استقلال تونس.. الحقائق المُغَيّبة

<img src=http://www.babnet.net/images/2b/protocolbvcx2.jpg width=100 align=left border=0>


بقلم: شكري بن عيسى (*)

كما في كل سنة منذ خمس أو ست سنوات، في ذكرى الاستقلال المعلن منذ 20 مارس 1956، تنتشر الفعاليات الوطنية بين التحوّز بالذكرى، وبين الاستثمار في الحدث باحياء احتفاليات، وبين التوظيف في التاريخ بتنظيم خطاب استعراضي بقصر قرطاج كما هو شأن السبسي في كل مرة، ولو أنّ هذه السنة الفعاليات كانت فاترة الى حد ما مع ارتفاع التشاؤم لدى التونسيين بالمستقبل من جراء قتامة الاوضاع الاقتصادية.

...

وكالعادة ارتفعت الرايات الوطنية مختلفة الاحجام والشعارات، ونزل عديد المواطنين في عدة ساحات وشوارع لاحياء الذكرى، ولئن احتل قبل سنتين قرار تركيز "صمبة" لبورقيبة في قلب الشارع الاعرق محور السجالات والتجاذبات، فان الذكرى هذه السنة تميزت بنشر رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة وثائق مرفوقة بتحاليل حول حقيقة استقلال تونس والتحكم في الثروات الوطنية، الهبت صفحات التواصل الاجتماعي واحيت نقاشات سياسية واعلامية وحتى اكاديمية ما تفتىء لتضمر حتى تحيا من جديد، والتجاذب وصل الى حد التناحر والتنافي الكلامي المتبادل بين انصار البورقيبية وخصومها.

قضايا مهمشة وسجالات سطحية

ذكرى الاستقلال التي طغى فيها اسم بورقيبة و"انجازاته العظيمة" وتمحور النقاش حول شخصيته الطاغية، تجعلنا فعلا نستحضر القضايا المغيّبة والمهمشة ونثيرها من منطلق اهميتها دون ادعاء تقديم اجوبة حاسمة حولها تتطلب تعمقا وبحثا من مختصين ما اقلهم اليوم في مجال التوثيق والتأريخ، وكم نحتاج اليوم الى تفكيك علمي للعلاقة بين فترات "المقاومة" وفترات "بناء الدولة" وحضور عديد الاعتبارات منها الخارجية والشخصية (الزعامتية) والجهوية والايديولوجية، مثل الذي حدث غداة الاستقلال وحسم النزاعات والاختلافات الذي كان في جزء مهم دراماتيكيا بطريقة العنف والعنف المضاد من الطرفين امام غياب الية حسم ديمقراطية حكيمة.

في نفس اطار القضايا المهمشة، العلاقة بين "الاستراتيجي" و"التكتيكي"، و"الراديكالي" و"الاصلاحي" (التدريجي)، والعمل "النخبوي" و"الجماهيري"، والنشاط "الفكري" و"الميداني" (الاتصالي)، والكفاح "المسلح" (المواجهة) والكفاح "السياسي" (بما فيه التفاوض)، وغيره من النشاط الثقافي الفني والنقابي والاعلامي، وهو ما ارتبط في الصراع بين التوجه البورقيبي والتوجه الثعالبي في خصوص ادوات العمل الحزبي، وما ارتبط في الصراع بين الامانة العامة للحزب ورئاسته في خصوص الاستقلال الذاتي وتسليم المقاومين السلاح للمستعمر وما ارتبط بالصراع بين جزء من الفلاقة والحزب الحر الدستوري الجديد في خصوص اختيار منهج دحر الاحتلال، وهي اشكاليات طرحت بشكل مخل وسطحي في اغلبه ما جعل الدروس تغيب ولا يرسخ سوى الشخصي الانطباعي.

وحتى الوثائق الجوهرية المتعلقة بالاستقلال فغلب على تناولها الاخلال والعموميات والسجالات السطحية بين من يعتبرها حسمت الاستقلال بشكل مطلق وبين من يعتبرها مجرد كذبة، الى حد اثارة الاساطير، ولم يقدم لنا المختصين الاجوبة الحاسمة، ومما تأكد لدينا ان نسخ "اتفاقيات الاستقلال الذاتي" المؤرخة بتاريخ 3 جوان 1955 و"بروتوكول الاستقلال" المؤرخ بتاريخ 20 مارس 1956 موجودة بمؤسسة الارشيف الوطني التونسي ويمكن الاطلاع عليهم واخذ نسخ طبق الاصل، وهو ما يزال ينكره البعض دون تثبت او تدقيق، وخاصة حول عدم وجود اتفاقيات الاستقلال الذاتي التي تعلقت بالنفاذ لها في وقت ما قضية بالمحكمة الادارية، ونفت وجودها رئاسة الحكومة.

