فلم "جاد" هل يعود بالسينما التونسية إلى موجة الأفلام الاجتماعية؟
منية كواش
لا يخرج المتفرج منشرحا بعد متابعة فيلم "جاد" للمخرج الشاب جميل النجار، وهو أوّل فيلم روائي طويل له فقد أخرج قبله فيلمين قصيرين ، حاز أحدهما ( فيلم "التسلل" بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان أفلام الهواة في قليبية). يغادر المتفرج القاعة مثقلا بمزيج من الحيرة والحزن والامتنان فقد عرض عليه الفيلم مشاهد واقعية تبرز أن الفساد عشش في مؤسسات البلاد وبدأ ينخرها . إختار مخرج الفيلم واقع الصحة العمومية وبالتحديد المستشفى العمومي كفضاء مصغّر، شخّص فيه أمراض المجتمع التونسي وتناقضاته.
هذا الفيلم إلى روح الطبيب جاد
ويعد مخرج الفيلم جميل النجار من جيل السينمائيين الشبّان الذين عاشوا الثورة التونسية بتناقضاتها وأحلامها وإحباطاتهاوإنتظروا بفارغ الصبر نتائجها فإنعكس طول إنتظارهم على إنتاجهم وتجسد في قراءاتهم الفنية والنقدية لمجتمعهم الزاخر بالطاقات الشبابية التي تجد نفسها عاجزة، ومقيّدة أمام فساد كبير وصغير طال كل المجالات .في تصريحات إعلامية ، أجاب المخرج جميل نجار ،المتحصل على دبلوم مساعد مخرج من المعهد العالي للفنون والوسائط المتعددة بمنوبة (2000)، أنه أراد من خلال فيلم "جاد" تكريم روح الناشط الدكتور "جاد الهنشيري"، وهو طبيب شاب ، توفّي في مقتبل العمر، عرف بحبه لمهنته وقربه من أبناء وطنه. نقد الوضع العام لقطاع الصحة العمومية وفضح الفساد الذي إستشرى في المؤسسات . كان يحلم ويناضل من أجل عدالة إجتماعية وينادي بحق المواطن التونسي في العلاج ضمن منظومة علاجية عمومية سليمة.
ينطلق الفيلم المستوحى من الواقع ، من حادث طريق يتعرّض له "نور"، رجل الأعمال سليل عائلة "القادري" ذات الوجاهة الاجتماعية، تنقله سيارة إسعاف الحماية المدنية في حالة صحية ، تقارب الموت، إلى مستشفى عمومي أين ستدور جلّ الأحداث، حاولت عائلته نقله إلى مصحّة خاصة إلا أن حالته الصحية الحرجة لم تسمح بمغادرته المستشفى . بعد نصف ساعة من وصوله إلى المستشفى تنقل سيارة إسعاف أخرى عامل بناء سقط من علو كبير إلى نفس القسم
الكيل بمكيالين
وضع الفيلم المشاهد أمام مريضين من طبقتين إجتماعيتين مختلفتين ومتوازيتين فإلتقت عائلة نور الثرية بعائلة عامل البناء الفقيرة وهو أمر متخيل وغير معهود .وقد أراد المخرج بهذا التمشي تسليط الضوء بوضوح وبتدرّج على التعامل غير المتكافئ والمفضوح لعائلتين تونسيتين وجدتا في مؤسسة عمومية حاضنة لكل التونسيين على حد السوى .يضعنا الفيلم أمام الكيل بمكيالين وتمييز في المعاملات بين الفقير والغني ، ينتهي بتبجيل عائلة نور القادري الميسورة عن عائلة عامل البناء ويمنحها إمتيازات وتسهيلات مقابل المال الذي إشترت به ذمم بعض العاملين في المستشفى فسهلوا لها الدخول في كل وقت ودون إستئذان وسمحوا لها أيضا بما هو ممنوع ومضر فتركوها تدخل غرفة الإنعاش بمقابل مالي وضعته الممرضة المرتشية في جيبها علنا وليس خلسة (قامت بدور هذه الممرضة الممثلة سوسن معالج)، وفي المقابل طبقت القوانين والأوامر على عائلة المريض عامل البناء ولم تسمح لها بزيارة إبنها في غرفة الإنعاش بل تم إستبلاهها وإستغلالها والتحيل عليها من طرف ممرض مرتش (قام بدور الأخت المسرحية : ياسمين الديماسي) تطرق الفيلم إلى سلوكيات ومواقف الطبيب رئيس قسم الإنعاش وعرى تمييزه وإعتماده مقاييس مزدوجة يعامل بها المرضى وعائلاتهم على أساس الجاه والعلاقات .
