في تمايز الديني عن السّياسي

في تمايز الديني عن السّياسي



منجي المازني

اشتغلت الدولة العميقة والمنظومة القديمة وأبواق إعلام المجاري على مدى ما يزيد من عقد من الزمن على ترذيل السياسيين والحياة السياسية برمّتها حتّى حقد العامّة على السياسة والسّياسيين وكلّ من اشتغل بالشأن العام. ثمّ ازداد حقدهم وأصبحوا يتربّصون بالسياسيين ويضمرون لهم الشرّ والضرر. حتّى إذا كانت هناك محاولات جادّة، لانتزاع هذه الأفكار الهدّامة أو هذه القناعات من العقول، تستدعي ما حدث زمن النبيّ والصحابة ثارت ثائرة فئات واسعة من العامّة واستغربت ذلك بالقول : كيف تقارنون سياسيي اليوم بالصحابة والنبي ؟ مالكم كيف تحكمون ؟ وكيف تتجرّؤون على مقارنة "تجّار الدين" الذين تلوّثت أيديهم بأوساخ الدنيا وتشبثوا بحطامها وقد استغلّوا الدين لأغراضهم الشخصية والسياسية بمن اصطفاهم الله لرسوله وبمن وهبوا أنفسهم وأعمارهم لله ولخدمة الدين وهم الذين انتشروا في أقاصي الأرض ينشرون دين الله ؟ فالمقارنة لا تجوز بأي حال من الأحوال.

والحقيقة، لتبيّن الصواب من الخطأ، يجوز لنا إجراء قياس ومقارنة حقيقة متغيرة بحقيقة ثابتة حتّى ولو كانت المقارنة في غير محلّها وذلك لكي نميز الحقّ من الباطل ولكي نعلم على أي أرض نقف وعلى أي مرسى نرسو. فكيف نعرف إن كنّا على حقّ أم على باطل إذا لم نقارن أنفسنا بمن سبقنا من المصلحين والخيّرين ؟

كما ولا بدّ من الإشارة، في هذا السّياق، إلى أنّ الصّحابة أنفسهم كانوا في بداية الدعوة متّهمين وملاحقين ولم يعلو شأنهم ولم يصبحوا قدوة ومحطّ أنظار العالم إلاّ عندما انتصر الإسلام واستقرّ له الأمر. ضرورة أنّ السّواد الأعظم من النّاس لا يمجّدون الحاضر ويستعصي عليهم استيعابه بسهولة ولا يعترفون إلاّ بما مضى. وفي هذا جاء في القرآن الكريم "فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ" (القصص 48)
علما وأنّ عامّة النّاس يخلطون ولا يميّزون بين الدّين والسياسة، أو بين الديني والسياسي. ففيما أنّ الدّين مقدّس لا يختلف عليه العامّة فإنّ السياسة بما هي فقه وسياسة الواقع المتشعّب هي مقاربات لا تمارس بإطلاق. فليس هناك سياسة متّفق عليها تضبط أمور النّاس وإنّما هي وجهات نظر مختلفة يمكن أن تصيب ويمكن أن تخطئ بحسب الظرف والزّمان والمكان والحال. وبحسب درجة الوعي السياسي للشعوب. ولنا شواهد على ذلك في التاريخ الإسلامي. من ذلك أنّ الصّحابة الذين حملوا المثل العليا للإسلام إلى أقاصي الدنيا اختلفوا فيما بينهم في ضبط الأمور والتوجّهات السياسية ووصل بهم الأمر إلى التقاتل فيما بينهم.

Commentaires


2 de 2 commentaires pour l'article 263470

Mongi  (Tunisia)  |Mardi 21 Mars 2023 à 10h 34m |           
@Zeitounien
أنا أوافقك أنّ الإسلام ينظّم كلّ شؤون المسلمين ولكن ضمن أطر عامّة. أمّا التّفاصيل فتختلف من عصر إلى عصر ومن مصر إلى مصر ومن حزب إلى حزب ومن ظرف إلى ظرف ... ولذلك تركت هذه التفاصيل لاجتهاد العلماء والسياسيين بحسب الظرف. يعني أنّ المسلمين يجتمعون على الثوابت ولكن ربّما يختلفون على التفاصيل.
أخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون النخل فقال: لو لم تفعلوا لصلح، قال: فخرج شيصا " تمرا رديئا" فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا.. قال: أنتم أعلم بأمور دنياكم."
ومن ذلك
عندما تحرك رسول الله إلى موقع ماء بدر، وبالقرب من مكان المعركة، نزل بالجيش عند أدنى بئر من آبار بدر ، وهنا قام الْحُبَاب بْنَ الْمُنْذِرِ وأشار على النبي بموقع آخر أفضل من هذا الموقع قائًلا : يَا رَسُولَ اللّهِ ! أَرَأَيْت هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلاً أَنْزَلَكَهُ اللّهُ، لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ ولا نَتَأَخّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ؟ قَالَ : ” بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ” .. فَقَالَ : يَا
رَسُولَ اللّهِ فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنّاسِ حَتّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ ، فَنَنْزِلَهُ ثُمّ نُغَوّرَ [ أي ندفن ] مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ، ثُمّ نَبْنِيَ عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمّ نُقَاتِلَ الْقَوْمَ، فَنَشْرَبَ وَلَا يَشْرَبُونَ.. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ – صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ – مشجعًا – :” لَقَدْ أَشَرْت بِالرّأْيِ”.

Zeitounien  (Tunisia)  |Dimanche 19 Mars 2023 à 06h 04m |           
إن الإسلام العظيم ينظم جميع الشؤون الفردية والجماعية للمسلمين والتي منها السياسة. وكل من يزعم أن السياسة خارجة عن الإسلام فقد نسب لله تعالى العجز عن تسيير السياسة سبحانه وتعالى علوا كبيرا. فإن لله تعالى مقاليد السماوات والأرض.



All Radio in One