وثائق الاستقلال.. ارتياب مبرر

الحقيقة ان تفاصيل وثيقة "اتفاقيات الاستقلال الذاتي"، والتي تعيد مضمونها الاساسي وثيقة "الاتفاقية العامة بين تونس وفرنسا" المؤرخة من الباي بتاريخ 27 اوت 1955، كثيرة ولكننا سنتوقف عند الاشكاليات التي تثيرها وثيقة "بروتكول الاستقلال" "protocole d'independance" وهي منشورة على موقع الحكومة واعادت نشرها مؤسسة الارشيف الوطني في معرض بدار الاخبار بتونس العاصمة يوم 20 مارس 2016. هذه الوثيقة موجودة في نسخة بالفرنسة ونسخة مترجمة بالعربية. ولئن توجد ملاحظات شكلية حول الترجمة والرسم والفقرات والعنوان وموضع التاريخ والامضاءات ونسختين مختلفتين باللغة الفرنسية الا اننا سنتوقف حول النسخ "الرسمية" دون غيرها ونركّز اساسا على المضمون.

ثلاث نقاط جوهرية على الاقل تترك ضبابية كبيرة حول حقيقة الاستقلال وتثير ارتياب كبير في الصدد امام عدم تقديم تدقيقات حاسمة من المؤرخين والموثقين وفي ظل صمت المجلس النيابي المعني بالاستقصاء والتحقيق في الامر وبعد التعثّر في عمل هيئة الحقيقة والكرامة المسؤولة عن العدالة الانتقالية في اطار صلاحياتها ومسؤوليتها في كشف الحقيقة والتوثيق والتأريخ، ومع انشغال المؤسسات الرسمية الاخرى وخاصة الرئاسة بالمسائل الاسطورية والصنمية في شخصية بورقيبة.

وثيقة الاستقلال بتاريخ 20 مارس 1956 (المفترض ان يكون تاما) في النقطة "ب" اشارت الى مقتضيات اتفاقيات 3 جوان 1955 التي ستصبح متناقضة مع وضع تونس الجديد (دولة مستقلة ذات سيادة) التي سيقع الغاؤها او تحويرها، ومع ذلك لم يتم اي شيء في الصدد حسب ما هو موجود، ولا عرفنا بالتفصيل والتحديد المستوجبين المقتضيات المعنية بالاشارة في النقطة "ب"، ولا تم بعد ذلك بالتدقيق والتفصيل (مع النشر) المستوجبين الالغاء او التحوير الواجب. من جهة اخرى النقطة "ج" في وثيقة الاستقلال المؤرخة بتاريخ 20 مارس 1956 تقضي بان فرنسا وتونس تتفقان على تحديد او اكمال "صيغ تكافل" "modalités d'interdependance" يتحققان بحرية بين البلدين اثارت اكثر من سؤال.

من ناحية لم تحدد "صيغ التكافل" المشار اليها ومن اخرى فاشكال عميق في الصدد حول طبيعة "تكافل" بين دولة محتلة ودولة بصدد التحرر من الاحتلال وكيف سيكون "التكافل" "l'interdependance" متوازنا ولا يكرس من جديد هيمنة او تحكم او سلطة باسلوب وشكل جديد سيكون هذه المرة "رضائي"!؟ "بروتكول الاستقلال" في المحصلة بطبيعته كان عاما مقتضبا لدرجة كبرى ولا يمكن بحال ان يحسم قضية الاستقلال المعقدة ولامتناهية التفاصيل، ويبقى مجرد اعلان نوايا ومبادىء عامة ولذلك استوجب مفاوضات تفصيلية اخرى لانجاز في اقصر الاجال الوثائق الضرورية لوضع المبادىء الذي تضمّنها حيز التنفيذ. وهو ما تضمنته فقرته الاخيرة التي وضعت اجل 16 افريل 1956 لاستئناف المفاوضات الامر الذي لم يوجد اثر مدقق على حصوله ويزيد بذلك من الارتياب والشكوك في قضية مصيرية، ويلقي عليها بظلال كثيفة.

