أول حجاب ينزع عنوة بعد ثورة أربعطاش وبلطجية عبير موسي التجمعية في الإخراج

أيمن عبيد
جدت البارحة في أسواق المدينة العتيقة بسوسة، حادثة أليمة مستهجنة، تمثلت في تعرض المدونة و الناشطة الحقوقية هايدا الإمام، في وضح النهار و على مرأى العموم و مسمعهم، إلى التحرش الجنسي و التعنيف و الهرسلة، من قبل الموكب الإنتخابي "للتجمعيين الجدد" بقيادة عبير موسي. و قد كانت بضع كلمات حصيفة منمّقة، من السيدة هايدا
، لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليد الواحدة، كفيلة بإسقاط ورقة التوت الممزقة، عن برامج عبير و جمعها و ما يحملون لتونس الحبيبة و حرائرها من مشروع حضاري. فما كادت المسكينة تنبس بلفظ "الإنتقال الديموقراطي" بعد أن سألت الأخيرة عن برنامجها، حتى حاوط قسم من الكوكبة النوفمبرية زعيمتهم، في حركة سريعة منظمة، أشبه بحركة فرق الحمايات الشخصية المحترفة منها بأناس مدنيين، لينفرد البقية بصاحبة السؤال، فيتداعون عليها كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فهذا بشتيمة و تلك بشدّة أو دفعة و بينهما كهل خمسيني، يلصق جسده النجس ببدنها الطاهر، سائلا بصفاقة: "هل تبحثين عن رجل؟"...
جدت البارحة في أسواق المدينة العتيقة بسوسة، حادثة أليمة مستهجنة، تمثلت في تعرض المدونة و الناشطة الحقوقية هايدا الإمام، في وضح النهار و على مرأى العموم و مسمعهم، إلى التحرش الجنسي و التعنيف و الهرسلة، من قبل الموكب الإنتخابي "للتجمعيين الجدد" بقيادة عبير موسي. و قد كانت بضع كلمات حصيفة منمّقة، من السيدة هايدا

و بغض النظر عن ما آل إليه الأمر بعد ذلك، فإن هذا المشهد لوحده، حري منا بوقفة تأملية، لنطرح أكثر من سؤال، فبعض المشاهد كما يقول المرحوم حسنين هيكل، إن أحسنا قراءتها، قد تبوح لنا بخبايا حقب بأكملها.
فهل يمكن إعتبار ما صار مجرد حادثة منفردة؟ أو إنفلات مردّه الحماس الإنتخابي و اللهفة على السلطة؟ أم أن الأمر ينذر بخطر محدق، يتهدد ديموقراطيتنا الناشئة؟
في الحقيقة كان من الممكن التعامل مع ما سلف ذكره، على أنه حادثة عابرة أو إدراجه في خانة جريمة الحق العام، كالإعتداء أو حتى تبادل العنف بين شخص و مجموعة من الأفراد، فهي في الأخير نزعات متفشية في المجتمع، لو أن هذا العنف لم يكن ليجد له من مبررات في أرضية فكرية و بنية تنظيرية، تبنّاها على مدى سنوات الخطاب الإقصائي، الذي محورت عبير موسي، تنظيمها الحزبي حوله.
فبذلت وسعها منذ البدايات الأولى في تسميم الأجواء السياسية، بنشر الكراهية و تركيز القوالب المتصلّبة للأحكام المسبقة، لتقطع بذلك الطريق أمام إمكانية كل محاورة جادة مع أي طرف كان.
فقد تحصنت بعقلية المؤامرة، ليدور عالمها الصغير كله في فلك مفهوم واحد، ألا و هو "الأجندة الخارجية للربيع العربي" ، الذي يسهّل لها تخوين كل من جاءت بهم الثورة للمشهد السياسي أو المجتمعي أو من عارض المخلوع أيام حكمه، بل و حتى من جالسهم نفس الطاولة بعد الثورة ممن كانوا بالأمس القريب قادتها. فأخذ إنتشار هذا الشعور بتملّك الحقيقة المطلقة و التّسيّد على صكوك الوطنية، يغذي عند أنصارها عقيدة تؤمن بالترفّع و الإستعلاء، و يؤسس في مخيالهم الجمعي إلى نفي معنوي لكل من خالفهم الفكر و الرأي. لتصبح بذلك ترجمة ذاك النفي المعنوي إلى نفي مادي مسألة وقت فحسب.
فإتهام الكل بالعمالة لجهات أجنبية، أو ما يسمى بالخيانة العظمى، جرم جزاءه واحد و معروف في جل التشريعات و الأعراف البشرية. و بذلك يمهد هذا العنف الرمزي إلى عنف آخر مادي و يشرعن له، بل و يشجع عليه.
حتى أنها في قضية الحال، بعد سويعات من الحادثة، و في خطاب جماهيري أمام بضعة عشرات من مناصريها، لم يكن همها إلا دفع المسؤولية القانونية عن "بانديتها"، حتى تنسبه إلى مواطنين عاديين، أما الإعتداء في حد ذاته فلم تشجبه، بل تباهت به قائلة: "قام معاها المواطنون بالواجب".
