تنقيح الفصل 96 من المجلة الجنائية..رفع السيف المسلط على الرقاب والتأسيس للإدارة المسؤولة

بقلم: ريم بالخذيري
لاشكّ أن الإدارة كانت و لا تزال العمود الفقري لأيّ مجتمع مثلها مثل النسيج الجمعياتي بمختلف الاختصاصات. و بحكم الالتصاق اليومي لهذه الهياكل بمشاغل الحياة اليومية للمواطنين كان لابدّ من صياغة قوانين خاصة تنظّم سيرها و تسييرها و مهامّ المسؤولين. كذلك فالقوانين العقابية للمخلّين بالمسؤولية أو المتهمين بالتقصير و الإهمال لابدّ أن يكون لفقه القضاء و لاجتهاد القاضي الكلمة الفصل قبل القانون الجناحي أو الجنائي الذي يطبّق على الجميع.
لاشكّ أن الإدارة كانت و لا تزال العمود الفقري لأيّ مجتمع مثلها مثل النسيج الجمعياتي بمختلف الاختصاصات. و بحكم الالتصاق اليومي لهذه الهياكل بمشاغل الحياة اليومية للمواطنين كان لابدّ من صياغة قوانين خاصة تنظّم سيرها و تسييرها و مهامّ المسؤولين. كذلك فالقوانين العقابية للمخلّين بالمسؤولية أو المتهمين بالتقصير و الإهمال لابدّ أن يكون لفقه القضاء و لاجتهاد القاضي الكلمة الفصل قبل القانون الجناحي أو الجنائي الذي يطبّق على الجميع.

وكلّما كانت هذه القوانين مرنة و صارمة كلما كان الآداء الإداري أكثر نجاعة لأن الوظيفة إضافة و المدير ليس الذي يدير الأمور فحسب و إنما الذي يبتكر الحلول و لا يقتصر عما منوط بعهدته. وكل موظّف عليه أن يكون مديرًا في وظيفته يتحلّى بروح المسؤولية و الشجاعة في أخذ القرارات و ليس مجرّد مستكتب يتلقى و ينفذ التعليمات و النصوص الجاهزة.
و الواقع أن الإدارة التونسية طالما كبّلت بقوانين حدّت كثيرا من نجاعتها و حكمت عليها بالجمود و منعتها من التطور و نزعت منها روح التطوير و السبب هو الخوف من العقوبات وعدم وضوح الرؤية القانونية.
وطالما شكّل الفصل 96 من المجلة الجنائية سيفًا مسلّطًا على رقاب الإداريين بمختلف رتبهم ومناصبهم وعامل شدّ إلى الوراء. و اليوم بعد تنقيح هذا الفصل استبشر مئات الآلاف من الموظفين فقد منحهم هذا التنقيح مثلما سنبين لاحقا حصانة قانونية هامة ستعود بالنفع لا عليهم فقط و إنما على الإدارة عموما و المواطنين خاصة.
فماهو الفصل 96 بصيغته القديمة و مساوئه؟ و ماهو التنقيح الجديد و فوائده؟
القديم المثير للجدل
الفصل 96 من المجلة الجزائية التونسية هو فصل شهير ومثير للجدل سنّ في 1985، ويمثل أحد النصوص القانونية التي طُبّقت بشكل واسع في قضايا "الفساد الإداري والمالي"، خاصة ضد موظفين عموميين. و ينص الفصل:"يعاقب بالسجن مدة عشرة أعوام وبخطية قدرها عشرة آلاف دينار، الموظف العمومي أو شبهه، الذي يستغلّ صفته لاستخلاص فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره أو للإضرار بالإدارة."
فهو كان يشمل كل من يُعتبر موظفًا عموميًا أو شبه موظف عمومي (أي يشتغل بمؤسسة عمومية، بلدية، ديوان، شركة مصادرة أو تموّل من الدولة،...). وعقوبته السجن 10 سنوات وخطيّة مالية بـ10 آلاف دينار.
ومصدر الجدل فيه هو انه يمكن تأويله بعدة طرق، ما يجعله عرضة للاستخدام الواسع، أحيانًا حتى ضد من لم يثبت عليهم ضرر مباشر. ولأنه لا يُفرّق بوضوح بين الخطأ الإداري العادي والجرم الجزائي، مما تسبّب في معاقبة مسؤولين نزيهين بسبب قرارات إدارية تقديرية. كما تم استخدامه كثيرًا في قضايا "الفساد" ضد موظفين سابقين.
شكّل الفصل 96، بصيغته السابقة، سيفًا مسلطًا على رقاب الموظفين العموميين و المسؤولين، إذ يعتمد على صياغة عامة مفتوحة على أبواب كثيرة من التأويلات تفتقر إلى الدقة في تحديد أركان الجريمة، لا سيما غياب شرط القصد الجنائي الواضح. هذا الغموض القانوني فتح الباب أمام اجتهادات كانت في غير محلها في بعض الأحيان سمحت بملاحقة إطارات ومسؤولين على قرارات إدارية أو تقديرات ميدانية لم تُثبت فيها نوايا فساد أو إضرار.
ونتيجة لذلك، تحوّل الفصل إلى أداة ردع نفسي ورقابة ذاتية دفعت العديد من الموظفين إلى الجمود الإداري، خوفًا من الزج بهم في دوامة التحقيقات والمحاكمات. وقد أثّر هذا الوضع بشكل مباشر على فعالية الإدارة العمومية، التي أصبحت تُدار من منطلق الخوف لا من منطلق المسؤولية، ما عطّل مصالح المواطنين، وجمّد المشاريع، وعمّق البيروقراطية.
