دولة الفساد.. تونس الغنيّة و شعبها الفقير

بقلم عبد الرزاق قيراط
سوف لن أتحدّث بلغة الأرقام و النسب التي جاءت في البرنامج الوثائقيّ سقوط دولة الفساد ، فذكْرُ تفاصيلها صادم لعقولنا العاجزة عن استيعاب ذلك الحجم من النهب الذي أتى على ثروات البلاد و حوّلها إلى جيوب عصابة أخطبوطيّة. لذلك سأنطلق من طرفة قيل إنّ القذافي كان يرويها عن بلدنا منذ عقود، هذه الطرفة تقول إنّ تونس من أغنى دول العالم و ستبقى غنيّة و الدليل على ذلك أنّها لم تفلس رغم كثرة اللصوص الذين نهبوها. [انتهت الطرفة].
سوف لن أتحدّث بلغة الأرقام و النسب التي جاءت في البرنامج الوثائقيّ سقوط دولة الفساد ، فذكْرُ تفاصيلها صادم لعقولنا العاجزة عن استيعاب ذلك الحجم من النهب الذي أتى على ثروات البلاد و حوّلها إلى جيوب عصابة أخطبوطيّة. لذلك سأنطلق من طرفة قيل إنّ القذافي كان يرويها عن بلدنا منذ عقود، هذه الطرفة تقول إنّ تونس من أغنى دول العالم و ستبقى غنيّة و الدليل على ذلك أنّها لم تفلس رغم كثرة اللصوص الذين نهبوها. [انتهت الطرفة].
واقع الأمر يدعونا حقيقة إلى تصديق هذه الدعابة و هي مؤلمة أكثر من كونها مضحكة، خاصّة بعد أن اكتشف الشعب التونسيّ بفضل ثورته حجم الثروات التي هرّبت إلى الخارج بواسطة بن علي و أصهاره و من سبقهم. حجم يبدو أنّ حصره عدّا و إحصاءً سيتأخّر قليلا و قد يعجز الخبراء و المحاسبون عن ذلك بعد إتلاف الملفّات التي تُورّط الفاسدين. و يذكّرنا المشهد بأموال قارون التي لا يُعلم مداها بل يُعرف فقط أنّ الصناديق التي بها مفاتيح خزائنه يعجز عن حملها أقوى الرجال، كما جاء في الآية الكريمة إِنّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىَ فَبَغَىَ عَلَيْهِمْ و آَتـيْـنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوّةِ. [القصص/ الآية 76]. و كذلك تنوء لجنة المصادرة بدراسة الملفّات التي تعكف عليها لاسترجاع بعض ما لهفته العصابة، و تحاول مجموعة الخمس و عشرون محاميا تتبّع المسالك التي تبخّرت فيها المليارات، مقرّة بصعوبات لا حصر لها. أمّا ما اقتربنا من حصره فلا يتعدّى البلدان التي وزّعت فيها تلك

حين انطلقت التحقيقات، صدمتنا جميعا صورة الرزم التي وجدوها في إحدى قصور المخلوع، و ظنّ السذّج منّا أنّ أموالنا و الحمد لله في أمان، و اعتقد البعض الآخر أنّ ذلك المبلغ يمثّل كنزا عظيما، و لكنّ الأيام أثبتت حجم بساطتنا و في نفس الوقت حجم فقرنا، لأنّ ما ظهر لنا كنزا لم يكن إلاّ مصروف جيب لبن علي و أسرته الكريمة، أمّا المليارات و الكنوز الحقيقيّة فقد نهبت بشكل منظّم و استقرّت في عشرات البنوك في أرصدة اسميّة و أخرى رقميّة يصعب إثبات وجودها.
