على القناة الوطنية.. ''جمهورية ثقافة'' التكدير

بقلم: شكري بن عيسى (*)
بعد أن نزل بها الرئيس المدير العام الجديد الياس الغربي الى أرذل المراتب في نسب المشاهدة، وفرّ منها كل أصحاب المشاريع المبرمجة في شبكة 2017، لم يبق للقناة الوطنية الاولى سوى استجلاب برامج نفث الهمّ والكدر، التي اصبحت "الميزة" الصارخة لهذه القناة الاشهر الأخيرة.
بعد أن نزل بها الرئيس المدير العام الجديد الياس الغربي الى أرذل المراتب في نسب المشاهدة، وفرّ منها كل أصحاب المشاريع المبرمجة في شبكة 2017، لم يبق للقناة الوطنية الاولى سوى استجلاب برامج نفث الهمّ والكدر، التي اصبحت "الميزة" الصارخة لهذه القناة الاشهر الأخيرة.
يرتّب تقريبا حسب الاحصائيات في ذيل قائمة البرامج من حيث نسب المشاهدة، يُعرض لمدة أربعة أيام في الاسبوع من الاثنين الى الخميس، في "البرايم تايم" على الساعة التاسعة والنصف، في اللحظة التي يجتاح فيها الاحباط الشعب، مع ارتفاع منسوب التشاؤم في استبيان "سيغما كونساي" لهذا الشهر الى ما يزيد عن 73%، ليرفع في منسوب "الكُبّي" واليأس والقنوط، لا من حيث المضمون المنفصل عن نبض الواقع، بل وأساسا من جهة "الأبطال" من "النخب" الجوفاء، وخاصة مدير الجلسة الذي ما فتىء يحكي (كالقط) انتفاخ الأسد.

جمهورية الكدر أو المسمى تزويرا "جمهورية الثقافة"، هو نسخة مطابقة لبرنامج "التحرير والتنوير" الذي لا علاقة له لا بالنور ولا بالحرية الذي كان يبث على قناة "نسمة"، وهجره الجميع لادعاءاته الزائفة نشر قيم الحداثة، وهو الغارق في الانغلاق والاحادية والزاوية الواحدة، المناهض للتعدد والاختلاف والتنوع أحد أهم اركان الحداثة الى جانب العقلانية.
وبنفس الوجوه الكالحة ثقافيا، ونفس المضامين المحنّطة فكريا، وبادارة استعراضية فلكلورية، في زمن الديداكتيك حتى بالنسبة لتلاميذ الابتدائي، يأتينا الغربي بهذا البرنامج، الذي يستجلب ضيوفه بطريقة الصداقة و"الشلّة" والمحاباة والانتماء الايديولوجي، ويغيّب فيه كل لون مختلف ولا نتحدث عن المعارض، في ادعاء بائخ لـ"جمهورية" من صنف واحد تنبذ الآخر، وتحوّز كاذب لـ"ثقافة" بلون أحادي لا تتسع للمختلف، لاجترار نفس القضايا بنفس المقاربات المتكلسة وبنفس الاسلوب البائس.

برنامج أعادنا للقضايا الهامشية العقيمة، وغرق في الثقافوي الايديولوجي والهووي، لاسترجاع التطاحن والتناحر الفكري-السياسي على اساس النمط المجتمعي والعقائدي، يطرح عقد النخب الفاشلة التي تحلم بفرض مرجعياتها الايديولوجية، التي ترى فيها مركزية الانسان ولا تقبل بغيرها سبيلا لرؤية العالم والمجتمع، وتقصي بل تنفي كل حساسية لا تنخرط في رؤيتها.
ويبدو أننا اليوم الى جانب السلطة التي تعاقب شعبها في لقمة عيشه وفي ابسط حقوقه الاجتماعية والاقتصادية، القناة الوطنية تتفنن في جلد المواطن الدافع لتمويلها من جيبه، وتنتقم منه بهذا البرنامج في فترة الذروة، ما جعل الجميع يهجر القناة نحو البرامج خفيفة الظل، التي تجمع الافادة بالترفيه بايقاع نسائمي، في فترة تشتد فيها المنافسة بين الوطني والدولي، وتتفنن فيها القنوات الخاصة في التجديد والابتكار والابداع، في حين تغرق قناتنا العمومية في المجتر المكدّر، وتخسر بذلك مليارات الاشهار التي تنفّرها مثل هذه البرامج الغير مصنّفة اصلا في قياس المشاهدة.
محمد السعيدي الكاتب العام لنقابة الاعلام والاتصال أكد في احد منشوراته أن البرامج في الوطنية الاولى تُسند للاصدقاء، مدققا أن ما يحصل اليوم في المرفق الاعلامي العمومي كله "نتيجة التعيينات الفاشلة" في اشارة للغربي، وأضاف بكل وضوح أن البرامج تسند في "القعدات الجانبية" وأيضا في "الغرف الضيقة"، مصنفا ما يحصل في خانة "الصفقات المشبوهة" التي تحمل "شبهات فساد مالي كبير"، معلنا في عديد المرات الامتعاض الشديد من "الدخلاء" الذين لم يضيفوا شيئا، مشيرا الى أن هناك اتجاه لتدمير الاعلام العمومي، بعد أن طالب على الملأ الرئيس المدير العام (الذي لا يمتلك حتى شهادة الاستاذية) بالرحيل، معتبرا أن "مخططهم سيفشل بالمحتم"..
وفي نطاق شرذمة القطاع الاعلامي العمومي يتنزل هذا البرنامج الفاشل بكل المقاييس الفنية والشكلية والمضمونية والاتصالية والتسويقية، وبالفعل يعتبر هذا "المنتوج" حالة مدرسية (cas d'école) لتوصيف البرامج الفاشلة في مختلف مناحيها، يهدى لأحد عتاة الانغلاق الفكري والايديولوجي الذي اعتمده القروي في مرحلة العداوات والشيطنة ورماه عند انسداد الافق، شخص غير مؤمن بأبسط مستوجبات ايتيقيا الحوار والتواصل والفضاء العام فضلا عن مستلزمات الاتصال السمعي البصري المضمنة في المرسوم عدد 116، ودون الاشارة للمعايير الاعلامية المضمنة بالسياسة التحريرية لمؤسسة التلفزة التونسية التي يخرقها كل حين دون رقيب.
المرفق العمومي اليوم ينهار بقوة، في قناة هجرها الجميع ممن يمولون ميزانيتها، بعد أن سحقتهم برامج الرداءة والكدر والخنق، وامتلأت بالكثير منهم مصحات الطب النفسي، ولا يكادوا يرفعوا رؤوسهم من "كدمة" حتى تأتيهم "دحرة" جديدة أقوى وأفتك، من هذه "النخب" التي وصفها الفيلسوف اللبناني علي حرب بـ"الديناصورات"، التي تمارس الوصاية على القيم والمبادىء، باسم الحقيقة والحرية والحداثة والتقدم، وهي متقوقعة في مفاهيم الحداثة التي مرت عليها قرون، ولازالت غارقة في اوهامها مثلما وصّفها في كتابه "أوهام النخب"، بعد أن عرّاها تماما في كتابه الاخير "الثورات الناعمة" باسناده الجدارة للشباب الذين "لم يحسب لهم حسابا فأحدثوا التغيير" الذي عجز عنه من ينصبون انفسهم أوصياء الحقيقة!!
(*) قانوني وناشط حقوقي
*

Comments
10 de 10 commentaires pour l'article 141064