مراجعات في خلل المنظومة الحزبيّة

بقلم حامد الماطري
حملت التجارب المتراكمة العديد من الدّروس والعبر وجب علينا الوقوف عندها، استيعابها والتفاعل معها.
حملت التجارب المتراكمة العديد من الدّروس والعبر وجب علينا الوقوف عندها، استيعابها والتفاعل معها.
لقد نشأت الثقافة الحزبية في بلادنا إبّان فترات الاستبداد السياسي والصّدامات الأيديولوجية، بين السبعينات ووصولاً إلى الألفينات، أحزاباً أيديولوجية وحقوقيّة مناضلة، ولم تكن أحزاباً حقيقيّة، تطرح على نفسها -ولو حتى من باب التّصوّر- تحدّي إدارة البلاد أو اقتراح حلول عمليّة للمشاكل التي كانوا ينتقدونها.
لقد أفرزت سنوات مقارعة الاستبداد مشهداً حزبياً نخبوياً منغلقاً، ينحصر مجال تحرّكه في العمل النضالي والاحتجاجي وتتلخّص أهدافه أساساً في المحافظة على الوجود، فضح تجاوزات الحاكم، والمطالبة بدمقرطة العملية السياسية.
مع سقوط المنظومة الحاكمة بعيد الثورة، لم تكن الأحزاب المناضلة جاهزة لإدارة شؤون البلاد، لا هيكلياً ولا تنظيمياً ولا من حيث اعداد مسبق للبرامج وإدارة ما تستطيع أن توفره من الكفاءات.
وعرفت السّاحة إثر ذلك العديد من التقلبات، وعجزت الأحزاب الكلاسيكية -هيكلياً وتنظيمياً- عن مسايرة هذا النّسق السّريع. فمع تطوّر الأحداث، وتتالي الاستحقاقات، أصبحت هاته الاحزاب عاجزة عن الجمع بين أدوارها المختلفة، من إدارة هياكلها داخلياً (سواء على مستوى التنافس أو النقاش السياسي)، إلى طرح أفكارها للشارع والتسويق لمشاريعها، إلى التفاعل مع الأحداث المتسارعة، إلى وضع برامج عمل مستقبلية لتطبيقها عند الوصول للحكم. فاحتدّ صراع الزعامات وكثرت الاستقالات وتضاعف عدد الأحزاب وصار خلط واسع بين السياسي والحزبي والجمعيّاتي والحقوقي. وفي النهاية، اقتصر النّجاح -النّسبيّ- على أولئك الذين ذهبوا الى استنساخ تجربة التّجمّع، بشكل أو بآخر، بينما شهدنا فسيفساء حزبيّة لأحزاب وشخصيات تصل البرلمان من دون أي برنامج حقيقيّة، وأخرى تملك برامج وكفاءات متميّزة لكنّها تفتقد إلى أي حضور أو قاعدة شعبية.
شعبياً، كانت النماذج الحزبية التي تولّت الرّيادة -في الحكم أو في المعارضة- نماذج مخيبة للآمال. ومع تعدّد الخيبات، وبالأخصّ مع السقوط الأخلاقي الذي صار يمثّله السياسيون (سواء بالفساد، أو بمشاهد الفوضى وعدم الاحترام، أو بالكذب والمخاتلة، أو بعدم الاكتراث للأولويات والمصلحة الوطنية)، علاوة على حالة انعدام الاستقرار وتردّي الأداء الاقتصادي والخدماتي، لم تعد الطبقة السياسية تمثل القدوة أو السلطة المعنوية التي تسمح لها بمواصلة قيادة البلاد.
