داء ''التضخّم'' العضال.. ومراهم البنك المركزي ''الجلدية''

<img src=http://www.babnet.net/images/2b/dinarchrita2.jpg width=100 align=left border=0>


بقلم: شكري بن عيسى (*)

لم يعد المواطن البسيط في حاجة لفهم "التضخّم"، وبقيّة المصطلحات الاقتصادية الأخرى المعقّدة، للوقوف على حدّة الأزمة الاقتصادية الخطيرة بالبلاد، انتظار نشريات المعهد الوطني للاحصاء وبقية الأرقام الأخرى العديدة، فقفة العائلة صارت أبلغ من ألف خبير اقتصادي، وهي أيضا أبلغ من عشرات النظريات الاقتصادية، فيكفي معرفة أنّ القفة التي كان يملأها المواطن من قضية الغلال والخضار بمبلغ 20 دينار، لم يعد هذا المبلغ يملأ سوى نصفها أو أقل، ويكفي أنّ السيارة الشعبية التي كانت بـ12 الف دينار صارت اليوم في حدود 30 الف دينار، وهذا أبلغ معنى للتضخم الذي تصبح معه العملة دون قيمة، وتفقد قدرتها الشرائية التي تدهورت بشكل حادّ.





التضخّم قديما أو حديثا يعدّ من أبرز مظاهر الأزمات الاقتصادية، فهو السّوسة التي تنخر الاقتصاد وتعطّل كل مفاعيل الديناميكية الاقتصادية، أمّا أن يقترن الأمر زيادة بارتفاع البطالة وتعمّق العجز التجاري وركود النمو، فهذا يبرز أنّ الوضع الاقتصادي في حالة انهيار حقيقي، لا يمكن التغطية عليه ببعض التصريحات السياسية لرئيس الحكومة هنا، أو الاجراءات الترقيعية التضليلية من محافظ البنك المركزي هناك، فكلّها لذرّ الرماد على العيون لا غير، والأصل اليوم الاقرار بالاخفاق وتحمّل المسؤولية، والانطلاق في سياسات ظرفية وأخرى هيكلية فورية، والاّ فالامور ستؤول الى الغرق القريب.

أسباب التضخّم الحقيقية
اليوم التضخّم الذي يدمّر القدرة الشرائية للمواطن، ويرتفع بشكل رهيب السنتين الاخيرتين، ليس مجرّد أرقام معزولة دون معنى، بل هو انعكاس للسياسات الاقتصادية والمالية التي انتهجتها الدولة منذ الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، هذه السياسات التي فرضت استقلالية البنك المركزي عبر قانون سنة 2016، وتخليه عن وظيفته الأساسية السابقة بالدفاع على قيمة العملة الوطنية والحرص على استقرارها التي كان ينص عليها قانون سنة 1988 المُلغى، ورسالة النوايا التي امضاها المحافظ السابق الشاذلي العياري ووزير المالية الاسبق سليم شاكر في ماي 2016، كما الاتفاق مع صندوق "بريتن وود" لاسناد قرض 2,9 مليار دولار، يتضمّن التزاما واضحا بتعويم الدينار.

والتعويم الوحشي لعملتنا الوطنية تدهورت معه قيمة الدينار بشكل فظيع، وانهارت قدرته الشرائية في ظل اقتصاد مرتبط بشكل جوهري بالعالم، واليوم كل الأرقام تنهار من صدمة تدهور الدينار أمام العملات الاجنبية، فعجز الميزان التجاري تدهور بما يقارب 3 مليار دينار سنة 2017، منتقلا من قرابة 12,600 مليار دينار سنة 2016 الى 15,590 سنة 2017، أمّا العجز الجاري فوصل الى رقم قياسي تاريخي بنسبة برقمين فاقت 10% من الناتج الداخلي الخام، بقيمة وصلت 10,1 مليار دينار، وتدهورت معه مدخرات العملة الصعبة الى حد مفزع وصل يوم 7 مارس الجاري 77 يوم استيراد.

التعويم الوحشي للدينار نتج عنه بصفة جوهرية تضخّم "مستورد"، باعتبار ارتباط الاقتصاد بالخارج، عبر استيراد المواد الاستهلاكية، وعبر استيراد المواد الطاقية، ولكن أيضا عبر استيراد التجهيزات والمواد الأولية وقطاع الغيار، والمسألة اليوم صارت دوامة متواصلة لا يمكن ايقافها، والضغوط التضخمية تزداد وتحتد، خاصة في ظل وضعيات ظرفية تفتقد للرقابة، مع تصاعد الاحتكار والغش والظرف الفلاحي غير المناسب، وفي ظل زيادات مباشرة في قانون المالية في أسعار المحروقات والطاقة، وفي عديد الضرائب، مع استمرار الرفع في الدعم على عدة نشاطات.

