البابا راتسينغر.. الكاثوليكي الأخير

<img src=http://www.babnet.net/images/8/benoitdemission.jpg width=100 align=left border=0>


د. عزالدّين عناية (*)

حين اعتلى جوزيف راتسينغر سدة البابوية في مايو خلال العام 2005، لم يأت الرجل من مكان قصيّ، بل كان قريبا من دواليب السلطة الدنيوية والدينية داخل حاضرة الفاتيكان. انتقل من رئاسة مجلس مراقبة العقيدة إلى تولي مهام الحبر الأعظم، وقد كان العارفون بالشأن الكنسي حينها يدركون بما يشبه اليقين أنه المرشّح الأوحد لتلك المهمة، نظرا لسلطانه النافذ، وبصفته صاحب الملفات الكبرى. دفعته، أو ربما غرّته، ثقته الفائقة لتولّي قيادة سفينة بطرس المهترئة، بعد أن تبخر حماس مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965) وتعطل المحرك مجددا، جراء توقّف الفورة المجمَعيّة في منتصف الطريق.

ولربما لِندرك طبيعة السلطة داخل كنيسة روما، والإلمام بحيثيات استقالة البابا، أهي جراء أزمة شخصية أم أزمة مؤسسة، جدير أن نستأنس برأي أحد الملمّين بالشأن الكنسي، المؤرخ الإيطالي فرانكو كارديني. يذهب كارديني إلى أن خطين متنافرين حَكَما سير الكاثوليكية عبر تاريخها: التوجه البابوي الملكي والتوجه الأسقفي الجماعي. وبفعل طبيعة راتسينغر الدغمائية، أملى عليه قدره أن يكون منساقا ضمن التوجه الأول الانفرادي، وهو ما حصل حتى اصطدم بالجدران الصلبة. جاء الرجل وهو يحسب نفسه مقتدرا على خوض ثورة، ولكن أية ثورة أرادها؟ إنها ثورة لاهوتية دغمائية، تعيد مجد الكنيسة التوماوية القروسطية بكل عتادها الأرثوذكسي وما تستبطنه من قتامة، على أمل أن يعيد لها طهرها المفقود. فوِفْق تقديره ان جيشا غفيرا في الكنيسة يحتاج إلى غطاس جديد بعد أن غدت تعجّ بالفرّيسيين.




