تشوّه النموذج الاقتصادي لقطاع الفسفاط: الجذور العميقة للاختلال البيئي بين الدعم المقنّع والعجز المزمن
بقلم حاتم بولبيار
منذ قرابة شهر، حاولت أن أفهم لماذا بلغ هذا المرفق من اقتصاد البلاد مستوى أزمة متشعّبة، تجمع بين خسائر مالية وبيئية واجتماعية. وهذه هي القناعة التي توصّلت إليها.
منذ قرابة شهر، حاولت أن أفهم لماذا بلغ هذا المرفق من اقتصاد البلاد مستوى أزمة متشعّبة، تجمع بين خسائر مالية وبيئية واجتماعية. وهذه هي القناعة التي توصّلت إليها.
منظومة الفسفاط: ركيزة تاريخية بأداء متراجع
تمثل منظومة الفسفاط التونسية، التي تجسدها شركة فسفاط قفصة (CPG) والمجمع الكيميائي التونسي (GCT)، ركيزة تاريخية للاقتصاد الوطني. ويظل مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي والصادرات مهمة، رغم أنها في تراجع مستمر منذ سنوات: (0.4% من الناتج المحلي الإجمالي في الفترة 2016-2019 / 0.1% سنة 2020 / 1% في 2021-2022). وتزعم بعض المقالات الصحفية أن القطاع يمثل 4% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذا بعيد كل البعد عن الواقع.أسعار التحويل: نموذج اقتصادي معادٍ للنجاعة
أسعار التحويل (prix de transfert): نموذج اقتصادي معادٍ للنجاعة الاقتصادية:تكمن المشكلة الرئيسية التي تغذي هذه الأزمة في الهيكلة الاقتصادية للقطاع(modèle économique). تعمل منظومة الفسفاط التونسية كسلسلة قيمة متكاملة، تربط بين استخراج الفسفاط (CPG) وتحويله كيميائياً (GCT). بيد أن آلية تحديد الأسعار بين الشركتين تشكّل عقبة كبرى أمام جدوى المجموعة(CPG+GCT) بأكملها، وهي الخطيئة الأصلية الرئيسية لهذه الكارثة الصناعية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
منذ زمن بعيد، تُحدّد الدولة سعر « تسليم » صخر الفسفاط من شركة فسفاط قفصة إلى المجمع الكيميائي بسعر أقل بكثير من السعر العالمي. ويشبه هذا النظام دعماً ضمنياً للنشاط الكيميائي على حساب نشاط التعدين. وفي الواقع، تُجبر شركة فسفاط قفصة على بيع إنتاجها بسعر أقل بكثير من قيمته في السوق العالمية، مما يحول دون حصولها على الهوامش اللازمة لتحديث منشآتها وتحسين تنافسيتها. وكثيراً ما يكون سعر التحويل هذا أقل من تكلفة الإنتاج بالنسبة لشركة فسفاط قفصة.
فعلى سبيل المثال، في سنة 2016:
• تكلفة استخراج طن الفسفاط: 77 دولاراً
• سعر التحويل إلى المجمع الكيميائي: 62 دولاراً/طن
• خسارة مباشرة: 15 دولاراً للطن
• سعر التصدير في نفس السنة: 88 دولاراً/طن
• فاقد الربح لشركة فسفاط قفصة: 26 دولاراً للطن
• حجم الإنتاج: 3.4 مليون طن
• إجمالي الفاقد: 88 مليون دولار (حوالي 190 مليون دينار)
وفي نفس الوقت، كانت النتائج المالية لشركة فسفاط قفصة كالتالي:
• 2016: خسارة 109 مليون دينار
• 2017: خسارة 129 مليون دينار
• 2018: خسارة 132 مليون دينار
• 2019: خسارة 63 مليون دينار
• 2020: خسارة 293 مليون دينار
مجموع الخسائر: 726 مليون دينار.