كما تحوّل استعماله الخاطئ في ضرب الإدارة و تصفية الحسابات حتى بين المسؤولين أنفسهم من نفس الإدارة. بل انه ساهم أيضا في تعثّر الرياضة في تونس من خلال عزوف الشخصيات الرياضية عن إدارة الجمعيات و الهياكل الرياضية و الجمعيات المدنية (بمقتضاه اليوم مسجون رئيس جامعة تونسية لكرة القدم، ورئيس جمعية تونسية للوقاية من حوادث المرور).
وبالتالي فقد كان تنقيحه ضروريا للتحرّر من الخوف و إطلاق روح المبادرة من جديد.
الجديد الباعث على الأمل
يوم 28 جويلية 2025 سيبقى خالدا في الذاكرة الوطنية للإدارة التونسية حيث فيه صدر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية قانون عدد 14 لسنة 2025 يتعلق بتنقيح بعض أحكام المجلة الجزائية. وورد فيه:أنه تلغى أحكام الفصل 96 والفصل 98 من المجلة الجزائية وتعوض بالأحكام التالية:
الفصل 96 (جديد):
يعاقب بالسجن مدة ستة (6) أعوام وبخطية تساوي قيمة المضرة الحاصلة للإدارة الموظف العمومي أو شبهه، وكل مستخدم في مؤسسة اقتصادية أو اجتماعية تساهم الدولة في رأسمالها، المكلف بمقتضى وظيفه ببيع أو صنع أو شراء أو إدارة أو حفظ أي مكاسب، الذي تعمد استغلال صفته ليُلحق ضررا ماديا بالإدارة مقابل استخلاص فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره.
وإذا حصل الإضرار بمؤسسة تساهم الدولة في رأسمالها فإن الخطية تحتسب بقدر نسبة إسهامها فيها.
الفصل 98 (جديد):
على المحكمة في جميع الصور المنصوص عليها بالفصل 96 (جديد) أن تحكم فضلا عن العقوبات المبينة بهذا الفصل برد ما وقع الاستيلاء عليه أو اختلاسه أو قيمة ما حصل عليه من منفعة أو ربح، ولو انتقلت إلى أصول الفاعل أو فروعه أو إخوته أو زوجته أو أصهاره وسواء بقيت تلك الأموال على حالها أو وقع تحويلها إلى مكاسب أخرى.
ولا يتحرر هؤلاء من هذا الحكم إلا إذا أثبتوا أن مأتى هذه الأموال أو المكاسب لم يكن من متحصل الجريمة مع مراعاة الفقرة الثانية من الفصل 96 (جديد).
و المهم في هذا التنقيح هو ما جاء في الفقرة الأخيرة من هذا التنقيح:
"وللمحكمة في جميع الصور الواردة بالفصل المذكور أن تسلط إحدى العقوبات التكميلية المقررة بالفصل الخامس من هذه المجلة على من ثبتت إدانته."
حيث منحت مزيدا من الحرية للقاضي في إثبات سوء نية الضرر من عدمها بالنسبة للموظف أو تحقيق منفعة من عدمها من وراء اتخاذ قرار ما.
التمييز الجوهري الجديد
مختصر التنقيح هو وجوب التمييز بين حالتين قانونيتين:1. الانحراف بالوظيفة أو استغلالها لتحقيق مصلحة شخصية غير مشروعة → يُجرّم ويُعاقب بشرط إثبات القصد الجنائي.
2. مخالفة التراتيب الإدارية فقط، دون وجود نية إضرار أو انتفاع → لا تُعدّ جريمة.
وهذا التمييز يمثل تطورًا تشريعيًا هامًا، يُحدّ من التوسّع السابق في تكييف مجرد الأخطاء الإدارية كجرائم، ويُعيد التوازن بين واجب المحاسبة ومبدأ الشرعية.
كما يُعيد للمسؤول الثقة بنفسه وينزع عنه الخوف من اتخاذ قرارات تبدو له عن حسن نية جيدة، فيثبت فشلها أو محدوديتها.
المنتفعون...
كثر هم المنتفعون من هذا القانون الجديد:* أولهم من سيتمّ إطلاق سراحهم بمفعول رجعي للقانون.
* ثانيهم الإدارة التونسية والهياكل الوطنية التي ستُضخ فيها دماء جديدة.
* ثالثهم المواطن، الذي سيحسّ بتغيّر في حياته اليومية وتعاملاته مع الإدارة.
والأهم أنه سيحقق التوازن بين مكافحة الفساد وحماية الموظف العمومي من التتبعات غير المبرّرة. كما أحدث تمييزًا دقيقًا بين الخطأ العادي في التصرّف وسوء النية أو الإضرار العمدي بالمصلحة العامة.
ففي ظل هذا القانون، كل الموظفين سيكونون مديرين يقررون ويتحملون مسؤولية قراراتهم بشجاعة ودون خوف، وستتخلص الإدارة من كلمات دمرت الأداء الإداري مثل:
"حلّي غيري يصحّح".
**فالجميع اليوم يمضون ويتصورون ويطورون دون خوف.
وهذه هي ملامح الإدارة المسؤولة التي يتطلع إليها التونسيون.**
Comments
0 de 0 commentaires pour l'article 312807