
انقطاع خدمات مراكز الخصوبة يؤجل أحلام الإنجاب في غزة لأجل غير مسمى Bookmark article

في زاوية صغيرة من شقة مدمّرة في البلدة القديمة في غزة، يجلس محمد قرب زوجته نورة، ينظران بصمت إلى صور بالأبيض والأسود كانت على شاشة هاتف قديم. صور لأجنة مجمّدة كانت تمثّل لهما بداية حلم انتظراه طويلًا.
محمد، شاب في الثلاثينات من عمره، كان يخضع للعلاج من مشكلة صحية تُعرف بـ"الخصية المعلّقة"، واحتفظ بعينة من سائله المنوي في أحد مراكز الإخصاب في غزة، بانتظار اللحظة المناسبة لتحقيق حلم الأبوة. أما نورة، من جهتها، فخاضت رحلة طويلة للعلاج من العقم، حتى استطاعت بعد سنوات من العلاج هي وزوجها، الخضوع لعملية حقن مجهري، انتهت بحمل في توأم، دام سبعة أشهر فقط.
"داومنا أنا ومحمد على العلاج لمدة ثلاث سنوات حتى جاء تحليل الحمل إيجابياً، وكان ذلك قبل شهرين فقط من بداية الحرب. لم تسعني الدنيا من الفرحة. فبعد أن أجريت عملية سحب بويضات وتمت زراعة جنينَيْنِ في رحمي والاحتفاظ بجنينين آخرين في مركز بسمة للإخصاب في غزة، قلت أخيراً تحقق حلمي. ولكن في اليوم الذي دخل فيه الإسرائيليون علينا، حدّثتني نفسي بأن كل شيء قد انتهى".
مثل آلاف الغزيين، اضطرت نورة وزوجها إلى النزوح مراراً وسط أوضاع معيشية قاسية، شملت نقصاً حاداً في الغذاء والأدوية والفيتامينات الضرورية للحمل. فقدت نورة توأمها بعد سبعة أشهر إثر نزيف حاد.
يقول محمد: "كنا نمشي كثيراً ونتنقل كثيراً من مكان لآخر، بالإضافة للقصف العشوائي الذي كان يثير الرعب في نفوسنا وخاصة لدى نورة وهي حامل. لن أنسى هذا اليوم أبداً. عانت من نزيف شديد ولم نستطع حتى توفير سيارة لنقلها للمستشفى، وفي النهاية تمكنّا من نقلها عبر إحدى سيارات نقل القمامة، حتى وصلت للمستشفى وبدأ الإجهاض".
وُلد أحد الجنينين ميتاً، أما الثاني فخرج حيّاً، لكنه توفي بعد ساعات قليلة بسبب عدم توفر حضانات للخدج في غزة.
"قالت لي إن الإجهاض تم بصورة وحشية في المستشفى. فلا أجهزة طبية متاحة ولا أطباء يستطيعون فعل شيء في ظل ما هو متاح"، يؤكد محمد.


وفي مارس/آذار الماضي، اتهمت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة إسرائيل بأنها "هاجمت ودمّرت عمداً" مركز البسمة للإخصاب الذي يعد أكبر مركز للخصوبة في القطاع. وأصدرت اللجنة تحقيقاً يقول إن السلطات الإسرائيلية "دمرت جزئياً القدرة الإنجابية للفلسطينيين في غزة عبر التدمير الممنهج لقطاع الصحة الإنجابية" - مشيرة إلى أنها ارتكتبت بذلك "أعمال إبادة".
كما أشار التقرير الذي أعدّته لجنة من الخبراء بتكليف من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إلى أن إسرائيل فرضت حصاراً بشكل متزامن ومنعت المساعدات بما في ذلك الأدوية اللازمة لضمان سلامة الحمل والإنجاب ورعاية المواليد.
وردّاً على التقرير، كانت البعثة الدائمة لإسرائيل لدى الأمم المتحدة قد أصدرت بياناً تقول فيه إنها "ترفض رفضاً قاطعاً هذه الاتهامات التي لا أساس لها من الصحة".
كما أدان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التحقيق واصفاً إياه بـ"السخيف والعاري من الصحة".
تم إنشاء لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة من قِبل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في عام 2021 - للتحقيق في جميع الانتهاكات المزعومة للقانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان.
حلم مؤجل إلى أجل غير معروف
ورغم أن الأطباء قالوا إن نورة لا تزال لديها فرصة للحمل، فإن الواقع في غزة لا يمنح هذه الفرصة بسهولة.
فقد توقفت جميع مراكز الإخصاب التسعة التي كانت موجودة في غزة، وكان مركز البسمة للإخصاب أكبرها من حيث الإمكانيات الطبية.
تواصلت بي بي سي مع الجيش الإسرائيلي للتعليق على ما يقوله مسؤولو المركز بشأن استهدافه، وقال الجيش الإسرائيلي: "إنه لا يستهدف عمداً عيادات الإخصاب في غزة، ولا يسعى إلى الحد من إنجاب المدنيين في القطاع". وأضاف: "إن الادعاء بأن الجيش الإسرائيلي يقصف هذه المواقع عمداً لا أساس له من الصحة، ويُظهر سوءَ فهمٍ تامّاً لهدف عملياته في غزة".
وتعليقاً على قصف مركز البسمة، أشار الجيش الإسرائيلي لبي بي سي إلى أنه لا يستطيع تأكيد وقوع الهجوم على المركز نظراً لعدم توافر معلومات كافية عن التاريخ المحدد للهجوم. كما أشار الرد الإسرائيلي إلى أن قواته "تعمل وفقاً للقانون الدولي، وتتخذ الاحتياطات اللازمة لتقليل الأضرار التي تلحق بالمدنيين".
وفي هذا السياق، قال مسؤولو المركز لبي بي سي إنهم لم يتمكنوا من تحديد تاريخ وتوقيت القصف على المركز بسبب عدم تمكنهم من زيارته منذ أواخر نوفمبر/تشرين الثاني نظراً لظروف الحرب والهجمات المستمرة على القطاع، مشيرين إلى أنهم علموا بتدميره حين زاروه في أوائل ديسمبر/تشرين الأول عام 2023.


