تجليات علمانية معاصرة 1 : انتحار ميت

المرحوم م.ي.ص - أبو فهد
تنبيه طبي :
لا ينصح بقراءة هذا المقال ، تحسبا لظهور أعراض مرضية خطيرة من قبيل الجلطة القلبية ، الشلل النصفي أو السكتة الدماغية ، للمنتمين للفئات التالية : العلمانيين التقدميين ، قدماء مناضلي اليسار الماركسي ، يتامى الاستعمار الفرنسي و جماعات الدفاع عن حقوق الشواذ و المثليين . لا يتحمل الكاتب أي مسؤولية قانونية و لا معنوية تجاه من يخالف هذا التحذير من الأفراد المنتمين للفئات المذكورة . يشمل التحذير الأزواج ، الأبناء ، و العائلات المرتبطة بصلة النسب أو المصاهرة .
استيقظ بطلنا منور ، وهو كما يحب أن يعرف نفسه ، علماني تقدمي حداثي متحرر، كعادته عند الساعة الثانية بعد الزوال و قد عقد العزم على أن يقطع مع التردد و أن يشد الرحال إلى عيادة الطبيب النفساني المشهور، لعل الأخير يجد له مخرجا من حالة الاكتئاب المزمن ترافقه منذ سنين لتزداد حدتها في الأشهر الأخيرة ، تنغص عليه حياته و تمنعه من الاستمتاع بملذاتها فلم تعد لا الخمور المعتقة تجتذبه و لا حتى معاشرة المومسات تغريه.
ألقى منور ، وهو تحريف لاسم نور الدين الذي طالما عانى من ثقل وقعه على أذنيه كلما نودي به ، بثقل جسده على كرسي الاعتراف ،عفوا على كنبة الطبيب النفساني ، لينطلق في سرد آلامه و أوجاعه المزمنة ، في ظل اهتمام طبيبنا المشهور و إصغاءه الكامل بعد أن أنبأته حاسته السادسة و خبرته الممتدة سنين طويلة في الميدان ، أنه يواجه حالة قد تكون من أصعب الحالات التي مرت به.

بدأت، متاعبي، أيها الطبيب ، مع عودة انبعاث صوت الآذان على أمواج الإذاعات الوطنية و التلفزيون الرسمي ، و مع هذا الخطاب السياسي ، الذي لم أعهده و لم أستسغه ، خطاب يحدثك عن إعادة الاعتبار للدين (الحنيف) و عن المصالحة مع الهوية العربية و الإسلامية للبلاد ، حديث انقبضت له نفسي ، واستشفيت منه ، و قلب "العلماني" خبيره ، كما يقول المثل الشعبي ، أن تغييرا جذريا هو واقع لا محالة. دعوت في سري ، عفوا تمنيت في قرارة نفسي ، فالدعاء هو ملاذ المتخلفين و البسطاء الجهلة ، يبحثون عن السلوى في مناجاة من لا يعلمون له شكلا و لا مستقرا ( سبحانه جل في علياء سماواته عن إدراك البشر القاصرين ) ، أن يستمر قطار حياتي كما هو ، و أن لا يكون هذا الحديث الجديد ، إلا كلام خطب عابر، لا يبتغى منه إلا تخدير العامة و دغدغة المشاعر الدينية لدى السوقة و الرعاع.
لتمر السنين و أستمع لنفس الخطاب يتكرر في كل المناسبات الرسمية و الدينية و الوطنية ، و ليحدثك كبار رجال الدولة و صغار مسئوليها عن ضرورة التمسك بالثوابت و تدعيم مقومات الهوية الوطنية و عن الإسلام الوسطي دينا رسميا للدولة و عن قيم الاعتدال و نبذ العنف و التطرف ، لا يدركون أن الإسلام الذي يتحدثون عنه انتشر بقوة السيف ، و أن في عدم محاربة كل مظاهر الالتزام الديني و في عدم فصل الدين عن الدولة ، كما دعا إلى ذلك كبار " مشايخنا "، نحن العلمانيين الحداثيين التقدميين ، من أمثال العظيم ( الصهيوني) كارل ماركس و المفكرين الكبيرين ( الملحدين) بارتران راسل و روبرت انقسول هو تخلف و ظلامية و تقهقر إلى الوراء.
و يا ليت الأمر توقف عند حدود الخطب و الشعارات الرنانة ، فقد رافقته على أرض الواقع ، مبادرات و إجراءات ، ازدادت معها حالتي النفسية تعكرا، لنشهد إقامة المسابقات تقام تحت إشراف رئيس الدولة ( و سامي رعايته) ، في حفظ القرآن (الكريم ) و ترتيله ، وليعاد الاعتبار لجامع الزيتونة ( المعمور) و ليؤذن بأن تتواصل تلاوة ( الذكر الحكيم ) في جنبات أركانه ( الطاهرة )* على امتداد السنة بلا انقطاع و ليزداد عدد الجوامع و المساجد و يتضاعف عدد المآذن حتى لم يعد بالإمكان التواجد في مكان لا يصل إليه صوت المؤذن خمس مرات في اليوم و الليلة ، يرهق سمعي و يزيد في تعذيب نفسي و ازدياد كآبتي كلما ارتفع صوته إلى عنان السماوات ، داعيا الناس إلى التوقف عن الاستمتاع بملذات الحياة و إلى إضاعة الوقت في الوقوف خلف شخص ، قد يفوقونه ، ثقافة و مالا و وجاهة اجتماعية ، بزعم مناجاة اٍلاههم و خالقهم.