معالجة رعوانية.. تسريع الانهيار
ومعالجة جذور هذا التضخّم المثير للدوار، لا يمكن بحال أن يكون بمجرد اجراءات تضليلية، فالتضخم ليس الا أعراض لسرطان خطير، لا يعالج بمراهم جلدية خارجية، بل وجب النفاذ لعمقه واستئصاله، واليوم رفع البنك المركزي من نسبة الفائدة المديرية بـ75 نقطة ، من 5% الى 5,75%، المبتغى منه حسب ما هو معلن التحكّم في التضخّم، لا يمكن انتظار أيّ جدوى منه فضلا عن انعكاساته السلبية، في الوقت الذي يطمس حقيقة وجذور الأزمة العميقة.

فاليوم البنك المركزي تمّ حرمانه من اليات التدخل للحفاظ على استقرار الدينار، والقاء مسؤولية الحفاظ على استقرار الدينار عبر رفع نسب الفائدة، وهو أمر اذ لم ينجح سابقا مع المحافظ السابق، الذي رفع الفائدة المديرية من 3,75% سنة 2013 الى 5% سنة 2017 ، ولم يحقق شيئا يذكر بل أن الاتجاه التضخمي ظل تصاعديا (6,4% في ديسمبر 2017 الى 6,9% في جانفي 2018 وصولا الى 7,1% في فيفري 2018)، فهذا القرار لن يحقق المرجو الان، اذ رفع كلفة الاقتراض في تونس لا يقلص الاقتراض خاصة الاستهلاكي، فالتونسي مع حاجته للاستهلاك الاني او الاستثماري لا يتأثر بسعر الفائدة مهما ارتفع.

والمسألة ليست آلية بحال، والترابط بين الاستهلاك وسعر الفائدة تقريبا مفقود، كما أنّ التداعيات الاقتصادية والاجتماعية سلبية في عمومها، اذ الرفع بنقطة أو نصف نقطة في الفائدة لن يحقق زيادة في الادخار، مع تأثيره العكسي على الاستثمار الذي سترتفع كلفته في ظل وضع اقتصادي دقيق وحساس، ما سيرفع نسبة البطالة، كما أنّ الاستهلاك المرتبط بارتفاع سعر الفائدة سيثقل كاهل الفئات محدودة الدخل والمتوسطة ايضا، سواء من خلال ازدياد كلفة قروض الاستهلاك الاني او قروض السكن والتجهيزات، وهو ما سيزيد في مراكمة عناصر الاحتقان الاجتماعي، ويعقّد العلاقة بين اتحاد الشغل والحكومة، خاصة بعد الضغوط المتصاعدة التي صارت تواجهها المنظمة النقابية حتى من داخل قواعدها.

والحقيقة ان تغطية الشمس بالغربال، برفع الفائدة المديرية من قبل العباسي، كمن يعالج مرضا عضالا بمراهم جلدية، لا تزيد سوى بمنح المجال لاستفحال الداء، وتخدير المعني بمجرد عقارات لا تحقق حتى التسكين الوقتي للاوجاع، والامر لا يعدو ان يكون سوى مجرد فرقعة لا طائل منها، اذ انكشفت حتى قبل اطلاقها، فالمحافظ الجديد المنخرط في ايديولوجيا الصناديق الدولية الليبرالية، يقف عاجزا على فعل اي شيء امام التدهور القائم، لكنه مُطالب او بالاحرى مدفوع للعب لعبة "الفائدة المديرية"، في انتظار "الكاوو" الاقتصادي الذي يخطط له صندوق النقد الدولي، من أجل استباحة كاملة لاقتصادنا، ابتداء من اجراءات التقشف الى خوصصة الشركات العمومية وصولا لتجميد الاجور وجرايات التقاعد وتسريح الموظفين، وغيرها من اليات الليبرالية التي لا تؤمن الا بالدولة المستقيلة اقتصاديا.

(*) قانوني وناشط حقوقي


Comments


0 de 0 commentaires pour l'article 157403


babnet
All Radio in One    
*.*.*
Arabic Female