قصة محمد ونورة ليست استثناءً، بل واحدة من عشرات القصص لنساء في غزة اصطدمن بالواقع ذاته.
إسلام لُبّد، واحدة من هؤلاء النسوة، حملت بعد سنوات من المحاولات، لكنها لم تفرح بالحمل طويلاً.
"بعد الحرب، لم يكن هناك أي استقرار. كل فترة قصيرة ننتقل من مكان إلى آخر. جسمي تعب، وحملي تعب معي" - هكذا تروي إسلام قصة فقدانها لجنينها - بعد أشهر قليلة من الحمل الذي نتج عن عملية حقن مجهري أجرتها قبل الحرب.
لا تملك الآن جنيناً مجمداً ولا مكاناً تعيد فيه المحاولة.
آمال خليل، هي الأخرى، خاضت رحلة علاجية طويلة استمرت ست سنوات قبل أن تتمكن من الحمل عبر الحقن المجهري وتضع طفلتها الأولى. كانت تحتفظ بجنين آخر في مركز الإخصاب، تخطط لزراعته هذا العام ليكون شقيقاً لطفلتها، لكن كما تقول: "كل شيء ضاع مع تدمير المختبر".
"كنت أشعر أن هناك خطوة ثانية قريبة. كان عندي أمل في أخ له… ولكن الآن لا أخ ولا مركز".
أما سارة خدري، فبدأت رحلتها مع الإخصاب عام 2020، ونجحت في تجميد أجنتها بعد مشوار صعب، وكانت أيضاً تستعد لعملية الزرع، وتنتظر فقط اللحظة المناسبة، التي سبقتها الحرب.
"أنا لا أستطيع حتى أن أبدأ مشوار الحقن المجهري. رأيت كل شيء ينهار وأنا في أول الطريق".
"4000 جنين ذابوا في صمت"
عن هذه الآمال المفقودة، تحدّث لي الدكتور بهاء الغلاييني، مدير مركز بسمة للإخصاب، بنبرة لا تخلو من الحزن والذهول، وكأنه لا يصدق أن سنوات من العمل والعناية يمكن أن تختفي في لحظة.
يقول الدكتور بهاء إن أهم ما كان في المركز حاضنتان تحويان نحو 4000 جنين مجمد، وأكثر من 1000 عينة من السائل المنوي والبويضات، جميعها كانت تجسد أحلام الأمومة والأبوة لمئات النساء والرجال في غزة.
"الحاضنتان اللتان دُمّرتا - وتكلفتهما أكثر من 10 آلاف دولار - كانتا مليئتين بسائل نيتروجيني يغمر العينات لحفظها، وقبل قصف المركز بنحو أسبوعين، بدأ النيتروجين بالتناقص والتبخر".
حاول مدير المختبر الدكتور محمد عجور - الذي نزح بدوره إلى جنوب غزة - التواصل مع مورّد النيتروجين في مستودع بمنطقة النصيرات، في محاولة منه لإنقاذ العينات وإعادة ملء الخزانات بالسائل المطلوب، غير أن شدة القصف حالت دون استطاعته الوصول إلى المركز لإعادة ملء الحاضنتين.
يقول مدير المختبر الدكتور عجور متأسفاً، "استطعت بصعوبة الوصول إلى مستودع غاز النيتروجين في النصيرات، وبالفعل استلمت أنبوبتين من الغاز وبقيتا معي، غير أنني لم أستطع الذهاب إلى المركز بسبب شدة القصف، وبعد نحو أسبوعين، قُصِفَ المركزُ نفسُه ولم تعد هناك حاجة أصلاً لهذا الغاز".
"أنا أتحدث عن 4000 جنين مجمّد، هذه ليست مجرد أرقام، بل أحلام لأشخاص انتظروا سنوات، وخضعوا لعلاجات وحقن مكثفة، وعلّقوا آمالهم على هذه الخزانات التي تحطمت في النهاية"، يقول الدكتور بهاء.
ويقدّر الدكتور بهاء أن ما بين 100 إلى 150 امرأة فقدن فرصتهن الوحيدة أو شبه الوحيدة في الإنجاب، لأن كثيرات منهن لا يستطعن تكرار العملية.
"هناك من هُنّ في سن متقدمة، وهناك مريضات سرطان، وأخريات يعانين من أمراض مزمنة، أو تلقّينَ جرعات عالية من منشطات التبويض لمرة واحدة. من الصعب جداً أن يبدأن من جديد".
- "لا أريد لابني أن يموت": لماذا أعاد الأردن 17 طفلاً فلسطينياً لقطاع غزة؟
- يوميات أم فلسطينية في غزة أثناء الحمل والأمومة والنزوح
- حكايات أطفال فقدوا الأب والأم في حرب غزة