لم يقع المخرج في فخ الأفكار النمطية ولم يربط الغنى بالشر والظلم وصور عائلة القادري الميسورة تتصرف تصرفات نبيلة وتشعر بمحن غيرها وتساعد عائلة عامل البناء الفقيرة فتكلف الممرض المرتشي بأن يكتري لها منزلا ترعى فيه إبنها الملزم بمغادرة المستشفى لا لتعافيه بل لحاجة رئيس القسم إلى غرفة شاغرة يضع فيها مريضا جديدا له باع وذراع.
المبالغة للتأثير في الجمهور
كتب فيلم "جاد" بتصور مسرحي فبدت أروقة المستشفى العمومي وكأنها ركح وفضاء مسرحي فقد إعتمد المخرج على مشاهد كاريكاتورية، لما توحي به من غرابة ومبالغة ، مركزا على التعابير الجسدية وعلى ملامح الوجه لتضخيم السمات بتصغير أو تكبير أجزاء الوجه للمبالغة وإبراز حجم الفعل ودرجة خطورته لإستهداف الجمهور والتأثير عليه تأثيرا بصريا سريعا وإرسال رسالة نقدية ، واضحة ومفهومة ، لجميع شرائحهو مستوياته من أجل التأثير فيه ورجه ليفكر ويتأمل .أتقن الممثل عبد الكريم البناني دور ممرض المستشفى العمومي وتقمصه إلى أن إنصهر فيه مما جعل المتفرج يشعر وكأنه فعلا أمام ممرض حقيقي ، إلتقى به وجها لوجه في المستشفيات العمومية. جسّد الممثل عبد الكريم البناني دور الممرض النمطي الكلاسيكي ، الجشع ، المتمعش المرتشي ، المطبع مع الفساد الصغير و القيدوم الذي قضى معظم سنين عمره بالمستشفى فخبر دواليبه وأغواره وأصبح متحكما فيه، جاعلا منه مكانا خاصا وحميميا له .
ركز مخرج الفيلم على سلوكيات ومواقف منصف الممرض المرتشي وجعل من تحركاته وملامحه ومظهره الخارجي وهندامه وطريقة أكله وكل جزئية فيه تشير إلى جشعه وطمعه وعدم إحترامه لفضاء عمله وإستغلاله لوظيفته وتمعشه من فضاء صحي عمومي يحتاجه المواطن في أحلك ظروفه . .
الغني ليس بالضرورة شريرا
جعل المخرج جميل النجار للشاب أحمد أخ المريض الثري ( قام بدور أحمد الممثل محمد مراد ) شخصا مثاليا ،اطيب ، يتحلى بمبادئ إنسانية . كما صوره في صورة كاريكاتورية وضخم من ملامح وجهه وتعابيره ليبرز بها حجم توتره وخوفه من الفقد ومدى تعاطفه ومحبته لأخيه فصوره راكضا في سباق ماراتونيا ضد عقارب الساعة يريد أن يوقفها ليتمكن من خدمة أخيه وينقذه من الموت وجعله بحالات هيستيرية جراء ما شاهده من تهاون أعوان الصحة وإهمالهم للمرضى ، ما يسبب في حتفهم .إستبلاه وإستغلال
وفي الصف الموازي بذلت الممثلة ياسمين الديماسي كل ما في وسعها لتوفير الدواء لأخيها حتى يشفى وينجو من الموت فتعرّضت للإستبلاه وللإستغلال من طرف الممرض الشرير والمرتشي إفتك لها أموالها رغم قلة إمكانياتها فهي من الكادحات والمهمشات ، تجول الشوارع يوميا لإلتقاط القوارير البلاستيكية .فيجرؤ هذا الممرض الجشع ويأمرها بالذهاب إلى صيدلية خارجية لإقتناء دواء لأخيها لا يزيد في الأصل ثمنه عن خمسة دنانير وبتآمر مع المعين الصيدلي يصبح ثمنه مائة وأربعون دينارا ، فتصدقه وتتدبر أمرها رغم ظروفها القاسية فالمهم عندها أن يشفى أخاها . إختيار موفق للممثلين
أحسن المخرج إختيارأبطال فيلمه ومنح كل منهم دورا يتماشى مع مظهره "وبروفايله"قامت بدور والدة عامل البناء الممثلة أمال الهذيلي ، بدت مستسلمة لقدرها ، راضية بواقعها لا تشكو وضعها وعلى العكس باح وجهها من خلال تعابيره وتقاسيمه وتجاعيده البارزة عن آلامها وقساوة الحياة عليها فأثرت في المشاهد وجعلته يتعاطف معها ويتمنى الشفاء لإبنها.
