بين الثابت والمتغير: دلالات زيارة وفد الكونغرس الأمريكي الى تونس

أيمن عبيد (*)
أثارت زيارة وفد الكونغرس الأمريكي الى تونس يومي 04 و05 سبتمبر/أيلول الجاري، جدلا واسعا، التهب سعيره قبل حتى انطلاقها، خاصة مع رواج خبر تلقي مجموعة من الأحزاب البرلمانية والمنظمات الاجتماعية الكبرى لدعوات للاجتماع معه. وهذه الزيارة التي يترأسها كل من السيناتور "كريس مورفي" والسيناتور "جون أوسوف" عن الحزب الديموقراطي، هي الثانية من نوعها في غضون الأسابيع الأخيرة، لوفد أمريكي رفيع المستوى، بعد أولى قادها "جون فاينر"، النائب الأول لمستشار الأمن القومي الأمريكي بتاريخ 13 أغسطس/آب ، كما يمكن اعتبارها التواصل المباشر الرابع بين الرئيس التونسي قيس سعيد، ومسؤولين كبار من الولايات المتحدة، منذ يوم 25 يوليو/تموز، حيث سبق وأن جمعته مكالمتان هاتفيتان بكل من وزير الخارجية "أنتوني بلينكن" يوم 26 يوليو/تموز، وبعدها بأيام فقط ب"جيك سوليفان" مستشار الأمن القومي.
أثارت زيارة وفد الكونغرس الأمريكي الى تونس يومي 04 و05 سبتمبر/أيلول الجاري، جدلا واسعا، التهب سعيره قبل حتى انطلاقها، خاصة مع رواج خبر تلقي مجموعة من الأحزاب البرلمانية والمنظمات الاجتماعية الكبرى لدعوات للاجتماع معه. وهذه الزيارة التي يترأسها كل من السيناتور "كريس مورفي" والسيناتور "جون أوسوف" عن الحزب الديموقراطي، هي الثانية من نوعها في غضون الأسابيع الأخيرة، لوفد أمريكي رفيع المستوى، بعد أولى قادها "جون فاينر"، النائب الأول لمستشار الأمن القومي الأمريكي بتاريخ 13 أغسطس/آب ، كما يمكن اعتبارها التواصل المباشر الرابع بين الرئيس التونسي قيس سعيد، ومسؤولين كبار من الولايات المتحدة، منذ يوم 25 يوليو/تموز، حيث سبق وأن جمعته مكالمتان هاتفيتان بكل من وزير الخارجية "أنتوني بلينكن" يوم 26 يوليو/تموز، وبعدها بأيام فقط ب"جيك سوليفان" مستشار الأمن القومي.
ولأهمية الحدث، فقد كان التسابق على أشده، بين نجوم المساحات الافتراضية، ليجد فيه كل منهم ما ينشد من دلالات تقوي مواقفه السابقة، دونما محاولات جدية للفهم، فغيمت على التحاليل شتى ضروب الانحياز وأغرقت في فيض المؤامرة والروايات الهوليودية ذات السوق الرائج في أيامنا هذه في تونس. وبمتابعة ردود الأفعال وكل ما ورد بشكل رسمي من الجهات المعنية للزيارة، لعله من المهم أن نتفطن للملاحظات التالية:
أولا: محافظة الموقف الامريكي اتجاه الأزمة في تونس، على نفس الملامح منذ الساعات الاولى، وتكرار اعتماد نفس الصيغة بشكل حَرفي تقريبا في أكثر من بيان رسمي، منذ أن وردت لأول مرّة بتاريخ 29 يوليو/تموز، على لسان وزير الخارجية "بلينكن" في حوار له مع قناة الجزيرة، نشره نصيا الموقع الرسمي للحكومة الأمريكية، ليست مجرد مسألة بروتوكولية أو حشو انشائي كما يريد بعض المثقفين تصويره، بل هو في العرف الديبلوماسي مؤشّر على مدى وضوح الموقف وجدّية أصحابه في مواصلة الضغط اتجاهه. ومجرّد التأكيد مرارا وتكرارا على نفس الموقف، هو آلية لتصعيد الضغط.