المسألة الثانية التي أبهجت الشعب التونسيّ الفقير أنّ دولا كثيرة أعلنت تجميدها لأرصدة المخلوع منها سويسرا و فرنسا. لكنّ التجميد لا يعني استرجاع الأموال بسرعة، فالطريق مازالت طويلة و شاقّة قبل الظفر بملّيم واحد، و سويسرا التي تخفي عنا حجم الأموال الموجودة في بنوكها تماطل و ترفض أن تزّودنا بالمعلومات فما بالك بالمليارات، و هي لا تجد حرجا من إعلان تخوّفها على مصالحها مع العصابات الحاكمة في البلدان الأخرى إن هي سلّمتنا ما بحوزتها من المسروقات ، و عليه فهي غير مستعدّة لتعاون بنّاء مع المنظّمات و الهيئات التي توجّهت إليها مطالبة باسترجاع ما نهبته المافيا. فلا تحلم كثيرا أيّها الشعب الفقير! و إنْ كنت ستحزن فإنّ في الأخبار ما يسلّي فمن المضحكات حقّا أنّ سويسرا نفسها استرجعت تحويلا ماليّا بقيمة مليون و700 ألف دولار صُرف لفائدة الدولة الليبية و تمّ تنزيله في حساب بنكيّ بألمانيا، وذلك في إطار تسوية لملفّ رجل الأعمال السويسري الذي احتجز بطرابلس لمدة سنتين. وأوضحت سويسرا أن عمليّة استرجاع المبلغ تمّت بتنسيق بين وزارة خارجيّتها ونظيرتها الألمانية.
و هنا نلاحظ سرعة الإجراء و نجاعة التعاون، و الأمر معقول و مفهوم إذْ كان التعاون بين دولتين أوروبيّتين!
و المفهوم الآخر من كلّ ما تقدّم أنّ تونس كانت حقّا دولة غنيّة و ستظلّ و لذلك نتمنّى أن لا تذهب ثرواتنا مرّة أخرى إلى قلّة من العائلات التي تتجدّد بتجدّد من يحكمنا. كما نعبّر عن ألمنا من ترتيبات العدالة الانتقاليّة أو ما يسمّى بالمصالحة مع بعض رجال الأعمال و دورها في تنقية الكثير من الملفّات أو تسويتها لغايات اقتصاديّة تنمويّة...فما أبشع هذه الصورة التي نصافح فيها يد السارق و نصفح عنه اضطرارا لا اختيارا!
و بنفس درجة الأسى، ينتابنا شعور قويّ أنّ الأموال المنهوبة لم تكن فقط على حساب النهوض بتعليمنا و صحّتنا و البنية التحتيّة لكلّ شبر من وطننا، بل كانت أيضا على حساب قُوتِنا اليوميّ و ملبسنا و رغد العيش لكلّ فرد من أفراد هذا الشعب الذي لا يُعدّ بعشرات الملايين مثلما هو موجود في البلدان الشقيقة. إنّنا عشرة ملايين ساكن، أقلّ بالنصف من سكّان القاهرة و لا نساوي شيئا بالنسبة إلى الصين أو الهند، فلماذا كلّ هذا الفقر الذي نسمع به. لماذا يشكو التونسيّ من فواتير الكهرباء و الهاتف... و كيف صار الناس في هذا الوطن يحلمون بمن يسدّد عنهم مجرّد فاتورة منتفخة ، و يطلبون قرضا للعيد و قرضا للعودة المدرسيّة، و قرضا للخلاعة.. و آخرون اكتشفنا بعد الثورة أنّهم لا يملكون قوت يومهم، و يبيتون في أكواخ تحت سقوف تتسرّب منها مياه الأمطار، و الحال أنّنا سمعنا ببرنامج مقاومة الأكواخ في أيّام بورقيبة ، و لا فائدة من ذكر الصناديق التي بعثها بن علي.
مسكين أنت أيّها الشعب الفقير، فقد سرقوا أموالك التي كانت ستوفّر لك العلاج المجانيّ و التعليم الجيّد و النقل المريح و العيش الكريم. خطّطوا لينهبوا ثرواتك و صوّروا لك الفقر كأنّه قدر من الله فاستفق الآن فأنت تعيش في بلد غنيّ جدّا. تعلّم كيف تغيّر مطالبك و اطمح مثلا للسفر إلى بلدان العالم للسياحة مرّة في السنة كما يفعل فقراء أوروبا، و فكّر بأن يكون لك سيّارة تغيّرها بعد سنوات قليلة، و بيت لائق تمتلكه دون أن تكرّس كلّ حياتك المهنيّة لتسديد قرض مشطّ.
قفْ من الآن فصاعدا في وجه من يسرق أموالك، حتّى لا تبقى شعبا فقيرا في دولة غنيّة.
Comments
19 de 19 commentaires pour l'article 48026