استفاق راتسينغر على لوبيات ثلاثة داخل مؤسسة الكنيسة، لم تسعفه نباهته الفلسفية في التفطن إليها: لوبي المال المتمثل في مؤسسة الأعمال الدينية المسماة بـ إيور ، فمنذ تحول الكنيسة إلى مؤسسة ربحية بات التعويل على كلمة الرب باهتا وعوّضه الاستثمار في سندونا وفي بنك أمبروزيانو ، وما شابهها من المؤسسات المالية. صحيح أن المسيح (ع) طرد التجار من معبد أورشليم، لكن المعبد في روما راهنا يضم في جنباته مغازة شيك تعرض أشهر الماركات العالمية والعطورات الباريسية؛ ولوبي القذارة الجنسية بشقيه اللوطي والفاحشي الذي جرّ الكنيسة إلى مستنقعات آسنة تتقزز منها ضمائر المؤمنين؛ ولوبي سلطة الكرادلة بأجنحته المتنافرة، يسعى فيه كل طرف إلى احتكار السلطة: الغلاة المؤيدون لسيطرة روما على مقدرات الكنيسة، والتقليديون حراس العقيدة، والحداثيون المنادون بقلب جذري للكنيسة، والطهريون المنادون بعودة للكنيسة الفقيرة.
يقولون إن البابا المستقيل سيودع ملف الفضائح، ملف فاتيليكس ، أو كما سمي ملف السموم، إلى البابا المقبل، وهل هناك خطايا أكبر من ثالوث الفساد المستشري: المال والجنس والسلطة، الذي خنق الكاثوليكية، وبات يعْرفه القاصي والداني. لذلك نقدر أن حروب الكنيسة سابقا كانت خارجية أما الآن فهي داخلية مع ذاتها.
كان راتسينغر يرى خلاص الكاثوليكية في العودة إلى نقاوة عقائدية، لم تخل من أوهام، ولذلك انزلق إلى قعر الهاوية مع المسلمين في خطابه في راتيسبونا (2006)، وبالمثل أصر على عزوبة الكهنوت فتفجرت الفضائح يمنة ويسرة، وناصب المراجَعةَ النقديةَ العداء فانفضّ الناس من حوله، على غرار ما حدث في مايو من العام 2007 لما شارك في المؤتمر الأسقفي لأمريكا اللاتينية والكراييب في أبرينشيا في البرازيل، حين نفى أن تكون الكاثوليكية قد فُرضت غصبا على الناس، لكن جموعا من رجال دين والعلمانيين ذكّروه بفظائع الكونكويستادورز –الغزاة- باسم الإيمان، مع ذلك أصرّ على غيّه.
لم تمض سوى فترة على حبريته، من مايو 2005 إلى فبراير 2013، حتى تهاوى حلم الرجل في تغيير مسار السفينة، وغرق في صراعات داخلية، رأى نفسه قد أمسى طرفا فيها وفي إذكائها. فكان قراره الحاسم بهجران السفينة، وهو حدث جلل معرب عن دلالات عميقة. ذلك انه حين يشب حريق في بيت يفرّ أهله منه ولا يمكثون بداخله، هكذا كان سلوك راتسينغر غريزيا وبشريا. لكن لسائل أن يسأل ما الذي جرّ الكنيسة إلى هذا الوضع المزري حتى دب فيها السقام طولا وعرضا؟ منذ أواخر الستينيات صدح لاهوت التحرر في أمريكا اللاتينية منددا بالانحراف الكبير الذي لحق الكاثوليكية، لكن لا رأي لمن لا يُطاع، أُخمِد الصوت وسُلِّط الحرم على أهله. كان مفتّش العقيدة راتسينغر، الذي يفر من الرمضاء اليوم، هو من حرم زعيم لاهوت التحرر ليوناردو بوف (1984)، وتلك الأيام نداولها بين الناس.
في تحليل لِما ألمّ بالكنيسة، حين نزل خبر استقالة البابا كالصاعقة، هرع الأمريكان إلى اعتبار الصعوبات الاقتصادية هي ما دعت كاتدرائيات أمريكية إلى إعلان الإفلاس، جراء التتبعات القضائية لبعض رجال الدين المورطين جنسيا، وهو ما بلغ أثره إلى كاتدرائية بطرس في روما. صحيح أن المقاربة الأمريكية للحدث صائبة إلى حد ما، ولكن المصاعب الهائلة التي تهز الكنيسة من الداخل، باتت بنيوية، يعجز الفرد عن مجابهتها، ولذلك اختار راتسينغر الاستقالة كحلّ متطرف على واقع مغرق في الوحل، وكمؤمنين نحمد الله أنه لم يختر حلاّ أسوأ.
صحيح ان الرجل فيلسوف لبق لكنه سياسي قصير النظر. فالفتنة التي أشعلها في راتيسبونا بين أتباع عيسى وأحمد عليهما السلام، كشفت عن فشل ذريع، وبالمثل عشية استقالته كاد أن يكرر الخطأ نفسه، فقد كان مشغولا بإعلان ضحايا أوترانتو من الغارة البحرية التي شنّها العثمانيون في سالينتينو سنة 1480م مكرَّمين ، وربما استعدادا لإعلانهم مطوَّبين وإن استدعى الأمر مقدَّسين ، وهي مراتب كنسية لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم. عارضه كرادلة عقلاء في هذا الخيار الجنوني مع العالم الإسلامي، وقد يكون ذلك ما عجّل باستقالته واتهامه بمرض الزهايمر.
عموما التحدي الكبير أمام الكُنْكلاف -مجلس الكرادلة الموكَّل بانتخاب البابا الجديد- وهو كيف ينقذ الكاثوليكية من التدهور المحيق قبل أن ينهدّ البيت على ساكنيه؟ ولكن لسائل أن يسأل هل فعلا يستطيع المجلس الحالي إنقاذ الكنيسة، فإن لم يكن المجلس جزءا من مؤسسة يتهددها الخراب فما هي المؤسسة؟
فالنمط الكنسي الكاثوليكي الذي هوى مع راتسينغر عجز عن تفسير علامات الزمن. وها هو ينزوي في منتجع قصر غاندولف في ريف روما بعد أن هُشِّم خاتم سلطته الحبرية وهو لا يزال حيا يرزق. صحيح ان راتسينغر صرّح أنه لن يهجر الصليب ولكن نمطاً كاثوليكياً قروسطيا أفلَ معه؛ مع ذلك تصرّ، في زمن الوهن الذي تعيشه المسيحية العربية، على الالتحاق بمركب لا تدري أين يبحر، ربما الأمر يذكّر بالأحزاب الشيوعية في العالم الثالث التي لم تتفطن إلى أفول الشيوعية إلا عقب أن خرّ السقف على ساكنيه في موسكو.

