نجاح الثورة بتوظيف آليات الاستبداد ... معادلة مستحيلة الحدوث

منجي المازني
مضت اليوم خمس سنوات على قيام الثورة التونسية، إلّا أن الوعي الجمعي الإيجابي بها لايزال -للأسف- يتفاعل ببطء شديد مع مقتضيات التغيير ومتطلّبات الثورة. ولعلّ ذلك يعود بالأساس إلى كون أنّ هذه الثورة انطلقت بدون رأس ممّا سمح للعديد من الحساسيات من إدارتها بأدوات وبنفس من رحم منظومة الفساد والاستبداد ورجالاتها. فما هي انتظاراتنا من هذه الثورة التي تحوّلت من هبّة شعبيّة وتمرّد جريء على الاستبداد إلى ثورة ناعمة من غير المستبعد أن يكون قد تلبّسها الاستبداد وحاول الإحاطة بها من جوانب عدّة ؟

في علاقة بما سبق الإشارة إليه من إنحراف مسار الثورة وتغاضيها على بعض مظاهر الفساد، تقدّم إلي أحد متساكني جهتي بشكوى ضدّ موظّف البلدية الذي تلكّأ في تمكينه من رخصة هي من مشمولات البلدية التي يرجع اليها المواطن بالنظر. فأثرت المسألة لدى الكاتب العام للبلدية (بصفتي عضو النيابة الخصوصية) فأجابني بأن المسألة بسيطة وسيحصل المواطن المعني بالأمر على الترخيص في غضون أسبوع. لكنّ الموظف المذكور تلكأ مرّة ثانية في مدّه بالترخيص- رغم أنّه جاهز بعد موافقة البلدية وإمضاء رئيسها- وأصرّ على ذلك ولم يسلمه إيّاه إلاّ بعد أن تحصّل على رشوة أو عمولة.
بالتأكيد، أنّ ما أردت أن أشير إليه ليس فساد الإدارة وحسب. فهذه الأمور تعتبر من مظاهر الحياة اليومية للمواطن في علاقته بالإدارة عموما وإلاّ لما قامت ثورة في البلاد. وإنّما أردت الإشارة، بصفة أخصّ، إلى ذلك المواطن الذي التجأ في البداية إلى مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني التي تشكّلت إبّان الثورة من طرف الثوّار أنفسهم من أجل إستعادة حقّه المسلوب عنوة بالانتزاع والافتكاك. فإذا به سرعان ما تراجع وتراخى ولم يصمد بمجرّد أن اعترضته بعض الصعوبات الإداريّة البسيطة التي أفرزتها سلوكات فرديّة معزولة، والتجأ من جديد إلى استعمال وسيلة من وسائل الاستبداد للحصول على بعض حقوقه. وما نراه اليوم من ممارسات نقابية وسياسية واجتماعية هي في الحقيقة مشابهة لما حصل لهذا المواطن. فالمواطنون يتلهّفون للحصول على كلّ حقوقهم المادية والمعنوية عن طريق النقابات والأحزاب و الجمعيات المختلفة وبكلّ الطرق المشروعة وغير المشروعة. لكنّهم في صورة عدم الحصول عليها فإنّهم يلجأون إلى الاحتجاجات والاعتصامات. فالاعتصام هو آخر أمل يتشبّث به المواطن بعد أن يكون قد جرّب كلّ الطرق الشرعية وربّما غير الشرعية. فإذا ما لاح له، وهو يعتصم، طريق يحقّق له مراده ولو كان غير شرعي انسحب من الاعتصام بتخفّ.
