المرحوم منصف بن سالم القدوة

<img src=http://www.babnet.net/images/1a/alibensalemdeuil.jpg width=100 align=left border=0>


عزالدين بوعصيدة (*)

في ذكرى وفاته أعود وأشهد أنّه صديقي الوفي وأخي وزميلي منذ عرفته في المعهد حتى ذهب إلى جوار ربه تاركا لنا تجربة فريدة:
الأستاذ الدكتور المنصف بن سالم شخصيّة وطنيّة مرموقة تجلب الإحترام، وهو أيضا تعبيرة صادقة لما تمنّاه ويتمنّاه مصلحو هذا البلد ومحبّيه. ذلك لأنّ هذا الرجل خرج فعليّا من رحم الوطن وترعرع بإمكانيّات الوطن ليخدم الوطن. ولهذا السبب ولكونه حقّا لامعا رأيته مرآة عاكسة لإيجابيات مدرسة الإستقلال الأولى.
...

منذ خروج الطفل منصف بن سالم لأوّل مرّة من البيت نحو المدرسة، كان يشعر أنّه مقدم على اكتساب المعرفة ليكون عنصرا صالحا لعائلته ووطنه.

التقاء الطفل و المعلّم هو التقاء لم تؤطّره بعدُ النصوص الكونيّة الضاغطة حاليا، لقاء مشحون برسالة قويّة: رسالة جهاد الخروج من التخلّف، لا بدّ من بناء تونس، لا بدّ من كسب رهان المعرفة، التونسيّون قادرون على كلّ هذا رغم شحّ الخبز في بعض البيوت. لم تكن هذه الرسالة معبّأة بإعلام لم يصل بعدُ إلى ربوع كثيرة وحيث وصل لم يكن مريضا كما هو الحال الآن، إنّما هي إمتداد طبيعيّ للثورة الصامتة لكافة الفئات الشعبيّة التي دحرت الإستعمار وتريد أن ترتقى بوطنها إلى الرتبة التي تليق به.
ولنكون منصفين مع القائمين على شأن التعليم في البلاد آنذاك، كانت محتويات الدرس على المستوى المرجو فهذه محفوظات "عش عزيزا أو مت وأنت كريم" لأبي الطيّب المتنبّي تُزامنها محفوظات "الحارث و أبناؤه" للافنتان ونلاقي نصوص أخرى مثل "عمر ابن الخطّاب يحاسب نفسه" في كتاب القراءة العربيّة للسنة الخامسة أو نصّ " الإنظباط" في كتاب القراءة الفرنسية للسنة الرابعة وغيرها من النصوص المختارة الجيّدة والشاحذة لهمّة الطفل في إطار قيم سامية جامعة.

بداية من اكتوبر 1964 انخرط المنصف في الدراسة الثانوية كمقيم بالمعهد الثانوي للذكور بمدينة صفاقس ليُوجّه عقب السنة الثالثة، إلى شعبة الرياضيّات، شعبة أنجب النجباء، فصل واحد لايفوت 30 تلميذا يقع اختيارهم من بين 14 سنة ثالثة.هذه فرصة أولى يلتقي فيها بأنجب أقرانه من معظم أنحاء الجنوب التونسي، ذلك أنّه في تلكم الحقبة الزمنيّة كان جنوب البلاد محروما من سنة رابعة رياضيّات للشحّ في الأساتذة المختصّين.

وللمعلومة فقط، كان التلميذ التونسي يتحصّل على شهادة الباكلوريا بعد ست سنوات من الإبتدائي دون أي تنازل في المحتويات، ففي المواد العلميّة تُدرّس كل المناهج الفرنسية كاملة، إضافة إلى ذلك، يخضع التلميذ إلى تكوين أدبي يغطّي القاعدتين الفكريتين الأساسيتين العربية والفرنسية فهاهو التلميذ يتقدّم قرنا بعد قرن من امرؤ القيس إلى طه حسين مرورا بالحركة الفكريّة في تونس وفي نفس الوقت يتقدّم قرنا بعد الآخر من رابلي إلى مرسيل بانيول فيتلاقى بالمعرّي و فولتير والفارابي وسبينوزا.