هي ليست قراءة عامّة في تاريخ العمل الحزبي في تونس، حيث لا نجادل في عراقة الحياة الحزبية في بلادنا، ولكنها قراءة من قبل "جيل الثورة" من ابناء الثمانينات، أولئك الذين لا يهمهم كثيراً التفاصيل التاريخية حول التطور الفكري لليسار او بروز التيارات الوحدوية أو جذور التيّار الاسلاميّ، بقدر ما عاين أنّنا في تونس، ويوم ركبنا في "سفينة الديمقراطية" وجدنا مشهدًا حزبيًا لا يشبه -لا فكراً ولا تنظيماً- التشكيلات الحزبية التي رأيناها تتبادل الحكومات والرئاسات في الديمقراطيات الغربية. بل وجدنا حياة حزبية متشنجة، بتأثّرها بصراعات شخصية او ايديولوجية تعود الى القرن الماضي. حياة سياسية وحزبية يتداخل فيها السياسي بالحقوقي، معطّلة الى حد بعيد بفعل التضييق الذي عرفته فترات الاستبداد، لكنها عجزت فعلًا عن التأقلم مع المرحلة الجديدة وتحقيق التحول الضروري، من الشرنقة الى الفراشة..
يجب أن ندرك أن لحظة 25 جويلية هي نتيجة طبيعيّة لكمّ هائل من الأخطاء، ساهم فيها الجميع، من أحزاب، أو منظمات، أو نقابات، أو مجموعات أهلية. لكن، وللأسف، لم يكن الانقلاب على السّلطة بالشكل الذي صار، أو المسار "الرّعواني" الذي ذهبنا فيه، والذي عمل على تخريب كل هياكل الحكم، الحلّ السّحري الذي سيطوي أخطاء التجارب السابقة، بل كان انحرافاً جديداً بمصير البلاد، نرى يقيناً أنّه لا يقلّ خطراً عن سابقيه.
كذلك، الأطروحة التي ما فتئ يردّدها الرّئيس ومفسّريه حول زوال المنظومة الحزبية هي اسقاط سيّئ لقراءة خاطئة. المشكلة ليست في فلسفة التحزّب بقدر ما كانت في عجز الأحزاب في تونس عن التّأقلم مع المرحلة الجديدة.
وبعد اخذ مساحة من المراجعات، وصلنا إلى قناعة بأن الساحة السياسية التونسية في حاجة الى إعادة تشكيل، إعادة تأسيس... إذ تحتاج النظم السياسية إلى تعريف جديد للمفاهيم، وإعادة النظر في أساليب العمل والتواصل. تحتاج إلى إعادة النظر في الأولويات، ووضع نظم لإدارة الخلاف السياسي وأخلقة التنافس بين الخصوم، مع الاتفاق على خطوط عريضة تلزم الجميع، وتضمن حدّاً أدنى من الاستقرار، وتضمن الاستمرارية والتواصل بين مختلف الحكومات المتعاقبة.
كذلك، لا بدّ من فتح الأبواب للكفاءات والطاقات، وإتاحة الفرصة لجيل جديد من القيادات السياسية، وتحويل العملية السياسية من تنافس محموم على السلطة والبروز، الى مفاضلة قائمة على اعداد برامج خلّاقة، وامتلاك القدرة على إنجازها.
يمكن القول بأنّ هذا الطّرح كان ليكون ممكناً في صلب الهياكل الموجودة، ولكننا انتهينا إلى استحالة ذلك، ناهيك عن وجود أولوية وطنية تحتّم علينا انقاذ البلاد من شبح الانهيار الذي يخيّم عليها. طريقة بناء وتفكير الاحزاب الحالية لا تسمح لها بان تصبح أحزابًا قادرة على ان تخوض استحقاق واثنين وثلاثة.. تخسر وتربح، تراجع وتجدّد، تخوض تجارب الحكم والمعارضة من دون أن تتمزّق او تتهتّك..
ومحاولة اعادة نفس الامر، مرّة بعد مرّة، بتجديد القديم، لن يغير من شيء في النتيجة. الاحرى هو اعادة "اختراع" العمل الحزبي في تونس بشكل جديد، ولنا امثلة جديرة بالاهتمام يمكن نسخها مع تلافي ما بان عليها من هنّات، لكن الاكيد -في رأيي- ان علينا الكفّ عن الاعتقاد بالقدرة على تحويل الدبّابة الى الحافلة او الى سيارة سباق..
Comments
0 de 0 commentaires pour l'article 259855