كلاب تنبح... وضباع تنهش

بقلم حامد الماطري
أتابع عنف الرّدود التي يطلقها الكثيرون على المواقف السياسية المناهضة لما قام به قيس سعيّد (وأتحدّث هنا عن مواطنين عاديين لا عن هياكل منظّمة)، والتي تراوحت بين "التّهكّم" السّمج إلى ادّعاء الحكمة والقول بأننا بعيدون عن نبض الشارع وهواجسه، ولكن شدّ انتباهي بالخصوص حجم التّجريح والتّشويه في حقّ قيادات سياسيّة لم تفعل شيئاً في نهاية المطاف غير الدّفاع عن جملة من المبادئ، و-أكثر من ذلك- الدّفاع عن مستقبل هذا الشعب (اللي يسبّ ويحقّر فيهم) وعن حقّه في سيادة ومواطنة كاملتين، أمام رغبة البعض في فرض وصاية عليه..
الحقيقة، لم أتفاجأ كثيراً…
لا أدّعي أنني كنت مناضلاً كبير وقت بن علي، لكن كنت متابعاً للأحداث عن كثب وكان عندي منها موقف. وأتذكّر أنني كنت أرى أناساً مثل ميّة الجريبي والمختار اليحياوي (الله يرحمهم) أو الشّابّي وحمّة وبن جعفر والمولدي الرياحي والمرزوقي وبن سدرين ومحمّد عبّو ومحمّد الحامدي (الله يحفظهم) يناضلون ضدّ استبداد وطغيان النظام القديم، وبقدر ما كنت منبهراً بقوّتهم وبتصميمهم، كنت دائم الاستغراب من موقف الشارع التونسي تجاههم.. موقف عدائي يتجاوز السّلبيّة ليصبح شماتة فيهم كلّما كانوا ضحية اعتداء، ولأكثر من مرّة سمعت أصدقاء لي يقولون: “يستاهلوا..! يحبّوا يكونوا أبطال؟”…
تحليلي الشخصي لهذا السلوك أن وجود هؤلاء في حدّ ذاته كان أمراً مزعج لعامّة الناس. تغريدهم خارج السّرب كان يفتح أعين الناس قسراً على حقيقة يجتهدون في دفنها وتجاهلها.. حقيقة تخاذلهم وذلّهم وخضوعهم. فبدل أن يدعموهم، أو على أقلّ تقدير التّعاطف معهم، هم ينقمون عليهم.
طبعاً وبعد أيام قليلة من الثورة، ومن الاطمئنان لاتّضاح الرّؤية بأنّ النّظام قد سقط، صار كلّ التونسيون يريدون أن يصبحوا “أبطالاً”… بل ولدرجة أنّهم، سريعاً ما صاروا يزايدون على هؤلاء ويحاججونهم ويتهمونهم بالانتهازية أو حتى بالعمالة!
لست أقول أن كل المناضلين هم ملائكة. هم بشر منهم من انحرف، ومنهم من ضلّ، بل ومنهم من صار أسوأ ممّن ناضل ضدّهم. ولكن أغلبهم أناس اجتهدت، فمنهم من أصاب ومنهم من أخطأ. وحتّى لمّا فشلوا في تحصيل قواعد انتخابية واسعة، فهذا لا يعني أن الشعب انتخب من هو أفضل أو أصدق منهم.
اليوم، ونحن نفتتح عهداً سلطويّاً جديداً (وان اختلف عن سابقه في الخطاب والأدبيّات)، وبينما بدأت أرى الكثيرين يدبّ في قلوبهم الخوف فيقفزون من المركب أو ينسحبون من المشهد في هدوء، فإنّي أجد الكثيرين أيضاً يستعيدون ذات الدّور الجبان الذي يجمع بين الانتهازية والبطولة الزائفة. طبعاً، لهم من التحاليل السطحية ما يكفي لصنع سرديّة تقول بفساد المنظومة “الدّيموخرائيّة” (كما اعتاد أن يوصّف أحدهم - وعذراً عن اللفظ) وفشلها، ويتحدثون عن “عشريّة الخراب”، ويستعيدون نظريّات جاهلة بمعنى أن شعوبنا “غير مؤهلة للديمقراطية”.
طبعاً… من يقولون هذا هم الذين انتخبوا الزبيدي دون أن يعرفوه أو انتخبوا نبيل القروي وهم يعرفونه، وهم الذين صوّتوا لنداء تونس بكثافة في الدورة التي سبقتها، وربّما للنهضة في مراحل أخرى، وهم جمهور عبير اليوم، وهم الذين شاركوا في كلّ اضرابات 2013-2011، التي حوّلت ثورة تجديديّة إصلاحيّة إلى حمّى مطلبيّة هدّامة من منطق “اركب لا تمنّك”، وهم الذين يصدّقون كلّ خزعبلات العالم حول الثروات المنهوبة ولا ينفكّون يتحدّثون عن الفساد ولكنّ هذا لا يمنعهم من دفع الرشاوي او استعمال "المعارف" في حياتهم اليومية بلا حرج، وبتعلّة “الاضطرار”.. تسمعهم يحمّلون المسؤوليات يميناً ويساراً ويتّحدّثون عن أنفسهم دائماً بصيغة المفعول به، المظلوم المسكين المغرّر به… أولئك اليوم يركبون قطار قيس سعيّد ويصفّقون له من دون أن يعرفوا أين هو ذاهب بهم. أولئك أيضاً هم من سينقلب عليه قريباً، وسيقولون فيه ما لم يقولوه في خصومه اليوم، وسيصفّقون لمن سيأتي من بعده، وسيتبنّون تبريراته.
لا أريد أن أراعي حدود اللياقة بعد اليوم، لا سيما مع ناس تفتقد أي مفهوم للياقة. هذه البلاد هي بلادي، وهي أعزّ ما أملك.. لن أتنازل عن حقّي فيها، مواطناً كاملاً وبمستقبل مزهر يعيشه أبنائي ويفخرون به اذا لم أنجح في تحقيقه لنفسي..
قيم الحقّ والعدالة والحرّية والكرامة ليست ترفاً حتى نتنازل عنها، ولكنها أيضاً -وللأسف- ليست هواءً يتنفّسه الجميع. وكما قلتها سابقاً، أفضّل ألف مرّة أن أكون كلباً ينبح على أن أكون ذئباً ينهش أو ضبعاً يبحث عن بقايا الجيف في الظلام.
لقد سلكنا ذات الطريق من قبل، وكانت أطول وأصعب وأوحش... من شاء ان ينخرط معنا اليوم فأهلاً به، ومن شاء ان يعيش بطولته بأن يزرع الشوك في خطانا فليفعل، ولن يضرّنا ذلك. وكما نجحنا سابقاً، سننجح هذه المرّة، والأهمّ أننا سنتعلّم من أخطائنا!!
msmit
Comments
3 de 3 commentaires pour l'article 233070