لم تسلم حتى قرطاج الجميلة ، و رغم ما تحمله من عبق التاريخ الممتد ، قبل أن تطأها أقدام الغزاة المسلمين، من هذا الهجوم الكاسح لأحفاد عقبة ( رضي الله عنه )* ، وهم العقبة أمام التقدم و الحداثة ، ليقيموا فيها بناءا شامخا ضخما، صرفت لأجل إقامته ملايين الدنانير، لينطلق صوت المؤذن من أعلى منارة جامع العابدين السامقة ، يقلق راحة ، ملكتنا المتوجة عليسة ، في خلوتها " الشرعية " ، بقائدنا الهمام حنبعل.
لم تزل حالتي النفسية تزداد سوءا مع الأيام ، و لم يعد للمهدئات تأثير يذكر، لم أعد أتحمل تصفح جريدة تطالعني بأخبار التقارب العربي ، فما لنا نحن التونسيين وأولئك الأعراب و بدو الصحراء المتخلفين...؟؟!
لم أعد أقوى على مشاهدة نشرات الأخبار تحدثني عن التضامن الإسلامي لنصرة ما يسمى بفلسطين و السعي لاسترداد مبنى قديم ، يقول عنه البسطاء من الجاهلين أنه ، أول القبلتين و ثالث الحرمين الشريفين، فما لنا نحن التونسيين بصراع تدور رحاه مئات الأميال عن أرضنا، أ نعادي أوروبا و أمريكا و العالم الحر ، و نضحي بالامتيازات الاقتصادية و السياسية من أجل حفنة من الشعارات البالية عفا عليها الزمن و أكل عليها الدهر و شرب...؟؟
ثم مال هؤلاء المتخلفين ، و من سار على دربهم من التونسيين، و دولة إسرائيل الديمقراطية الحديثة و المسالمة...؟؟ يستنكرون على أجهزتها الأمنية المتحضرة، قيامها بحماية مواطنيها من المستوطنين الأبرياء و سعيها إلى تطهير أراضيها من الفلسطينيين غير المتحضرين و المتربصين بها كل شر...؟؟ هل يستطيع عاقل أن يلوم الطيران الحربي الإسرائيلي ( المجرم )* لإغارته على حمام الشط و قيامه بقصف الفلسطينيين المتآمرين، و من دفعه غباءه من التونسيين إلى الإقامة بجوارهم....؟؟
كرهت الخروج إلى الشارع و ملاقاة الناس ، اختفت الحسناوات من الشوارع أو كدن، و قد كان زمن اختلن فيه بقدودهن الرشيقة في ثياب تظهر أكثر مما تخفي ، يستمتع الواحد منا باستراق النظر إلى الأجساد البضة ليجري به الخيال و تستبد به الشهوة ( الحيوانية) أيما استبداد ، و قد تمتد المغامرة لتتحول إلى علاقة جسدية عابرة يستمتع فيها الطرفان أيما استمتاع ،بلا قيود و لا ضوابط و لا التزامات و لا عقود و لا مسؤوليات ، هما اثنان ( و ثالثهما إبليس) ، يسرقان من الزمن لحظات نشوة عابرة ، هربا من ضغوط الحياة ، يلتقيان كلما زين لهما اللقاء و أخد الشوق بهما كل مأخذ، حول كأس من النبيذ لا تضاهي لذتها في الوجود لذة ليفترقا بعدها ، و قد لا يلتقيان مجددا، حسبهما ما غنماه من لحظات لذة عابرة في غفلة عن الزمن و عن القيود الاجتماعية البالية، و عن الذين يهولون الأمور و يعقدون الحياة ، يحدثونك عن حرمة الزنا و عن الخوف من اختلاط الأنساب !!
فما لنا و كل هذه الشعارات البالية...؟؟ ألا ينظرون إلى الطبيعة، ألا تتزاوج الأرانب و القطط و الكلاب و الأفاعي من دون أن تلقي اهتماما إلى كل تلك الاعتبارات السخيفة، تقضي وطرها و تمضي في حال سبيلها من دون عقد و لا منغصات...؟؟
ثم مال هؤلاء المتخلفين بأولئك المساكين من الشواذ و المثليين و السحاقيات، و لي منهم أصدقاء كثر ، يطاردونهم و ينغصون عليهم وجودهم و يرهبونهم بسيف ، قوانين تخالف كل المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، مسلط على رقابهم ، ليلقوا بهم في غياهب السجون ، لمجرد علاقات جسدية ، و قد جربت أنا نفسي هذه العلاقات في فترات من الزمن كنت أمل فيها معاشرة النساء، و لا أجد أية غضاضة في الاعتراف بذلك !!
