حنّون... القرطاجي الذي سبق كولومبوس إلى اكتشاف أمريكا

بقلم: نورالدين بن منصور
ما يزال أغلب الناس يردّون اكتشاف القارة الأمريكية إلى سنة 1492 مع وصول كريستوف كولومبوس إلى جزر الكاريبي بحثًا عن طريق بحري إلى آسيا. غير أنّ سردية “البداية الحديثة” هذه تُغفل، في رأيي، صفحة أقدم من تاريخ الملاحة: صفحة حنّون القرطاجي، المستكشف القادم من قرطاج، والذي تطرح رحلته البحرية أسئلة جدّية حول من وصل أوّلًا إلى ما نسمّيه اليوم “العالم الجديد”.
ما يزال أغلب الناس يردّون اكتشاف القارة الأمريكية إلى سنة 1492 مع وصول كريستوف كولومبوس إلى جزر الكاريبي بحثًا عن طريق بحري إلى آسيا. غير أنّ سردية “البداية الحديثة” هذه تُغفل، في رأيي، صفحة أقدم من تاريخ الملاحة: صفحة حنّون القرطاجي، المستكشف القادم من قرطاج، والذي تطرح رحلته البحرية أسئلة جدّية حول من وصل أوّلًا إلى ما نسمّيه اليوم “العالم الجديد”.
حنّون أم هانو؟ تصحيح اسم وهوية
الاسم الأصلي للرحّالة هو حنّون بحرف الحاء، لا “هانو”. فالمُدوّنون الأوائل من الإغريق والأوروبيين عجزوا عن نطق الحاء العربية/الفينيقية، فحوّلوا الاسم صوتيًا إلى “هانو/هنّون”.تُظهر الكتابة البونيقية الفرق جليًا بين حرف 𐤇 (ح) و𐤄 (هـ). وتَرِدُ صيغة الاسم في النقوش على نحو 𐤇𐤍𐤍 بما يعضد نطق حنّون. إنّ التثبّت من الرسم الأصلي ليس تفصيلاً لغويًا فحسب، بل هو استعادةٌ لهويةٍ حضاريةٍ فينيقية جرى تبسيطها أو تحريفها في النقل.
قرطاج: الجغرافيا التي صنعت بحرًا
اختار الفينيقيون/القرطاجيون مواقع مستعمراتهم البحرية بمعايير دقيقة: مرافئ آمنة، قربٌ من طرق التجارة، ومؤونة بحرية.هكذا نشأت قرطاج على شبه جزيرة مثلّثة في خليج تونس، تسندها بحيرة تونس بمرساتها الآمنة، وتحميها التلال المنخفضة من عواصف المتوسط. هذا الموقع قابل للدفاع ويسمح بالتحكّم في مضيق صقلية، أي في عقدة التجارة بين شرق وغرب البحر. وعلى تلة بيرسا قامت القلعة، فيما كشفت التنقيبات عن أقدم المدافن وإن شحّت البقايا المعمارية الأولى داخل المدينة.
رحلة حنّون: من تأسيس الحواضر إلى تخوم المجهول
قاد حنّون في القرن الخامس قبل الميلاد أسطولًا من عدّة سفن تحمل آلاف الرجال وقلّة من النساء في بعثة استكشاف واستيطان على الساحل الأطلسي الإفريقي.* أسّس ثيميتيريون (تُنسب مواضعها إلى القنيطرة حاليًا ومحيطها)، وبنى معبدًا في سولويس (رأس كانتين/رأس مدّوزة).
أنشأ حصن كاريان (Karykon Teichos*) وأكرا (يُقرَن اسمها بـأغادير) على الساحل المغربي.
وفي أقصى الجنوب أسّس مدينة سيرنِ (Cernê*) مرْكَزًا تجاريًا (تُنسب أحيانًا إلى نهر الذهب).
* تذكر روايات الرحلة بلوغ سواحل غامبيا أو سيراليون، وربما الكاميرون.