ثانيا: مواصلة الدعوة إلى "العودة السريعة الى المسار الديموقراطي"، يعني أن الولايات المتحدة وبعد مرور قرابة الأربعين يوما، لم تصادق على الإجراءات المتخذة من الرئيس التونسي يوم 25 يوليو/تموز حتى وان لم تعتبرها انقلابا، او انها في الحد الأدنى لا تُقرّ باندراج صيغتها الحالية ضمن تعريفها للمسار الديموقراطي، رغم كل محاولات قرطاج للطمأنة، والنهج التبريري التفسيري الذي طبع خطابها في كل ما رشح من اللقاءات السابقة، أو سعيها لتفنيد ما تعتبره افتراء من قراءات مخالفة. كما يمكن أن نفهم، أنه وبعد كل هذه المسافة الزمنية، لم يتبلور أمر واقع في تونس، الى درجة تجعل الادارة الأمريكية تقبل به وتقرّه من منظور براغماتي.
ثالثا: اعتماد نفس الموقف بحذافيره تقريبا، على مدى 40 يوما ومن مؤسسات مختلفة في الولايات المتحدة (وزارة الخارجية، الكونغرس، مجلس الأمن القومي)، مؤشر على أن قراءة الوضع التونسي، تقع ضمن المساحة التوافقية للعقل المؤسساتي الأمريكي، بما يرجح أنها أقرب الى مجال تغطية المحددات الصلبة لسياسات أمنها القومي، المرتبط بمصالح استراتيجية، أكثر من خضوعها الى عمليات التشغيل السياسي وما يرافقها من مؤثرات متحركة (علاقات، محادثات، اتصالات)، وقد يفسر هذا عدم وجود أي أثر يذكر في الموقف الأمريكي، لإقالة السفير التونسي في واشنطن بأمر رئاسي، في 03 أغسطس/آب الماضي.
كما أن الإجماع المؤسساتي في واشنطن اتجاه أزمة خارجية، لا يقع أبدا ضمن البديهيات، وانما هو دليل على توخّيها لنهج مباشر يهدف الى "حلّ الأزمة" وبشكل سريع، لا الاكتفاء ب „ادارة الأزمة". في العادة الولايات المتحدة تتبع نهج "ادارة الأزمات"، حينما يحقق لها استمرار أزمة ما، مصالحا تكتيكية، فتكتفي بإمساك خيوط النزاع لعدم السماح بخروجه عن سيطرتها، من خلال تنويع مواقف أجهزتها وتموقعاتهم، باتباع مبدأ: "الإمبراطورية الكبرى، لا تتكلم بصوت واحد"، كما حصل خلال السنوات الأخيرة، في ازمة حصار قطر مَثالا، على سبيل العد لا الحصر.
رابعا: علاوة على ذلك، فقد مضت الولايات المتحدة فعلا في خطوة تصعيدية جليّة هذه المرة، إذا ما قارنا هذه الزيارة بالأخرى التي سبقتها الشهر الماضي، في علاقة بما ورد حينها في بيان المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي، من حثّ على "عودة سريعة الى مسار تونس كديموقراطية برلمانية". حيث أن نفس تلك الدعوة قد انتقلت من الطبقة الخطابية الى المستوى السلوكي هذه المرة، اذ التقى وفد الكونغرس فعلا بأعضاء من مجلس نواب الشعب. كما أن اعلان السفارة الأمريكية على صفحتها الرسمية عن ذلك اللقاء، باعتماد مصطلح "مجلس نواب الشعب" دون ارفاقه بأي توصيف من تلك التي يعتمدها قصر قرطاج وأنصاره، أو حتى الدارجة إعلاميا في تونس، من قبيل "المعلّق" أو "المجمّد"، فيه:
- رسالة واضحة على أن المقاربة الأمريكية حيال البرلمان التونسي تختلف تماما عن تلك الخاصة بالرئيس التونسي الذي يعتبر البرلمان "خطرا جاثما".