هذا السلوك أدّى إلى أنّ فرص التشغيل إقتصرت إتاحتها على عائلات بعينها. فهي التي تستأثر بعروض العمل لأبنائها دون غيرها وتبقى بالتالي، غالبية أفراد الشعب مطحونة وفي عطالة ومهانة لسنوات وربّما لعشرات السنين ؟ وعليه لابدّ من تغيير كلّ القوانين التي ظهرت في ظلّ وزمن الاستبداد حتّى نقطع كلّ الممارسات البالية التي تكرّس الاستبداد والفساد والرشوة والمحسوبية. إذ لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن نشيع الأمل بين النّاس ونحقّق المساواة والعدالة الاجتماعية بينهم بأدوات وبقوانين وبعقلية تشكّلت وانبثقت من رحم الإستبداد والفساد. كما لا يمكن أن نحصل على حلول جذرية لكلّ مشاكلنا ونحن لا نزال نسند ظهورنا إلى حائط الاستبداد ونتصرّف بعقلية الاستبداد. فالمنظومة القديمة بكلّ اسسها ومرتكزاتها والأطر التي تنزّلت فيها قد تهاوت وهوت بنا إلى الإفلاس الأخلاقي والنّفسي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي بصفة عامّة. فلا بدّ إذن من العمل على ضخّ أفكار وطروحات جديدة تأتي من خارج المنظومة القديمة. وكمثال بسيط على ذلك وفي مجال الشفافية والحوكمة الرشيدة لا بدّ من التفكير والعمل على إلغاء كلّ الاختبارات الشّفاهية. لأنّ هذا الشكل من الاختبارات الشفاهية ليس قدرا مفروضا علينا وإنّما هو مجرّد اجتهادات من الماضي وخيط من الخيوط التي مازالت تربطنا بالاستبداد والفساد والمحسوبية والرشوة. وهي التي مكّنت عائلات بأكملها من العمل بالمؤسسات الحكومية وشبه الحكومية وحرمت أخرى من الفوز بذلك الإستحقاق حتّى وإن كانت جديرة به.
وكمثال ثان على ذلك في علاقة بمجال الإعلام، ما تتوخّاه حركة النّهضة في هذا الخصوص. مع انطلاق الثورة نشط رموز الحركة وأطلّوا علينا عبر كلّ الشاشات لكي يزيلوا العديد من الشبهات ويصحّحوا المفاهيم المغلوطة ويرفعوا الغبار عن المفاهيم الصّحيحة. ولكن بعد مرور خمس سنوات من الثورة لا بدّ من التفكير في تغيير السياسات الإعلامية. فخمس سنوات تبدو كافية لتوعية النّاس وتصحيح المفاهيم. فمن أراد أن يفهم فلا بدّ أن يكون قد فهم ووعى. ومن أراد غير ذلك فلن تكفيه مائة سنة للفهم والاقتناع. وغير مقبول ولا معقول،في اعتقادي، أن يشارك رموز الحركة في قناة تلفزية ذات مستوى هابط وفي برامج هابطة (مثل برنامج كلام النّاس ) لكي ينشروا الفضيلة بين النّاس. فالفضيلة لها منهجها ولها إطارها. ولا يمكن بث ونشر كلّ المعاني السّامية بالتطبيع مع برامج فاسدة ومنشّطين ذوي عقليات وسلوكيات منحرفة تستند إلى خيط من خيوط الفساد والاستبداد. ولا يمكن نشر وبث الوعي لدى الشعب و لدى النّاشئة بالخصوص انطلاقا من أرضيّة فاسدة. فماذا يمكن أن تضيف كلمة حق وموعظة في عشر دقائق في برنامج يمتدّ على مساحة ساعتين مخصّصة لبث الفسق والفجور وقلّة الحياء والتطبيع مع كلّ الفواحش ما ظهر منها وما بطن. فالمسألة مخطّط لها ولا تعدو إلّا أن تكون فخّا نصب للإيقاع بأكثر عدد من المشاهدين ودفعهم للتطبيع مع الفساد وكلّ أنواع الفواحش وكلّ المواضيع الممنوعة. ومثل هذه المواعظ في مثل هكذا إطار كمثل خضراء الدمن التي تبدو جميلة ولكنّها تخلّف آثارا جانبية مدمّرة تعود بالمضرّة على أغلب شرائح المجتمع.
وخلاصة القول أنّه من الأجدر العمل على تطعيم كلّ مجال بآراء وحلول تأتي من خارج المنظومة القديمة لأنّ هذه المنظومة أوقعت نفسها وسط الضباب ولن تستطيع الخروج منه إلاّ بأفكار من خارج المنظومة. ولعلّ هذا ما أشار إليه أحد الصحابة (رضي الله عنه) في الحديث : كان رسول الله يفرغنا ثمّ يملؤنا
Comments
0 de 0 commentaires pour l'article 125399