .. و الماسونية و الصهيونية دمروا واحتلوا العراق و ليبيا و سوريا و اليمن و لم ينتهي القتال في أفغانستان الي اليوم باستخدام فئة من العرب الحمير .. لمذا كل هذا الصمت اللعين ؟ أعرضوا علي أصحاب النفوس الشريرة صور أطفال اليمن التي تقصف مدارسهم و مستشفياتهم و منازلهم لا لشيئ .. ( وقعت جريمة مروعة راح
ضحيتها أطفال مدرسة جمعة بن فاضل في صعدة مجزرة حيدان ) الكل أطفال عرب ..
سئل الامام الشافعي رحمه الله : كيف نعرف أهل الحق في زمن الفتن ؟ فقال : اتبع سهام العدو فهي ترشدك اليهم .. الطفل عمران المسكين من معسكر الارهابيين المخربين أعداء الانسانية ..



babnet
All Radio in One    
*.*.*
Arabic Female