(*) أستاذ من تونس بجامعة لاسابيينسا في روما




Comments


7 de 7 commentaires pour l'article 61245

Observateur  (Canada)  |Mardi 5 Mars 2013 à 03:33           
D'après les médias québecoises, le prochain pape pourrait être le cardinal québecois marc ouellet, mais de toute façon , ça ne m’intéresse guère .

IndependentMen  (Tunisia)  |Lundi 4 Mars 2013 à 10:08           
يقول رازينجر منظر السياسة في الفاتيكان: "من يبحث عن حل خارج الكنيسة في عصرنا
الحدث ليس إلا واحد من اثنين:
- العودة إلى عصر ما قبل المسيح – أرسطو وأمثاله.
- التعلق بثقافة غير أوروبية من جهة وبالإسلام من جهة أخرى.
- وبما أن الاحتمال الأول ليس له إمكانية الحياة، فيبقى الاحتمال الثاني – الإسلام – فعلينا
أن نحذر الإسلام أكثر بكثير مما مضى، فهو اليوم يعود من أعماق التاريخ ليقدم بديلاً عن
نظامنا المشبع بالنصرانية".
ويقول في أهمية وجود أندية لملء الفراغ الأيدلوجي لسقوط الشيوعية: "إن حدوث الفراغ
الأيدلوجي في الثقافة العالمية بما يعني الانفتاح على الثقافات الأخرى بما فيها من مثل وقيم
ومبادئ، وإن البقاء على التقليدية الكنسية السابقة، وما لقيصر لقيصر، ولا دين في
السياسة ولا سياسة في الدين، سيترك الأبواب مفتوحة على مصراعيها لدخول الإسلام ".


