"هنا كالمنفى" للكاتب والصحفي محمد صفر: رواية عن النجاحات والإخفاقات والمصير الحتمي للإنسان

<img src=http://www.babnet.net/images/2b/61c884f9166479.48467141_lekmiofphgjqn.jpg width=100 align=left border=0>


"خلت أن ههنا صار الوطن" هكذا تحدثت "أدريانا" بطلة رواية "هنا كالمنفى" الصادرة مؤخرا عن دار "عليسة للنشر"، وهي باكورة أعمال الكاتب والصحفي بوكالة تونس إفريقيا للأنباء محمد صفر.

يقول الكاتب على لسان الراوي/البطل "تساوى في نظري الهنا والمنفى". فهل الوطن هو الذي نسكنه أم الذي يسكننا حيثما كنّا؟ هل الوطن هو "الهنا" حيثما نشتغل ونحقق نجاحات أم "هناك" حيث الخيبات والآلام ؟ أم أن الـ"هنا" يصبح المنفى والـ"هناك" الوطن؟

رواية "هنا كالمنفى" الواردة في 118 صفحة من الحجم الصغير، تقدم للقارئ سردا يمزج بين الواقع والمتخيل. هي رواية تتداخل فيها الأحداث والأمكنة والذكريات، ويستحضر فيها الكاتب عديد الأماكن بدءا من مسقط رأسه مدينة المهدية وتحديدا الحي الذي يقطنه ومقهى بطحاء القاهرة وبرج الرأس، وصولا إلى إسبانيا التي يعشق مدنها ويعرف ثناياها، فيتنقل بالقارئ بين مالقة بمقاهيها وأزقتها و"مقاصفها" إلى برشلونة ومدريد، من ذلك مستشفى "كيرون" وشاطئ "الرامبلا" في برشلونة ومحطة أتوشا للقطارات "وسوق "سان ميغيل" وكاتيدرائية "المودينا" في مدريد.



 وبين "الهنا" و"الهناك" يسرد الكاتب على لسان الراوي قصة بطله وهو "مهندس إعلامية" صارت حياته الزوجية "أشبه بلوحة سريالية تكاثرت فيها الألوان وتشابكت الخطوط وتاهت المعاني"، وهو الذي "نشأ متمردا على النمط والتنميط" فقرر هو وزوجته الطلاق واتفقا على البقاء "صديقين" خاصة وأن لهما ولدا وبنتا.
ويقرر الهجرة رغبة في كسر جمود كان يرافقه في مدينته "النائمة ككتاب تاريخ في رفّ متروك"، وقد "تعاظم حلمه بالإقامة في بلد يقدر الكفاءات أمثاله" فاختار إسبانيا، حيث تعرف على "أدريانا"، تلك الفتاة التي تنتمي إلى "عائلة أرستقراطية باذخة الثراء" والتي كانت "أول حضن تلقفه حين كان يغرق في يمّ الغربة"، ولكن قيام الثورة في تونس جعله يعود من جديد إلى بلده رفقة أدريانا، التي نشأت بينها وبين طليقته علاقة صداقة، قبل أن يختار الهجرة مجددا ثم العودة إلى الوطن.
وبين "الهنا" و"الهناك"، أيضا، تتداخل مفاهيم الوطن والمنفى، وتتشابك الأحداث وتتسارع، فتنقل عبرها الرواية ما يخالج ذات الكاتب من خلال البطل/الراوي من حيرة وقلق، ومن خيبات أمل يعاني منها أفراد المجتمع في الواقع، ويتجسد ذلك باستحضار شقيق الراوي الذي قرر الهجرة لأن الوطن ضاق به، واستقر بكرواتيا وتزوج أجنبية، وكان سفره في البداية إلى تركيا مع ما رافق ذلك من مخاوف العائلة من الانضمام إلى "داعش" هذا الخطر الذي عانى منه الكثير من الأولياء في تونس ممن فقدوا فلذات أكبادهم سواء ممن اختار أبناؤهم ذلك الطريق عن "وعي واقتناع" أو ممن غُرّر بهم.
كما استحضر الكاتب، عبر بطله، ذكريات الطفولة والشباب في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وما رافق تلك السنوات من حكايات وقضايا تتعلق بالدين والسياسة والحب وغيرها، وهو سرد لا يخلو من الذاتية. وتضمن هذا العمل الروائي كذلك، نقدا لعديد الممارسات والظواهر التي رافقت الثورة في تونس وخاصة يقول الكاتب "هؤلاء الذين قدموا بعد الثورة ونفخ الإعلام في صورهم لدرجة خال الشعب معها أنهم حملوا للثورة حلولا في حقائب السفر".
الرواية تطرح من خلال مختلف أحداث شخوصها، تأرجح الإنسان في حياته بين النجاحات والإخفاقات انطلاقا من البحث عن وضع اجتماعي أفضل من خلال عمل يحقق الأحلام والطموحات، مرورا بالنجاح والفشل في علاقات الزواج (قصة الراوي - قصة والد صديقه ليو...) وهي تطرح أيضا علاقات الحب بكل معانيه وجوانبه الإنسانية، حب أفراد العائلة وحب الأم "أمينة" لأبنائها واستمرار العلاقة الجيدة مع طليقة ابنها وحفيديها رغم الجفاء بين الزوجين، والحب بين الأخ وأخيه، وكذلك حب أدريانا وبطل الرواية، هذا العشق الذي جعله يقرر الزواج منها رغم أيامها المعدودة بحسب الأطباء. كما تثمن الرواية قيمة الصداقة التي تتجسد من خلال علاقة الراوي بعائلة أدريانا وبصديقه "ليو" وكذلك علاقة الصداقة الوطيدة التي جمعت الطليقة بأدريانا.
فهي ليست فقط رواية عن الحب أو الزواج، ولا عن الأوضاع السياسية والاجتماعية فقط بل كذلك عن القيم الإنسانية التي تجسدت في نهاية العلاقة بين الراوي وأدريانا، كما تروي أيضا قصة صبر "امرأة لا تشبه النساء" اقترحت على زوجها الطلاق حين شعرت برغبته في ذلك، ورغم الفراق ظلت وفية لعائلته حفاظا على طفليها، ورغم ما ظلّت تحمله تجاهه من حب ورغبة دفينة في العودة إليه من جديد إلا أنها كانت توصيه بصديقته خيرا، بل "بكتها بحرقة" حين علمت بوفاتها.
ويلاحظ القارئ أن الكاتب منح كل شخصيات روايته أسماء باستثناء الراوي وطليقته وشقيقه وطفليه، وهو اختيار مقصود يحمل الكثير من الدلالات القابلة للقراءة والتأويل. كما اختار الكاتب محمد صفر أن تكون نهاية الرواية مفتوحة على كل الاحتمالات، إذ جعل بطله يجلس على صخرة ببرج الرأس بالمهدية، "أمامه اتساع المدى وخلفه شواهد الفناء"، في رسالة تدلّ على أن اختيار عنوان الرواية لم يكن اعتباطيا، فعبارة "هنا كالمنفى" قابلة لأن تكون "هناك المنفى" وبين "الهنا" و"الهناك" تتواصل قصص الحياة والموت، بين الوطن والغربة، ومهما تغيرت الأزمنة والأمكنة، يواجه الناس مصائرهم فُرادى.


Comments


0 de 0 commentaires pour l'article 238541


babnet
*.*.*
All Radio in One