حلقة على هامش مسلسل الفرص المهدورة في قطاع النّفط في تونس...

<img src=http://www.babnet.net/images/9/borma1040.jpg width=100 align=left border=0>


بقلم حامد الماطري

لم أسمح لنفسي يوماً أن أتحدّث عن دور لعبته أو شيء قمت به... بالنسبة لي، "اللي يعمل يعمل لربّي، ولبلاده"، والعمل الوطني أساسه نكران الذّات و اختيار الذوبان تماماً في المصلحة العامّة...

ولكنني، وبينما كنت بالأمس أفتّش بين أوراقي القديمة، اعترضتني صدفة وثيقة عنوانها "مداخلة في المجلس حول قطاع البترول". فتحتها لأقرأها، وسرعان ما غمرني إحساس صعب التّوصيف، شيء بين الرّضا والأسى... وإذا اخترت أن أروي هذه القصّة اليوم، وأذكر تفاصيله على الملأ، فلأنّني أعتقد أنّ فيها أكثر من عبرة يلزم استخلاصها.




في يوم نهار من مارس 2013، اتّصلت بي نائبة المجلس التّأسيسي وقتها "لبنى الجريبي"، وأعلمتني بأنّه قد تقرّر عقد جلسة استماع لوزير الصّناعة ور.م.ع. الإيتاب بعد أيّام، وأنّها تريد أن تنكبّ على ملف الثروات الطاقيّة، وتريد الاستئناس برأيي كوني ابن الميدان... عقدنا بضعة جلسات عمل، معها ومع نوّاب آخرين، انتهت إلى بلورة رؤيا لخّصتها في عدد من النّقاط التي ستطرحها، وألحقناها بالمؤيّدات. وأمام دسامة المادّة اللي توصّلت لها، تدخّل رئيس كتلة التّكتّل وقتها (سي المولدي الرّياحي) كي تأخذ مداخلة لبنى أطول وقت ممكن وكي تتبنّى كتلة الحزب هاته الورقة وتعمل على الضّغط لتطبيقها.

كانت المداخلة وقتها في ثلاثة محاور:
غياب الشفافية في المعاملات وضعف الرّقابة من قبل الإيتاب (كممثّل للدّولة) تجاه شركات الاستغلال، وخصوصاً الأجنبية منها، موضّحين أنّ ارتفاع تكاليف الإنتاج البترولي في تونس مقارنة بالحقول المشابهة في الخارج، أو حتى المقارنة بين الحقول التونسية ذاتها (بالأمثلة)، يشير إلى مواطن سوء حوكمة وإلى شبهات تهريب أموال وفساد.

أبرزنا بالأرقام أنّ هياكل الدّولة ومؤسّساتها تتحمّل المسؤولية في ضعف المتابعة وسوء الحوكمة بما يؤدي إلى خسائر بالمليارات، وأنّه، وإن كان سعر البترول المرتفع (وقتها) يغطّي على هاته الخسائر، فإنّ هاته الأموال –سواء ذهبت في فساد أو تهريب أو سوء تصرّف- يحرم منها الشعب التونسي، على اعتبار أن الايتاب تدفع نصف التكاليف كمساهمة منها في الإنتاج.

الوضعيّة المجحفة التي يعاني منها الجنوب التّونسي، وخصصنا بالذّكر ولايتي تطاوين وقبلّي باعتبارهما جهات منتجة للبترول منذ قرابة 40 سنة، بينما لم تعرف البنية التحتية، أو النّسيج الاقتصادي لهاته المناطق أي تحسّن يذكر على امتداد عقود.
تحدّثنا عن دور الشركات البتروليّة والإيتاب بالذات كممثّل للدّولة، ومسؤوليتهم الاجتماعيّة تجاه هاته الجهات، وأنّ الأحرى أن تبادر الدّولة بالإنكباب على هذا الملفّ قبل أن يبلغ الإحتقان في هاته المناطق مداه ويكون تدخّل الدّولة وقتها مضطرّاً، وتحت الضّغط وفي إطار إطفاء الحرائق.

ثالث النقاط كان حول الدّعم الطّاقي، وتمتّع شركات عديدة، ومنها البترولية، بامتياز شراء المحروقات بالسعر العمومي، الذي هو أصلاً يتحمّل صندوق الدّعم فيه جزءاً كبيراً، في حين أن الدّعم لم يخلق للنّزل والمصانع الأجنبيّة، وقطعاً لم يجعل للشركات البترولية! قدّمنا وقتها تقديرات لما ستوفره الدّولة فقط برفع الدّعم عن شحنات المحروقات التي تستهلك لتوليد الطاقة في الحقول ومراكز العيش النفطية، وأثبتنا وقتها أنها تعدّ بالمليارات.

وأنا أقرأ نصّ المداخلة، أدركت أنّ 4 سنوات ونصف مرّت على هذه الواقعة، فتفكّرت فيما عرفته تونس عموماً، وقطاع الطاقة خصوصاً في هاته الأثناء وكيف تعاملت السّلطات مع النقاط الثلاثة وأين كان مآلها:
أفتخر بأنّ مساعي النوّاب نجحت على الأقلّ في تحقيق النقطة الثالثة فصدر منشور في هذا الغرض، ولكن، وبكلّ أسف، لم يفعّل ها الأمر (حتى اليوم على حدّ علمي) بسبب تكاسل الإدارة وتقاعسها عن وضع الآليّات اللازمة لتنفيذ القرار... [بدون تعليق]!