دوّن القرطاجيون سرد الرحلة على لوحٍ في معبد بعل بقرطاج، وحفظته لنا مخطوطة يونانية من القرن العاشر تُعرف بـ«بيريبلوس حنّون»، على أنها ترجمة قديمة عن نقشٍ بونيقي مفقود. ومع ذلك، يشكّك بعض الباحثين المعاصرين في امتداد الرحلة جنوب المغرب إلى ما بعده، لقصور الأدلة الحاسمة.
هل عبر القرطاجيون الأطلسي؟ فرضية إلى النقاش
تطرح دراسات حديثة احتمال أن يكون القرطاجيون – وربما حنّون نفسه – قد عبروا الأطلسي وبلغوا أمريكا الجنوبية.يقدّم هانز جيفهورن أطروحة مثيرة مفادها أنّ موجات من ملاّحي المتوسط وصلت إلى سواحل البرازيل قرب مصبّ الأمازون، ثم تابعت على طول النهر نحو المنحدر الغربي لجبال الأنديز في شمال بيرو، حيث نشأت حضارة تشاشابويا (Chachapoya).
* يستند الطرح إلى تشابهات معمارية: الأكواخ الدائرية والبناء الحجري الضخم في حصن كويلاب، وأنماطٍ تُرى أيضًا في مايركا وإيبيزا وشمال إسبانيا.
* تبقى هذه الأدلة قرائن مقارنة لا براهين أثرية قاطعة، لكنها تدعو إلى إعادة فتح الملف بجدّية علمية.
المسارات الأخرى: الفايكنج ومضيق بيرنغ و”حافة الجليد”
أُثبت اليوم أن الفايكنج وصلوا إلى أمريكا الشمالية في العصور الوسطى (آثار لونسبو ميدوز مثلًا). كما تُجمع الأبحاث على عبور جماعات آسيوية مغولية إلى “العالم الجديد” عبر مضيق بيرنغ.وتطرح بعض الدراسات إمكانية وصول أوروبيين على حافة الأطلسي الجليدية في أواخر العصر الجليدي. هذه المسارات لا تنفي أخرى محتملة، بل تثري خريطة الهجرات والاكتشافات وتفكّك سردية “الطريق الواحد”.
حنّون في ذاكرة تونس
يحمل نهج باسم حنّون في تونس العاصمة، بمحاذاة شارع فرنسا، شاهدًا رمزيًا على حضور الرحّالة في وجدان المدينة. استعادة الاسم في الفضاء العام ربطٌ بين شرقٍ فينيقيّ وغربٍ أوروبيّ عبر جغرافيا تونس وموانئها.بين الحماسة والصرامة: كيف نكتب هذا التاريخ؟
* نُحيّي جرأة الفرضيات التي تُعيد الاعتبار لعلوم الملاحة عند القرطاجيين.* نُميّز بين قرائن مقارنة ودلائل أثرية موثّقة، فلا ننقل الفرضيات إلى خانة “الحقائق” قبل استكمال الأدلة.
* ندعو إلى مشاريع تنقيبات مشتركة، وقراءة نقدية جديدة لنصّ البيريبلوس، وتوظيف الاستشعار عن بعد على مسارات الأطلسي الإفريقي.
سواء ثبتت عبوريات قرطاج إلى الأمريكتين أو بقيت في حيّز الاحتمال، فإنّ حنّون القرطاجي يظلّ أيقونةً لروح الاكتشاف التي صنعت تاريخ تونس البحري. إنّ روايتنا عن “من اكتشف أمريكا؟” لا ينبغي أن تُختزل في سنة 1492، بل أن تُروى كقصةٍ متعدّدة الخيوط شارك فيها المتوسطيون، الإسكندنافيون، وآسيويو الشمال على مرّ آلاف السنين.
إعادة هذه الصفحات إلى الواجهة ليست ترفًا ثقافيًا، بل واجبًا حضاريًا يُنصف قرطاج ويمكّن أبناءها اليوم من تخيّل مستقبلٍ بحجم ماضيهم.
Comments
0 de 0 commentaires pour l'article 316576