سفّاح البلقان

في مثل هذا اليوم 21 جويلية 2008 تم إلقاء القبض على رئيس صرب البوسنة السابق والمتهم بارتكاب مجازر ضد المسلمين رادوفان كاراديتش.
يرى الصرب رادوفان كاراديتش زعيما وشاعرا قوميا، في حين ينظر إليه المسلمون كسفّاح وارهابي ويعتبره المجتمع الدولي جزّارا ومجرم حرب وعدوّ للانسانيّة. ولد رادوفان كاراديتش في 19 جوان 1945 بالجبل الأسود على حدود البوسنة فيما كان يعرف بيوغسلافيا الاتحاديّة (منطقة البلقان). انتقل سنة 1960 لساراييفو عاصمة البوسنة لدراسة الطبّ هناك. وتحصّل في جويلية 1971 على شهادة الدكتوراه في الطبّ النفسي، ليشتغل بين مستشفى ساراييفو وفريق النجم الأحمر لبلغراد (أحد أعتى الفرق الأوروبيّة في ذلك الوقت) كطبيب نفسي، ثمّ لفريق العاصمة ساراييفو. وكان شاعرا يكتب القصائد، كما يعرف عنه في الفرق التي أشرف على الإحاطة النفسيّة بلاعبيها أن خطاباته كانت تحثّ اللاعبين على نبذ تعصّبهم لقوّميّاتهم وعلى توحيد صفوفهم والعمل بروح الفريق. ولكنّه تغيّر بداية من سنة 1990.

كانت يوغسلافيا في أوج الحرب الباردة تعتبر أحد أهمّ معاقل الاشتراكيّة في العالم، وكانت تضم إلى جانب الصرب عرقيّات مختلفة ومتناقضة كالكروات والسلاف والبوشناق المسلمين الذين يعيشون في البوسنة والهرسك. في أواخر الثمانينات بدأت تظهر أصوات تطالب باستقلال القوميّات في أوروبا الشرقيّة. وقد كان سقوط جدار برلين سنة 1989 وانهيار الاتحاد السوفياتي سببا في ارتفاع الأصوات القوميّة المطالبة بالانفصال عن يوغسلافيا الاتحاديّة أسوة بجمهوريّات الاتحاد السوفياتي. فانفصلت سلوفينيا ذات الأغلبيّة السلاف سريعا، وتبعتها كرواتيا ذات الأغلبيّة الكروات بعد بضع معارك. فبدأ المسلمون البوشناق في البوسنة والهرسك ذات الأغلبيّة المسلمة مع وجود جالية صربيّة مهمّة بالمطالبة هم أيضا بالاستقلال، لكنّهم وجدوا رفضا شديدا من الصرب المدعومين من بلغراد (عاصمة يوغسلافيا) التي يسيطر عليها الصرب.
في هذه الظروف قرّر رادوفان كاراديتش الدخول في المعترك السياسي، فأسّس سنة 1990 الحزب الديمقراطي الصربي في البوسنة والهرسك، وهو حزب قومي يضاهي الحزب القومي المسلم والحزب القومي الكرواتي. ودخل كاراديتش في تحالف مع الحزبين بهدف إسقاط الحزب الاشتراكي الحاكم. لكنّ هذا التحالف سرعان ما انهار بعد أن بدأت يوغوسلافيا في التفتّت. كان المسلمون في البوسنة والهرسك يؤيّدون بشدّة فكرة الانفصال عن الاتحاد اليوغوسلافي عكس الصرب المتمسّكين بالوحدة والمدعومين من الحكومة المركزيّة. وكان رادوفان كاراديتش قد هدّد المسلمين البوشناق صراحة في 14 أكتوبر 1991 بالابادة في صورة اصرارهم على الانفصال. فقرّر الصرب -بهدف المحافضة على بقاء البوسنة تحت الحكم الصربي- تأسيس كيان ذاتي الحكم سمّي جمهوريّة صرب البوسنة يرأسها رادوفان كاراديتش من سنة 1992 (تواصل حكمه إلى سنة 1996).
تميّز حكمه بالصدام المسلّح والعنيف ضد الانفصاليّين المسلمين، بلغت ذروتها في جويلية 1995 في مذابح سربرينتشا (مدينة في البوسنة) عندما قام رادوفان كاراديتش بدعم صربي بإبادة 8 آلاف مسلم ودفنهم في مقابر جماعيّة (سيتمّ التطرّق لها في مقال قادم إن شاء الله). كما تميّزت فترته بتدمير قرابة 800 مسجد وحرق المكتبات الاسلاميّة وإجبار أكثر من نصف مليون مسلم على الهروب من البوسنة. أجبرت هذه الفظاعات المجتمع الدولي على إنشاء محكمة دوليّة خاصّة بحرب يوغسلافيا في لاهاي بهولندا، والتي وصفت رسميّا سنة 1995 رادوفان كاراديتش مجرم حرب واتهمته بالإبادة الجماعيّة وارتكاب جرائم ضدّ الانسانيّة. وأصبح كاراديتش مطلوبا دوليّا مما أضطرّه سنة 1996 للهروب من البوسنة والتخفّي عن الأنظار. (استقلّت إثر ذلك البوسنة والهرسك ثمّ تبعتها الجبل الأسود ثمّ وكوسوفو، فتحوّلت يوغوسلافيا الى جمهوريّة صربيا).
تحوّل رادوفان كاراديتش إلى بلغراد، فغيّر من هيئته بإطلاق شعره ولحيته، والتصرّف كمواطن عادي. وعاد إلى تخصّصه الأوّل، فالتحق بإحدى المصحّات الخاصّة كمختصّ في الطبّ البديل. وقد ظهر في المناسبات العامّة لكن لم يتمكّن أحد من التعرّف عليه. في هذه الأثناء كانت الحكومة الصربيّة في بلغراد تتعرّض لضغوط متواصلة للقبض علي المجرمين المطلوبين لدى المحكمة الدوليّة وعلى رأسهم كاراديتش . وفي مثل هذا اليوم 21 جويلية 2008 تمّ الاعلان على القبض على رادوفان كاراديتش أثناء امتطائه إحدى الحافلات.وتمّ تحويله في 30 جويلية إلى محكمة لاهاي لتقديمه للعدالة. وبعد عدّة جلسات مطوّلة تمّ في 24 مارس 2016 تحميله رسميّا مسؤوليّة أبشع إبادة جماعيّة عرفتها أوروبا منذ الحرب العالميّة الثانية لما قام به في سريبرينيتسا واعتباره مجرم حرب وسفّاحا ضدّ الانسانيّة، وتمّ الحكم عليه بـ40 سنة سجنا، ليبقى حاملا بامتياز لقب سفّاح البلقان الدموي.
Comments
1 de 1 commentaires pour l'article 145528