يزخر الفلم بالثنائيات المتناقضة،فزيادة على ثنائية الأسرة الميسورة والأسرة المعدمة، طرح ثنائية الممرضتين واحدة بلغت مرحلة من اليأس فقررت الإستغناء عن وجود رجل في حياتها ، متقوقعة عن نفسها مقتربة من ربها ،لكنها رغم تحجبها وتدينها لا ترى مانعا في قبول رشوة والمطالبة بها . وفي المقابل نجد زميلتها تسعى للبروز، معتمدة على جسدها علها تحصل على زوج ثري ، يتفانى في خدمتها .
تطرق المخرج إلى فكرة المجد والتفاخر الفردي التي طغت على الأولويات العامة واللازمة وعلى حساب الخدمات الصحية اللائقة فصور لنا مواقف وسلوكيات رئيس قسم الإنعاش(الممثل جمال ساسي) في مشهد كاريكاتوري ، مكرسا جهده ووقته من أجل الحصول على شهرة وهمية ولقاءات إعلامية يشبع بها غروره ويعبر بها عن نجاحه ، مهملا مسؤوليته ومتهاونا في الإضطلاع بدوره وواجبه فاشلا في تأمين سلامة مرضى وضعوا تحت رعايته وعلى مسؤوليته
ثنائيات تختلف وتتقاطع
بين المخرج أن هذه الثنائيات لم تخلو أيضا من تقاطع وإلتقاء ، فرغم الاختلاف الطبقي الواضح، جمع بين شخصيات الفيلم مصيرا مشتركا شبه حتميا ، فتدنّي الخدمات في المستشفيات العمومية يتضرر منها الغني والفقير، كما يقف الجميع عاجزين أمام سلطة الموت ويلجؤون إلى الخطاب الدّيني لمواجهة مخلفاته وآثاره كما أن المقبرة في بعدها المكاني هي مآل الجميع وهو المشهد الذي ينتهي به الفلم. بين المخرج أيضا في هذا الفيلم أن الروابط العائلية في تونس لا زالت قائمة وأن العائلات غنية كانت أم فقيرة ينتابها نفس شعور اللوعة والحرقة من الفراق ومن الألم والظلم والعجز أمام جبروت الموت مبرزا أن الطيبة ليست حكرا على أحد بل هي طبيعة إنسانية توجد لدى الأغنياء والفقراء
عرّى فيلم جاد تناقضات المجتمع التونسي وتخبطه بين الفكرة وضدها ،وجمعه بين المقبول والممنوع وشرعنته للفساد الصغير بتعلة الحاجة وقلة الحيلة لتتفاقم هذه الظاهرة أمام اللامبالاة وبتقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة .كما أرسل للجمهور رسائل طمئنة وأمل مجسدة في إنقاذ نور لقطة من الموت قبل نصف ساعة من تعرضه إلى حادث المرور مما يدل على رهافة إحساسه وإنسانيته .
هل يعد فيلم "جاد" مؤشّرا لعودة الفيلم الاجتماعي، مثلما بشّر به فيلم "السيدة" (1996) لمحمد الزرن، الذي ركز على المجتمع ككل وهنا إختار المخرج المستشفى العمومي فضاء لفيلمه ليعري نقائصه ومحدودية خدماته ويكشف الفساد المعشش به . فلم "جاد" يعكس الحسّ الاجتماعي للمخرج الذي إستعمل مشرح الطبيب لتشخيص تردّي خدمات القطاع العام في المجال الصحّي وانتشار الفساد.





Comments
0 de 0 commentaires pour l'article 319914