IndependentMen  (Tunisia)  |Lundi 4 Mars 2013 à 09:47           
كشف الباحث السعودي في مقارنات الأديان وشؤون التنصير والفاتيكان، عصام مدير، الأسباب الحقيقية لاستقال بابا الفاتيكان الذي أعلن اعتزامه الاستقالة، الأمر الذي هّز الأوساط الكاثوليكية في العالم، كأول بابا يقدم على ذلك منذ 6 قرون.
وقال مدير عبر حسابه على "تويتر": إن ما يكشفه من الأسباب الحقيقية لاستقالة بندكت السادس عشر يذاع لأول مرة ؛ وقال مدير إن "أهم أسباب استقالة البابا بعد فضائح قساوسته: تسريب وثيقة فاتيكانية لإنجيل قديم فيه اسم الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أنه "يوجد حالياً في الفاتيكان ثلاثة ممن يكتمون إسلامهم وظل بابا روما يحاول معرفتهم ؛ وأحدهم مسئول عن تسريب وثائق تدين الفاتيكان والبابا أحد هؤلاء الذين أسلموا، وآثر المجاهرة بإسلامه انتقل إلى جنوب إفريقيا حيث
يقيم هناك، بلد الشيخ أحمد ديدات رحمه الله والذي كان سبباً في إسلامه".
وأعلن مدير تحديه رجال الفاتيكان، واستعداده لمواجهه إعلامية على الهواء مباشرة معهم ؛ مؤكداً أن المرض ليس سببًا مقنعًا للاستقالة، حيث كان سلفه يوحنا بولس الثاني أشد مرضًا ولم يستقل.
يشار إلى أن "مدير" كان قد تحدى الفاتيكان "لتكذيب خبر إسلام 35 أسقفاً وقسيسا من كبار رجالاته (أكثرهم كتم إسلامه خشية على حياته واستقال أو أقيل من الفاتيكان)، والتزم البابا وقساوسته الصمت لأكثر من 6 سنوات، وظل الفاتيكان عاجزاً حتى الان عن تكذيب الخبر، ثم استقال البندكت".
وأضاف مدير ان " بابا روما قد حاول التغطية على إسلام هؤلاء بافتعال ضجة من خلال تصريحاته المسيئة للرسول وللاسلام في 2006م ، فانقلب السحر على الساحر ، واستقال أخيراً
وأشار مدير إلى أن مخابرات الفاتيكان تفتش عن تلك الوثيقة التي لا يعلم أحد إلى الآن في يد من وقعت لكن المؤكد أن بابا روما فقدها وقرر أن يفقد معها منصبه فوراً".
ويؤكد مدير ” وجود صدور مذكرات إيقاف والقبض على البابا في عدة دول لو زارها كبريطانيا بسبب تورطه في التغطية على اعتداءات جنسية لقساوسته على غلمان موضحاً أن ” سلسلة من الانهيارات والفضائح والهزائم أمام الدعوة الاسلامية واكتساح الإسلام وتعداد المسلمين الذي فاق الكاثوليك مما اشتكى منه البابا المستقيل”.
واختتم مدير "أحث الدعاة والعلماء لتوظيف الحدث بقوة وأمانة لإخراج الكاثوليك من عبادة البابا وقساوسته إلى عبادة رب العباد".
منقول عن موقع النبأ
http://ennaba.info/

Laabed  (Tunisia)  |Dimanche 3 Mars 2013 à 20:49           
في عصر البابا ببينيديكت السادس عشر،أعلن الفاتيكان أن نظرية التطور الخاصة بتشارلز داروين "لم تكن متضاربة" مع تعاليم الكنيسة الكاثوليكية والإنجيل.و تعكس مصالحة حقيقية بين العقل و العلم و الدين المسيحي و شخصيا استغرب النمط الكاتوليكي القرووسطي الذي يتحدث عنه كاتب المقال عندما يحكي عن البابا جوزيف راتسينغر

Anti_rcd  (Tunisia)  |Dimanche 3 Mars 2013 à 17:53           
وقيل باش يجى لتونس يعمل حزب،أنا متأكد إذا يعملها شطر لبلاد يتبعوه نكاية فى الإسلام

Mandhouj  (France)  |Dimanche 3 Mars 2013 à 16:38 | Par           
Très bel article. Le pouvoir harab!!? Mandhouj tarek.

Nahinaho  (Tunisia)  |Dimanche 3 Mars 2013 à 15:16           
...مواقفه كانت واضحة ضد الإسلام والمسلمين وقد تجلت أكثر إبان حادثة الرسوم المسيئة الشنيعة إذ لم يدنها على الأقل ... كان له موقف واحد صحيح وهو أنه عارض الأبحاث
الطبية وصنع اللأدوية المضادة لمرض السيدا عافى الله الجميع مبينا أن ذاك المرض هو عقاب من الله ضد ممارسي تلكم الأعمال الشنيعة المحرمة في الديانات السماوية الثلاث ... فقامت القيامة ضده في الغرب فأجبر على السكوت والتراجع عن موقفه ذاك .


babnet
All Radio in One    
*.*.*
Arabic Female