-عدم الاعتراف باحتكار قرطاج، للتمثيل الحصري والوحيد للإرادة الشعبية التونسية، والتعامل مع النواب كما المجتمع المدني كشركاء له، في تمثيل تلك الإرادة.
-التفعيل الامريكي للديبلوماسيتين البرلمانية والشعبية بشكل مواز للديبلوماسية الرسمية، لا يعكس ابدا جهل الأمريكيين بمدى حساسية هذا الموضوع لدى كل من الرأي العام والرئيس التونسي، الذي طالما اعتبر حالات مشابهة تدخلا في صلاحياته، وعبر عن انزعاجه الشديد منها في سياقات عادية، فما بالنا بهكذا ظروف استثنائية.
خامسا: يعتبر التغريد عبر تويتر من أهم آليات "الديبلوماسية الرقمية"، التي لا تستهدف من خلال رسائلها الدوائر الرسمية فقط، بقدر ما تتوجه بها الى الرأي العام، وفي هذا الإطار يمكن فهم التغريدات الثلاث للسيناتور "كريس مورفي" خاصة تلك المتمحورة، حول عدم اصطفاف الولايات المتحدة خلف طرف معيّن او ما سمته بأجندة اصلاحية بعينها. وايراد هذه المضامين المستجدة عبر هكذا وسيلة، أقرب منه في دلالته الى اهتمام أمريكا بسمعتها في تونس، وكذلك تعاملها مع الشارع التونسي كفاعل له دوره في المعادلة، من أي اعتبارات أخرى.
ختاما، فقد توجهت الولايات المتحدة من خلال هذه الزيارة بجملة من الرسائل المباشرة التي لم تقتصر على رئاسة الجمهورية هذه المرّة، بل اتسعت لتشمل كلا من النخب والرأي العام التونسي. وذاك ما يمكن اعتباره محاولة أمريكية لأحداث ديناميكية ما، تساعد في اخراج الفضاء السياسي التونسي من حالة الشلل والجمود التي أصابته منذ تطورات 25 يوليو/تموز ، سواء من خلال حثّ الرئيس التونسي على انتهاج التشاركية في التعامل مع الطيفين السياسي والمدني وكسر القطيعة معهم، او من خلال ما قد تكون توجهت به الى النخب التونسية من دعوات بالتغلب على خلافاتها وترجمة التقارب في المواقف، الى تنسيق حقيقي ذو بعد سياسي فيما بينها.
ويبقى مستوى ما سيحدث من حركية في هذا الاتجاه خلال الايام القادمة، خير مؤشّر على مدى فاعلية الجهود الأمريكية ومدى جدّية ما اعتمدته ومازالت ستعتمده من آليات ضغط. علما وأن قرطاج خلال الأيام الفارطة قد بدأ فعلا في التراجع عما يمكن اعتباره احدى ثوابت سلوكه السياسي لمرحلة "ما بعد 25 يوليو/تموز "، فقد كسر فعليا مقاطعته التي استمرت لقرابة ال 36 يوما للنخب التونسية، وذلك من خلال استقباله أولا لممثلين عن الهيئة الوطنية للمحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان يوم الخميس 2 سبتمبر/أيلول، ومن ثمة لوفد عن الإتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية البارحة، ليكون بذلك قد التقى لأول مرة منذ يوم 26 يوليو/تموز 2021 مع ممثلين للمنتظم المدني التونس. ولا يمكن الجزم ان كان لاستقبال الرئيس التونسي خلال ثلاثة أيام، لثلاثة منظمات من الرباعي الراعي للحوار الوطني في 2013، من دلالة ما، خاصة لما سبق له وصرح به حيال تلك الفترة، ولكن الوطنية والحكمة تقتضي التعامل الإيجابي مع هذا المتغير ومحاولة إيجاد المناخات المساعدة على تعزيزه وتثبيته.
أيمن عبيد
كاتب وناشط سياسي
Comments
3 de 3 commentaires pour l'article 231910