منذ مارس 2013، أي سنتين ونصف قبل أن يبدأ الشارع بالإهتمام بموضوع النّفط وقبل "وينو البترول"، تحدّثنا عن ضرورة دفع الشفافية في قطاع البترول وأصبنا مواطن الفساد الحقيقيّة وأشرنا إليها، كما وضعنا إصبعنا على أصل الدّاء في ضعف المتابعة وسوء الحوكمة...

طبعاً لم نحرز تقدّماً يذكر منذ ذلك التاريخ (للأمانة باستثناء فترة وزارة المنجي مرزوق)، وتجاهلت الدّولة طويلاً الأصوات المنادية بالشفافية وبمعالجة الفساد وتطوير المؤسسات لدفع الحوكمة وتحسين الأداء... ذهب كلّ كلامنا وجهودنا، وجهود غيرنا، في المجلس، أو في المجتمع المدني، أو حتى كإطارات في صلب القطاع، أدراج الرّياح لأنّ الإدارة التونسيّة رفضت الإصلاح، ورفضت ان تسعى في الشفافية، ورفضت أن تحارب الفساد المستفحل.
وإن كنت أعتقد أنّ حجم الفساد في القطاع تراجع كثيراً جداً في السنتين الأخيرتين، وأعزو ذلك لأسباب عديدة، ولكن كون الإدارة رفضت أن تستبق الأحداث طوعاً جعلها تخسر الكثير من الوقت والكثير من المصداقيّة، وانتهى بها الأمر تدافع عن نفسها وتستجدي التّعقّل والحوار بعد أن هبّ الشّارع في حملاته الهائجة.
لا عجب اليوم أن تفقد السّلطات مصداقيّتها، وأن تعمّ الغوغاء ويختلط الحابل بالنابل لتطغى الإشاعات والمزايدات على العقل، وتصبح شبهة الفساد محيطة بالقطاع وكلّ من يعمل فيه، فقد اخترنا –للأسف– أن نخسر المعركة منذ مدّة.

كذلك حديثنا عن الجهات المحرومة بقي أدراج الرّياح. وربّما كانت هذه من بين المرّات الأولى التي يتكلّم فيها أحد عن الجنوب من دون أن يكون من بين أبنائه، ولكنّ سلوك الدّولة وإدارتها كان لسان حاله يكاد أن يقول: "بعيد عن العين، بعيد عن القلب".

نصحنا بواجب الإلتفات إلى هاته المناطق، حتى بشكل تدريجيّ، أو على الأقلّ ببعث رسائل ايجابيّة بشكل طوعيّ... كان هذا 4 سنوات كاملة قبل اعتصام الكامور، ولكن مرّة أخرى، تجاهلوا الأمر وتناسوا أن هاته البلاد قد عرفت ثورة وأنّها ليست في مأمن من انتفاضات أخرى.
رفضوا فهم الغضب الذي يحمله أهلنا في الجنوب لم يكن يوماً مرتبطاً بالفقر بل في شعورهم بالإهمال، ليس الحاجة في حدّ ذاتها بل الشعور بالظّلم والتّمييز. ويوم انفجر البركان أصبح من قبيل المستحيل تطويق الخسائر أو تأطير الاحتجاج، والعيب ليس في المجوع الهائجة بقدر ما هو في من تجاهل الإنذارات ولم يكلّف نفسه مشقّة تحسين الأوضاع.

جدير بالذكر أننا لم نتطرّق إلى مسألة العقود لأنني أعتقد، ولا زلت، أنه باستثناء حالتين، الإشكال الحقيقي لم يكن أبداً في ابرام العقود بقدر ما هو في طريقة متابعتها، كما لا أشك في أن الفساد ليس في كمّيات الإنتاج بقدر ما هو يتخفّى في التّكاليف. حتى اليوم، لازلت أعتقد بشدّة ما بقيت أكرّره منذ سنوات...
المسألة ليست اتّهامات توزّع على اليمين واليسار، لكن معلوم أنّ "الرّزق السائب يعلّم السّرقة". ونحن للأسف رزقنا قليل والمؤسف أكثر أنّ أغلبه "سائب"...

أعتقد أنّ ما نستخلصه من هاته التجربة، هو أن أسوأ أمراض الدّولة التّونسيّة هي السّلبيّة واللّامسؤولية. وهاته الأخيرة يمكن أن تنسحب على قطاعات مختلفة، ومستويات عديدة، وصولاً إلى أعلى هرم السّلطة. أن ترى الخور من حولك فتبقيه كما هو لأشهر وسنوات دون أن تغيّره فهذا يعني أنّك لست على قدر ما يعهد إليك من مسؤولية، ولا يمكن أن يشفع لك أيّ كلام عن مكرهات السياسة أو ضغوطات أو توازنات.
كذلك إدارة دواليب الدولة –كلّ من موقعه– بعقليّة "التواصل" و"تسيير الأعمال" من دون أن نحمل مشروعاً أو هدفاً، أو حتى على الأقلّ حلماً، فهذا لن يذهب بنا بعيداً بل سيتركنا نجترّ أخطاءنا ونتجرّعها بعد أن نتقيّأها، مراراً وتكرارا.

