"عربون" لعماد جمعة على ركح مهرجان الحمامات: عرض كوريغرافي يرقص على جراح الفنان التونسي في ظل الوجع والتهميش

<img src=http://www.babnet.net/images/3b/689455c9928d67.88219160_mpighnfkeqolj.jpg width=100 align=left border=0>


مثّل العرض الكوريغرافي "عربون" للفنان عماد جمعة الذي قدمه في سهرة الأربعاء 6 أوت ضمن الدورة 59 لمهرجان الحمامات الدولي، تجربة فنية تجاوزت حدود التعبير الجمالي لتلامس جراحا يعيشها الفنان التونسي والمواطن العادي في آن واحد. وقد جاء العرض كصرخة مؤلمة صيغت بالجسد لواقع اجتماعي صعب وانعكاسا لعالم يتخبط في هشاشته بعد جائحة كوفيد - 19.
اختار عماد جمعة لمشروعه عنوانا مستوحى من قاموس الحياة اليومية التونسية "عربون"، وهو ذلك المصطلح الشعبي الدارج في اللهجة التونسية الذي يستخدم للدلالة على مبلغ مالي يدفع كتسبقة، لضمان التزام أو اتفاق بين طرفين. غير أن "العربون" في هذا العمل، لم يعد مجرد رمز مالي فقد تحوّل إلى استعارة فنية تشير إلى الثمن الذي يسدده الفنان والتونسي عامة نظير محاولاته المتكررة للبقاء والصمود وسط واقع يفتقد الحد الأدنى من التوازن.


تدور أحداث العمل على مدى ساعة من الزمن في غرفة تقليدية بمنزل متواضع يعكس أثاثه الباهت حال المجتمع ومآسيه. ويستحضر العرض أزمة الفنان التونسي في ظل غياب الحقوق الأساسية وغياب الأمل حيث يصبح الحفاظ على الدور الاجتماعي تحديا وجوديا. ويجسد "عربون" الواقع الموجع لطبقة مسحوقة ويطرح تساؤلات حول قدرة الإنسان على الصمود وسط العجز والتجاهل ليغدو مرآة صادقة تعكس ما تعانيه آلاف العائلات من قهر وصمت في مجتمع يطالب بالتماسك بينما يهمل أسسه.



ويختزل الفضاء الحالة النفسية والاقتصادية التي تعيشها أغلب العائلات التونسية تلك التي تلتزم الصبر حفاظا على صورة متماسكة فيما تنهار من الداخل بصمت.
 من الناحية الحركية، اعتمد مخرج العمل على مفردات جسدية دقيقة تميل إلى الانكماش والانغلاق في إيحاء صريح بالحصار والعجز. وقد تنوعت المشاهد الكوريغرافية بين مقاطع فردية حرة فجرت الانفعالات الذاتية، وأخرى جماعية محكومة بتنسيق صارم وتكرار مقصود، عكس بدقة شعورا بالاختناق والتكرار القاتل للمعاناة اليومية. وقد عبر هذا التكرار بوضوح عن دوران الأزمات في حلقة مفرغة وعن غياب الأفق وندرة الحلول.
وجاء "عربون" بمثابة شهادة حية على واقع الفن في تونس وصورة ناطقة لهشاشة البنية الثقافية والوضع الذي يعانيه المبدعون. لقد حمل العمل بين طياته "عربون وفاء" لذاكرة الفن المهدّد بالزوال و"عربون احتجاج" ضد منظومة تعجز عن احتواء الفنان وضمان كرامته المهنية.
وفي بُعد إنساني عاطفي، جاء هذا العمل أيضا تحية رمزية لوالد عماد جمعة الذي كان موسيقيا في فرقة نحاسية، كما استدعى أجواء جائحة كورونا، كمرحلة فارقة أعادت تشكيل وعي الفنان وذاكرته وعلاقته بمحيطه الإبداعي والاجتماعي.
 تألّف طاقم العرض من ثمانية راقصين هم رانية الجديدي وأماني الشطي  وحسام الدين عاشوري وشكري جمعة وعبد القادر دريحلي وعمر عباس وقيس بولعراس، إلى جانب عماد جمعة نفسه. وقد تجلّى التناغم واضحا في أدائهم الجماعي مدعومًا بالحضور اللافت للمخرج الراقص الذي أحسن توظيف تجربته الطويلة على مدى 40 عاما لصياغة عمل فني متكامل رغم محدودية الإمكانيات المادية والإنتاجية.
لقد رقص عماد جمعة وفريقه على الألم، لكنه كان رقصا واعيا وعميقا وجميلا رغم قسوته. وقد جاء "عربون" بمثابة بيان فني صارخ ضد التهميش وضد اختفاء الفن الجاد وضد الإقصاء الممنهج للفنانين الحقيقيين. وهو ربما قد يكون آخر "عربون" يُقدّم من جيل يؤمن أن للفن رسالة وأن للرقص قدرة على قول ما تعجز عنه الكلمات.
وفي الندوة الصحفية التي تلت العرض، تحدّث عماد جمعة بصراحة موجعة عن ظروف إنجاز العمل الذي استغرق أكثر من عام ونصف.  أكد أن العرض جاء في سياق شخصي ومهني صعب بعد انسحابه من لجنة الدعم الفني، وعودته إلى موقع الفنان المنفذ الذي يواجه ظروفا شبه مستحيلة.
وعبّر عن خيبته من الواقع الفني في تونس، مشيرا إلى أن "الرقص المحترف بات شبه منعدم وأن الراقصين المحترفين يتناقصون يوما بعد يوم". كما انتقد غياب التكوين الجاد وتراجع قيمة العمل الكوريغرافي أمام العروض الترفيهية السطحية، وفق تقديره.


Comments


0 de 0 commentaires pour l'article 312957


babnet
*.*.*
All Radio in One