و ذاك ما يبعث عن القلق، بأن ما كان ليس مجرد عنف عابر بقدر ما هو محصّلة طبيعية لواقع فكر تحريضي، محمول على دفقة متصاعدة.
فلو قيمنا هذه الظاهرة بالمعايير الأوروبية، لتماهت مع ما يسمى بأحزاب اليمين الشعبوي المتطرف او الصعود الثاني للنازيين. فهي تشاركها نفس المنطلقات، كنزعات مجروحة بمرارة الهزيمة (الحرب العالمية الثانية/ الثورة) و الطامحة لإستعادة البعض من سطوة الماضي و جاهه. كما تعتمد كلها نفس آليات الخطاب الشعبوي الدغمائي الذي يجعل من التنافي واقعا سياسيا، و يتخذ من الأزمات الإقتصادية و حظور الوافد الجديد(الأجانب/الثوريين) مسوغا لنقد التعددية البرلمانية و الديموقراطية. كما أن كليهما يحرص على التسويق لفكرة نفس العدو الخارجي الداخلي ( التيار الإسلامي) ليكون حافزا للإلتفاف حول شخصية رمزية شمولية في منزلة الأب الروحي( هتلر/الجنرال بن علي).
ففي ألمانيا مثلا، حزب "ن.ب.د" لا يعترف بدوره بالدستور القائم، لكنه يعمل وفقه ساعيا للوصول إلى البرلمان بهدف تغييره. و بسبب عدائه للقيم الدستورية، قام "البوندستاغ" مؤخرا بقطع التمويل الحكومي للأحزاب عنه، لكنه سمح له بمواصلة نشاطه لأنهم اعتبروا أنه لا يمثل بعد خطرا فعليا على الدستور.
لكن ما يقلق السلطات الألمانية، أن هذا الحزب تحوم حوله شبهات الإرتباط بجماعات النازيين الجدد، التي قد تكون بمثابة الأذرع السرية، التي تنتهج العنف كوسيلة للتغيير مثل منظمة "بيغيدا" او مجموعة "فريتال" المتورطة في أعمال حرق و تفجير إرهابية ضد اللاجئين المسلمين.
و في هذا الإطار كتبت صحيفة "هانوفرشه تسايتونغ" مثلا : "الإرهابيون سواء إسلاميين كانوا او من النازيين الجدد، لديهم ايديولوجيات متقاطعة."
كل هذا يجعل من دراسة هذه الظاهرة اليمينية المتطرفة الناشئة في بلادنا و بحث السبل المثلى لإستيعابها في المستقبل، حاجة ملحة على نخبنا و أرباب الدولة. فلإن نجحت الديموقراطيات الغربية العريقة في ذلك بأقدار، فإن ديموقراطيتنا الهشّة أحوج ما يكون إلى قيم التسامح و الوفاق و الأمل في غد أفضل، لا الإنتقام و التنافي و التخويف، بغية التيئيس من المستقبل. فهذه الشرذمة لا ترفع من أعلام الماضي إلّا لتقزيم أعلام الحاضر، و لا تشيد بالماضي إلا لقمع الحاضر، و لسان حالهم يقول؛ الحقيقة إكتملت في أمسنا فما حاجتكم في البحث عن جديد.
و لإن آل إليها الأمر يوما، لتعيدنّ إستنساخ الماضي بحذافيره، بل و بإيغال و شطط، بدافع الثأر و التشفي الذي يسكنها.
فلو كانت المنافسة السياسية محركهم الوحيد لأقتصر عداءهم على الحريات العامة التي سلبتهم جلّ نفوذهم، و لكن حادثة البارحة أظهرت مثلا، بالدليل و البرهان حنينهم الموصول للمنشور 108 و إلى قمع الحريات الفردية و نفي إرادة الأشخاص، و لا حائل اليوم دون رجوعهم إلى سالف عهدهم إلا موازين القوى القائمة.
فهاهم ما إن أتيحت لهم الفرصة ليستفردوا بمهيضة الجناح، و ما إن تأكدوا من إغلاق عدسة كاميرتها، حتى أنشبوا مخالبهم في رأسها لإقتلاع حجابها و رميه أرضا، هاتكين سترها، ليكشفوا حنينهم و إنشدادهم للعهد المقيت. و يعيدوا للأذهان صورا، خلناها أضحت حكرا على التاريخ و أرشيفات هيئة الحقيقة و الكرامة. تلك الممارسات التي كان زبانية بن علي يتفننون فيها، فيتلذذون بسحل المحجبات و صفعهن على وجوههن في الفضاءات العامة و يطربون للتنكيل بهن، و يضيقون عليهن في المؤسسات العمومية ليقايضنهن بأبسط حقوقهن المدنية كالتعليم و الشغل و الصحة. كوابيس خلناها قد ولّت دون رجعة، بعد ما أتى به الدستور من بنود، تكفل حرية الإنسان و ضميره و تضمن كرامته، حتى كانت البارحة الواقعة، حيث أطلت نفس أيادي الظلام، لتصبح هايدا الإمام، صاحبة أول حجاب ينزع عنوة بعد ثورة أربعطاش.
و صدق من قال: التاريخ معلم، و لكن من أين التلاميذ.
Comments
8 de 8 commentaires pour l'article 160985