الدّرس الثاني هو أنّ الزّمن لا ينتظر، والوقت لا يرحم... إن لم تعالج المشاكل وقت السّلم فلن تقدر على حلّها زمن الحرب. يقول أغلب المسؤولين أنّهم ما فتئوا يقفزون من مكان لآخر لإطفاء الحرائق التي تندلع في كلّ مكان. لكن القصّة لم تكن أبداً كذلك، فقبل أن تندلع الحريق، سبق أن توجّهت رسائل انذار عديدة وأتيحت أكثر من فرصة لتجنّب الكارثة، ولكن إن آثرت التّراخي والتجاهل، فلا تلومنّ الحريق بل أحرى بك أن تلوم نفسك.

ملاحظات على الهامش:
قطاع الطاقة ليس إلا انموذجاً مصغّراً من الشعب التونسي، أغلبيته العظمى تتكون من أناس شرفاء ووطنيّين، يدافعون عن مصلحة البلاد حتى وإن تعارضت مع مصالحهم الشخصية أو المهنية، ويكرهون الفساد والمفسدين، وأغلب ما يقترح من أفكار أو يفضح من فساد فهذا يكون دائماً نابعاً من داخل القطاع، وعلى يد شرفاءه. ولكن المشكل –كما هو الحال في البلاد ككلّ– هو مشكل حوكمة وإرادة سياسية قبل كل شيء.

كذلك ذكرت من ذكرت بالأسماء للأمانة التاريخية، ولأنّه حقّهم، ولأنّني أؤمن أنّه، وبالرّغم من كلّ ما يقال عن الترويكا وعن المجلس التّأسيسي (لا شك في أنّه كان هناك بعض النّشاز وعديد الأخطاء)، ولكن عرف المجلس نوّاباً (من الأحزاب الحاكمة أو من المعارضة) كانوا وطنيّين إلى أبعد الحدود، وشكّلوا مفخرة لتونس بكل ما في الكلمة من معنى. عملوا بجدّ وبمسؤوليّة من دون البحث عن الأضواء، وحاولوا معالجة أمّهات المسائل من دون الخوض في الشعبويّات أو البحث عن الأضواء. كما أشهد أنه، وفي الوقت الذي كان غيرهم ينتقل بين المنابر الإعلامية ليطلق الوعود الكاذبة وليشحن الجماهير في حروب وهميّة لتقسيم التونسيين وترهيبهم، كان هؤلاء يعملون بتفان، إلى آخر لحظة، على الملفّات المهمّة بحقّ، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه...
شأنهم شأن العديد من القيادات السياسية المناضلة الأخرى، ضحّوا بالكثير، حتى بصورتهم وبمستقبلهم السياسي من أجل شيئين: المبدأ، ومصلحة تونس. لكن للأسف، لم ينالوا حقّهم، ولو كان في شيء من الّكرى الطّيّبة، فالتاريخ عندنا يكتبه المنتصر، بغضّ النّظر عن نزاهته، ويساعده على ذلك إعلام جزء واسع منه فاسد.


Comments


2 de 2 commentaires pour l'article 148354

BenMoussa  (Tunisia)  |Vendredi 29 Septembre 2017 à 23:33           
من الحقائق المهمة الواردة في المقال:
"أسوأ أمراض الدّولة التّونسيّة هي السّلبيّة واللّامسؤولية"
"الشعب التونسي، أغلبيته العظمى تتكون من أناس شرفاء ووطنيّين، يدافعون عن مصلحة البلاد حتى وإن تعارضت مع مصالحهم الشخصية أو المهنية، ويكرهون الفساد والمفسدين،"
"بالرّغم من كلّ ما يقال عن الترويكا وعن المجلس التّأسيسي (لا شك في أنّه كان هناك بعض النّشاز وعديد الأخطاء)، ولكن عرف المجلس نوّاباً (من الأحزاب الحاكمة أو من المعارضة) كانوا وطنيّين إلى أبعد الحدود، وشكّلوا مفخرة لتونس بكل ما في الكلمة من معنى. عملوا بجدّ وبمسؤوليّة من دون البحث عن الأضواء، وحاولوا معالجة أمّهات المسائل من دون الخوض في الشعبويّات أو البحث عن الأضواء."
"العديد من القيادات السياسية المناضلة الأخرى، ضحّوا بالكثير، حتى بصورتهم وبمستقبلهم السياسي من أجل شيئين: المبدأ، ومصلحة تونس".

Mandhouj  (France)  |Vendredi 29 Septembre 2017 à 16:33           
أعتقد أنّ ما نستخلصه من هاته التجربة، هو أن أسوأ أمراض الدّولة التّونسيّة هي السّلبيّة واللّامسؤولية.

point barre .


babnet
*.*.*
All Radio in One