حقائق غائبة ام مغيّبة؟

مجال العقود والاتفاقيات هو مجال قانوني دقيق جدا، وبعض الاتفاقيات يتم تدارسها وصياغتها بتفاصيل سخية حسب موضوعها. واهمية بل مصيرية الاستقلال تستوجب تفاصيل ووضوح ودقة كاملة دون نقصان ولا يجب ان تترك عديد الجوانب للغموض او الضبابية والالتباس والتأويل، كل حسب ما يبدو له من معطيات والبعض حسب هواه خاصة ان العلاقة بين البلدين حكمتها عدة اتفاقيات منها "اتفاقية" الحماية (سنة 1881) واتفاقيات الحكم الذاتي (سنة 1955) وبروتكول الاستقلال (سنة 1956). ولئن الغيت بصفة صريحة الاتفاقية الاولى فان الثانية (التي تكرس سيادة مزدوجة) بقيت متداخلة في بنودها مع بنود البروتوكول وزادتها "صيغ التكافل" وغياب تفاصيل عن "استمرار التفاوض" تعقيدا وارتيابا.

وغياب الحقيقة الدقيقة في قضية مصيرية الهب بعد الثورة الشكوك وغذى الخيال واطلق العنان بالنسبة للكثيرين لفكرة تواصل الاحتلال بشكل مقنّع خاصة مع استمرار الهيمنة الثقافية وعلوية اللغة الفرنسية في مناهجنا التربوية والتحكّم الاقتصادي سيما في بعض العقود الاستغلالية مثل "عقد الملح"..

وبالرغم من الاعتراف الدولي والامم المتحدة بالاستقلال الكامل لتونس، ومع اصدار دستورين بعد 1956 (دستور 1959 ودستور 2014) ينصان على استقلال تونس وسيادتها، الا ان الشكوك في الصدد ستظل قائمة وعميقة طالما تظل التبعية الاقتصادية والثقافية والتعليمية خاصة مستمرة لفرنسا وطالما لم تتوضح بصفة جلية السيادة الفعلية للدولة على ثرواتها ولم ينعم المواطن بثمارها بشكل محسوس عادل وطالما لم تكشف الحقائق كاملة (وبشكل دقيق حاسم) من طرف هيئة جديرة بالثقة حول الوثائق والملابسات المتعلقة باستقلال تونس التي ظلت غائبة لعقود ولا ندري ربما تكون مغيّبة وبالتالي تخفي اسرار خطيرة تمس بجوهر السيادة!؟

(*) قانوني وناشط حقوقي



   تابعونا على ڤوڤل للأخبار

Comments


3 de 3 commentaires pour l'article 158141

Srettop  (France)  |Mercredi 21 Mars 2018 à 10h 20m |           
هنيئاً للكاتب لإكتشافه 62 سنة بعد الإستقلال، أن الإستقلال الفعلي ليس في السيادة، بل في العلم والتكنولوجيا.
إستغلال ثرواتنا؟ لنا في إستغلال منجم قفصة مثل رائع في ذلك.


Nouri  (Switzerland)  |Mercredi 21 Mars 2018 à 07h 52m |           
في سنة 2016 كانت لي محادثة مع موضفة بإحى المؤسسات السويسرية فسألتني عن إسمي وقالت من أي بلد هذا الإسم ؟ قلت لها تونسي، فقالت لي تونس هي فرنسا، قلت لها لماذا ؟ تونس بلد حر منذ 1956.
فقالت بأن أبيها يعرف تونس وكان في الجيش الفرنسي.

فسألت نفسي، كيف في سنة 2016 هنالك من لم يعلم ان تونس بلد حر منذ 1956.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل التونسي هو الذي غائب عن الحقيقة ؟ ونحن جاهلوا ما حصل بين بورقيبة وفرنسا ؟

Mandhouj  (France)  |Mardi 20 Mars 2018 à 22h 49m | Par           
في حالات الإنتقال من الهيمنۃ المباشرۃ إلی ما تعودنا عن تسميته الإستقلال تكون داءما المفاوضات في صالح المهيمن .. خاصۃ أنها داءما توقع من طرف جزء من أبناء المقاومۃ . الجزء الآخر في كثير من الأحيان يُردی للضعف, بإغتيال البعض منه و تهميش البعض الآخر.. و هكذا حدث لكل الدول التي كانت مستعمرۃ.. اليوم الوعي إنتشر لدی كل الشعوب و يجب إحداث مراجعات في كثير من القضايا ,منها تلك الإتفاقيات .. ثم خاصۃ أن الشعوب رغم بداءِۃ الديمقراطيۃ لديها إلا أنها أصبحت قريبۃ من القرار .. لقد إنتهی عهد العملاء كما عرفناه في عهد الدكتاتوريۃ .. ثم هذه المراجعات ليست فتح حروب , لكن فتح صفحۃ جديدۃفي التاريخ الإنساني . و هذا إرتقاء حضاري للأنظمۃ و للشعوب .


babnet
All Radio in One    
*.*.*