وفي ما يتعلق بفقدان إمكانيات الربح، تُقدَّر القيمة الإجمالية لما كان يمكن تحقيقه بين 2016 و2023 — في حال توجيه كامل إنتاج الفسفاط نحو التصدير بدل بيعه للمجمع الكيميائي بأسعار إدارية — بنحو 4.2 مليار دينار تونسي. وتمثّل هذه الموارد المهدورة طاقة تمويلية كان بالإمكان توظيفها في استبدال الوحدات الصناعية التابعة للمجمع الكيميائي بعد تفكيكها، ضمن مخطط واضح وجدول زمني مضبوط يحدد مراحل التفكيك ومواقعها. ويبيّن هذا المعطى أن الإشكال لا يرتبط فقط بغياب الإرادة السياسية، بل كذلك بانعدام الموارد المالية نتيجة التشوّه الهيكلي الذي يقيّد المنظومة ويحرمها من إمكانيات التطوير.
تشوّه اقتصادي يقود إلى ترهل اجتماعي وبيئي
و لنرجع إلى هذا السعر الإداري الذي يشوّه الواقع الاقتصادي للكيانين معاً. فمن جهة المجمع الكيميائي (GCT)، يخلق انفصالاً عن واقع السوق العالمية، مما يقلّص الحافز على تحسين تكاليف الإنتاج أو الابتكار. وإدارة المجمع، بمعزل عن الضغوط الاقتصادية الحقيقية. ذلك أنه طالما كان سعر المادة الأولية (صخر الفسفاط) مدعوماً، فلا دافع لدى المجمع لترشيد عمليات الإنتاج أو تقليص النفقات. وفي النهاية الحفاض على المعايير البيئية.وفي المقابل، يحرم هذا الوضع شركة فسفاط قفصة من الموارد اللازمة لتحديث بنيتها التحتية ورفع كفاءتها. وفي غياب هذه الاستثمارات الحاسمة، تبقى إنتاجية الشركة ضعيفة، مما يزيد من اعتماد المنظومة بأكملها على تقلبات أسعار الفسفاط العالمية.
ومن ناحية أخرى يعطينا تحليل الأداء الاقتصادي لقطاع الفسفاط وجود خسارة هيكلية، تظهر بوضوح من خلال تطور معدل الأجور والكتلة. فقد ارتفعت الشهرية في CPG من 2600 دينار سنة 2016 إلى 4200 دينار سنة 2023 (+60%). ونفس الارتفاع تقريباً سجّل في GCT (من 3100 إلى 6000 دينار).
عواقب كارثية
هذا التشويه يخلق حلقة مفرغة تُضعِف كامل سلسلة القيمة. وله تبعات اجتماعية وبيئية مدمرة: تلوث الهواء والماء والتربة، والاستهلاك المفرط للمياه في مناطق تعاني من إجهاد مائي، إلى جانب تراجع العائدات الذي يغذي السخط الاجتماعي والصراعات المتكررة.كما يمثل استمرار إلقاء أكثر من 250 مليون طن من الفوسفوجيبس في البحر الأبيض المتوسط شبه المغلق خطراً بيئياً يهدد مستقبل الأجيال وقد يعرض تونس لضغوط خارجية.
إصلاحات ضرورية لإنقاذ المنظومة
في مواجهة هذه الأزمة، يبدو إصلاح النموذج الاقتصادي أمراً حتمياً:• مراجعة الأسعار الإدارية ومواءمة سعر تسليم الفسفاط مع السعر العالمي
• تمكين CPG من تمويل تحديثها
• تفكيك وتحديث وحدات GCT خلال خمس سنوات
• اعتماد انتقال «أخضر» يعتمد تكنولوجيات نظيفة ومصادر تمويل واضحة
في الختام، تواجه منظومة الفسفاط التونسية تحديات وجودية. وتصحيح تشوهات الأسعار وإصلاح عميق للحوكمة هما المفتاح لإنقاذ هذا القطاع الاستراتيجي والحد من الانهيار البيئي والاجتماعي والاقتصادي.





Comments
0 de 0 commentaires pour l'article 320009