و إذا كانت طاقة استيعاب التلميذ جيّدة يتخمّر هذا الزاد وتتنسّب النظريّات وتنهزم عقدة التبعيّة. وفي هذه أيضا لم يخذلنا المنصف.وتبرز الأسئلة ويظهر قصور السائد، هكذا ظهرت تحرّكات فكرية وسياسيّة ونقابية غير نمطيّة ، في الوسط الطلابي خصوصا، طارحة أسئلة مفصليّة حول القناعات المقبولة آنذاك، هذه القناعات التي ترتضي بصفة تلقائية انقسام الساحة بين يسار ويمين كلاسيكيين. ولا بدّ أن نعترف بأن هذا المنظور الكلاسيكي لم يتمكّن من استيعاب هذا الزخم الجديد الفريد من نوعه، الغير المعرّف والغير المقنن وأتخيّل المنصف بن سالم من ممثّليه الفاعلين. وقد يكون هذا الذي جعله من المعبّرين الأوائل على بروز التحرّك السياسي الإسلامي.
وقناعة منه أنّ المعرفة هي الأداة الرئيسية للتميُز، حرص المنصف على الحصول على الأستاذية في الرياضيات بامتياز مما أهّله للسفر إلى فرنسا لإعداد شهادة الدكتوراه وفى هذا المجال لا بد أن أبيّن أنّ المسيرة الدراسية للمنصف بن سالم تعتبر قياسية، فالحصول على الدكتوراه في الرياضيات في سن 24 سنة ليس أمرا هينا.

اقرأ أيضا: ختاما بلغوا سلامي إلى أمي العزيزة ..

و فور عودته إلى الوطن، انتُدب المنصف بن سالم لتدريس الرياضيات بكلية العلوم والتقنية بصفاقس وكان يدرّس أيضا بكلّية العلوم الإقتصاديّة والتصرّف بصفاقس ذلك أنّ الجهة في حاجة ملحّة للمدرّسين في هذه المادّة. ورغم الإلتزامات البيداغوجيّة المشطّة، واصل الأستاذ المنصف نشاط البحث ليتحصّل على دكتوراه الدولة في الرياضيات وقام بتأسيس قسم الرياضيّات بالكلّية، هذا القسم هو اليوم أحسن قسم رياضيات على مستوى نشر البحوث العلميّة. وفى تناغم طبيعي مع شخصيّته انخرط زميلنا في العمل النقابي وأسس مع بعض الزملاء أوّل نقابة لأساتذة التعليم العالي.
أشهد أنّ الزميل منصف كا يشتغل كامل اليوم لمجابهة كلّ هذه الإلتزامات. ولم يكن يشتكي من هذا الضغط، بل كان خدوما و مرتاحا لما يقوم به ومقتنعا بأنّ الأمرطبيعي جدّا ويستجيب لدور المثقّف تجاه الوطن.
و إذا سلّمنا أنّ للمنصف بن سالم نشاطا سياسيا أيضا، لا بدّ أن نعترف بأنّه من النخبة على مستوى المؤهّلات وكذلك، وهذا مهمّ للأحياء، أنّ المدرسة التونسية، عندما تكون الرؤيا واضحة، قادرة على مدّ الوطن بالموارد البشريّة الضامنة لحسن التسيير و الإبداع وابتكار الحلول الخلاّقة للمشاكل التي تعترض مسيرة النمو فى البلاد.
رحم الله أخي المنصف و أدعو الله أن تكون تجربته قدوة للاحقين وعبرة للدارسين.

عزالدين بوعصيدة،
أستاذ تعليم عال في الرياضيات، رئيس جامعة سابقا.




   تابعونا على ڤوڤل للأخبار

Comments


0 de 0 commentaires pour l'article 179297


babnet
All Radio in One    
*.*.*