غزة تحترق

في شوارع غزة المدمّرة، تتداخل أصوات الانفجارات مع صرخات الناس، فيما يغطي الدخان سماء مدينة تحولت إلى ما يشبه الجحيم المفتوح.
الثلاثاء كان يوما ثقيلا آخر، إذ شنت إسرائيل ما تصفه بأنه "المرحلة الرئيسية" من هجومها البري على المدينة. أما على لسان سكانها، فالمشهد أوضح: "غزة تحترق".
الثلاثاء كان يوما ثقيلا آخر، إذ شنت إسرائيل ما تصفه بأنه "المرحلة الرئيسية" من هجومها البري على المدينة. أما على لسان سكانها، فالمشهد أوضح: "غزة تحترق".
لم يكد الفجر يطل حتى كانت أصوات الانفجارات قد سبقت ضوء الشمس، ومع كل ساعة مرت حتى عصر الثلاثاء، كانت غزة تحصي المزيد من أبنائها، معظمهم في شمال القطاع حيث لم تتوقف الغارات ولا القذائف.
في مستشفى الشفاء، تحولت الممرات إلى ما يشبه مقبرة مفتوحة، 55 جثمانا وضعت إلى جانب بعضها البعض، بعضهم أطفال لا تزال ألعابهم بين أيديهم. وفي المستشفى المعمداني استقبل الأطباء 23 شهيدا، بينهم عائلة كاملة لم ينج منها أحد.
أما مستشفى القدس في تل الهوى، فشهد لحظات صمت ثقيلة حين دخلت جثة شاب كان قد ودع خطيبته قبل أيام برسالة قصيرة: "سننجو". لم يسعفه الوعد.
وفي مستشفى العودة والأقصى وناصر، وصلت جثث أخرى متناثرة من القصف في الوسط والجنوب، حيث لم تسلم أي بقعة من النار.
ثمانية من كل عشرة شهداء اليوم جاؤوا من شمال القطاع، من أحياء تحولت إلى ركام.
في الخارج، عند بوابات المستشفيات، لم تعد الدموع تكفي. نساء ينتحبن ويمسكن بصور أحبائهن، ورجال صامتون يحدقون في الفراغ كأنهم ينتظرون دورهم. غزة، التي فقدت 94 روحا في نصف يوم والعدد مرشح للزيادة، لا تعرف كم ستفقد غدا من أبنائها، أم ستكون هناك مساحة لالتقاط الأنفاس ترحم أهل القطاع من أرقام الشهداء اليومية المفجعة.
مشاهد صادمة.. سكان عاجزون
في منتصف الليل، أصاب صاروخ إسرائيلي بنايتين في حي الشيخ رضوان شمال غرب غزة. بعد دقائق، تجمع رجال يتسلقون أكوام الخرسانة بأيديهم العارية، بحثاً عن ناجين.وسط الركام، انتشلت جثة طفلة صغيرة. لفّوها على عجل ببطانية خضراء وحملوها بعيداً، بينما وقفت والدتها تبكي بلا صوت، كأن الدموع وحدها بقيت لغة الألم.
يقول أبو محمد حامد، وهو يحاول إخراج قريبة محاصرة تحت كتلة إسمنتية ضخمة: "منذ الثالثة فجراً ونحن نحاول… لا نعرف كيف نخرجها."
مع بزوغ الصباح، انطلقت طوابير من العائلات في رحلة نزوح جديدة. سيارات مثقلة، عربات تجرها الحمير، وأطفال يسيرون حفاة تحت الشمس.
أبو تامر، سبعيني فقد منزله، كتب لصحفي عبر رسالة نصية: "يهدمون الأبراج… هذه كانت معالم المدينة. يدمرون المساجد، المدارس، الطرق… يمسحون ذكرياتنا."
لكن ليس الجميع يستطيع الرحيل. أم محمد، المقيمة في حي الصبرة، رفضت مغادرة بيتها رغم القصف: "يعني زي اللي بيهرب من موت لموت. مش طالعين."
الموت لم يعد يأتي فقط من السماء. في المستشفيات القليلة المتبقية، أعلن الأطباء وفاة ثلاثة أشخاص، بينهم طفل، بسبب الجوع خلال يوم واحد. حصيلة ضحايا سوء التغذية ارتفعت إلى 428، معظمهم خلال الشهرين الأخيرين.
"إنها مجاعة من صنع الإنسان"، تقول الأمم المتحدة. لكن هذا التعبير الجاف لا يعكس مأساة الأمهات اللواتي يراقبن أطفالهن يذبلون ببطء لغياب الحليب والطعام.
صامدون رغم الثمن.. حياتهم
رغم القصف العنيف وحملة التهجير، يؤكد أكثر من مليون فلسطيني في مدينة غزة وشمالها أنهم باقون في بيوتهم وأرضهم، رافضين النزوح جنوبا.خلال الأيام الماضية، اضطر نحو 190 ألف شخص لمغادرة منازلهم تحت وطأة القصف، لكن آخرين عادوا إلى أحيائهم المدمرة بعدما وجدوا الجنوب أكثر قسوة وانعداماً لمقومات الحياة.
في المقابل، تتكدس مئات الآلاف في مناطق المواصي بخان يونس ورفح، التي يصفها الاحتلال بـ"الآمنة"، لكنها تحولت إلى مسرح لمجازر متكررة أودت بحياة آلاف المدنيين، وسط غياب الماء والغذاء والمستشفيات.
بالنسبة للفلسطينيين هنا، الأمر لم يعد مجرد نزوح مؤقت، بل محاولة لاقتلاع شعب كامل من جذوره. ومع ذلك، يقولون إنهم سيبقون حيث وُلدوا، حتى لو كان الثمن حياتهم.
أمريكا تدعم الابادة
بينما تتقاذف العواصم بيانات الدعم والإدانة، يعيش الغزيون يوما بيوم، ساعة بساعة. الولايات المتحدة منحت غطاءً سياسياً للهجوم، فيما حذرت أوروبا من "جرائم لا يمكن تبريرها". لكن في شوارع غزة، لا يعني هذا كثيراً.كل ما يهم عائلة كعائلة أبو غليبة، التي فقدت منزلها وفلذة من أبنائها، هو أن تجد مكاناً يقيها المطر القادم.
في القدس، خرجت عائلات رهائن إسرائيليين محتجزين في غزة للاحتجاج على استمرار الهجوم. عنات أنجريست، والدة أحدهم، قالت: "أحباؤنا يتعرضون للقصف بأوامر من رئيس الوزراء… قد لا يعودون."
لكن في غزة، الأمهات لا يحتججن. أصواتهن محاصرة تحت الركام، أو مكتومة في الخيام، أو مدفونة مع أبنائهن في مقابر جماعية.
غزة تحترق… والبشر يحترقون معها
بحسب وزارة الصحة في غزة، تجاوز عدد الشهداء الفلسطينيين منذ بداية الحرب 64 ألفاً. الرقم لا يقول شيئاً عن حياة أم فقدت جميع أبنائها، أو طفل ينتظر دوره في طابور الخبز وهو لا يعرف إن كان القصف سيسبقه.في كل زاوية من غزة، جملة واحدة تتردد، تختصر كل شيء: "غزة تحترق".
Comments
0 de 0 commentaires pour l'article 314960