لم أعد أحبذ ركوب وسائل النقل العمومية و لا سيارات الأجرة ، فكأنما بجميع السائقين ، قد اجتمعوا على قلب رجل واحد لإيذائي نفسيا و إرهاق أعصابي ، يأبون إلا أن يشنفوا أسماعي بصوت الشيخ محمد مشفر أو الشيخ عبد الرحمان الحفيان ( حفظهما الله ) ، ينبعث صباح مساء ، على أثير إذاعة الزيتونة ( المباركة ) ، لتحمل إلينا آخر الأخبار، أنباء عن عزم باعثها ( أبقاه الله و رعاه ) إطلاق قناة تلفزية تحمل نفس الاسم في القريب العاجل لنشر " ما يسمونه " بقيم الاعتدال و الوسطية و خدمة للدين ( الحنيف).
لم أعد ألقي بالا حتى إلى دعوات السفارات الغربية التي تكدست في البيت ، لحضور المؤتمرات و طاولات الحوار المستديرة حول ضرورة نشر الديمقراطية الغربية ( المعلبة) و السعي إلى نشر الحرية الجنسية ( الفساد و الانحلال الأخلاقي ) وحرية تناول ( استهداف ) الرموز الدينية و التساؤل عن ( التطاول على ) الذات الاٍلاهية باسم الحرية و الفن و ضرورة النضال في سبيل الدفاع عن حقوق اللوطيين و الشواذ و المتحولين جنسيا و الفئات المتصلة ، رغم ما كنت أغنمه ، و أمثالي من الحضور ، من دعم مالي و إعلامي من منظمات ( دكاكين ) حقوق الإنسان و برامج وزارات الخارجية الغربية لدعم الديمقراطية و الحريات ( لدعم الجواسيس و باعة الأوطان ) في دول العالم غير المتحضر.
لم يسلم لنا، نحن العلمانيين الحداثيين التقدميين ، حتى زمن بورقيبة و اٍرث دولة الاستقلال

سكت مريضنا منور، العلماني التقدمي الحداثي المتحرر، عن الكلام و انخرط في نوبة هستيرية من النواح و العويل. أدرك طبيبنا النفساني المشهور أن حدسه لم يخنه و أنه أمام حالة إكلينيكية متأخرة ، يعسر ، إن لم يكن ميؤوسا ، شفاءها. اعتصر الحكيم ذاكرته و استحضر كل خبرات السنين الماضية ، ليحرر وصفة العلاج لمريضه ، العلماني التقدمي الحداثي المتحرر، و ودعه على أن يلقاه في حصة علاجية قادمة.
خرج مريضنا منور ، العلماني التقدمي الحداثي المتحرر، ليلقي بوصفة الطبيب في أول حاوية مهملات اعترضته، لقد مل من العقاقير و الأدوية و يئس من الشفاء و الفكاك من أسر وحش الاكتئاب الكاسر.
ركن سيارته عند أول حانة اعترضته ، صب ما طاب له و ما سمحت به دنانير يومه المتبقية ، من الخمور في جوفه ، صبا ، يبغي نسيان همومه و أحزانه. قفل عائدا إلى سيارته ، تتلقفه الجدران و الأعمدة ، هم بفتح الباب الأمامي و الولوج إلى داخلها ، انتبه إلى لوحة إعلانية ضخمة ، أضيفت حديثا ، تمهل ليقرأ ما كتب فيها و قد غشي عينيه ضباب من أثر السكر.
قرأ مريضنا منور ، العلماني التقدمي الحداثي المتحرر، ما كتب على سطح اللوح الإعلاني ، ليصعق لما قرأه :
بشرى إلى كافة التونسيين ، قريبا افتتاح مصرف الزيتونة الإسلامي...
جن جنون مريضنا منور ، العلماني التقدمي الحداثي المتحرر، ليزيده انبعاث صوت الأذان من المساجد القريبة في تلك اللحظة ، هياجا ، اسودت الدنيا أمام عينيه ، و ضاقت به الطريق على رحابتها...
انتظر اقتراب سيارة كانت مسرعة في اتجاهه...ليلقي بنفسه تحت عجلاتها ، دون أن يترك أي مجال لسائقها لتفادي الاصطدام .
صدم طبيبنا النفساني المشهور عند تصفحه لجريدته الصباحية :
مصرع (ن.ن) في حادث انتحار مروع تحت تأثير حالة السكر...
عانى القتيل مؤخرا من أزمات نفسية حادة و من اضطرابات عقلية و سلوكية .
طوى طبيبنا النفساني المشهور الجريدة أسفا و نهض إلى عيادته و لسان حاله يقول :
غفر الله لمريضنا منور ، العلماني التقدمي الحداثي المتحرر ، و تجاوز عن سيئاته.
أسفي عليه، اختار أن يلاقي ربه في أسوأ حال.
سلم، الروح إلى بارئها ...
مخمورا وهو تحت تأثير أم الخبائث.
First Published 2010-04-30
Comments
45 de 45 commentaires pour l'article 27674