أحلام ريفية 2

أول زيارة لأهلي كانت بعد غياب شهور حتى في عيد الأضحى لم أتمكن من زيارتهم.. لم أستطع حتى المشي فحذائي ذو الكعب العالي لا يتناسب وطريق ريفنا العزيز.. فرحت أمي كثيرا لرؤيتي وكل إخوتي ولكن لم أكن أتوقع ردة فعلي هذه.. كنت أتوقع أني سأنهار في حضن أمي وستسيل دموعي ولكن شيئا من هذا لم يحدث.. لا أعلم مأتى هذا البرود الذي أصابني.. نظر إليّ إخوتي متهامسين فأنا أرتدي ملابس غريبة عنهم وحتى لهجتي الجديدة التي أستميت في إتقانها اختلفت عنهم.. مرت الأيام الثلاث ككابوس.. لم أعد قادرة على التأقلم مع حياتهم الريفية المتعبة المفتقرة لأبسط مرافق الحياة الكريمة التي تحفظ كرامة الإنسان.. لا كهرباء لا ماء لا قدرة على الاستحمام.. غرفة واحدة تضمني وإخوتي.. ننام على الأرض.. حتى خبز أمي لم أعد أستسيغه ولم تعد حكايات الجوار ولا ما يحدث في الحقول يثير اهتمامي.. ذلك الرضا وتلك القناعة لم يعد لهما مكان في صدري.. لم أعد قادرة على العيش وسط أهلي.. لا أستطيع العيش خارج العاصمة.. حتى أحلامي الريفية البسيطة تغيرت.. أختي التي كانت تغار مني لأن أبي قرر إرسالي دونها سخرت من ملابسي ولهجتي وتصرفاتي قالت لي " خرجت من جلدتك.. تنكرت لأصلك.. وما ينكر أصله كان..." هل كفرت من أرادت تغيير مسار حياتها.. من وجدت في طريقة عيش أهل العاصمة ضالتها وتعودت عليها.. من تمنت بيتا كبيوت العاصمة.. ماء ساخن وبارد متى شاءت.. مطبخ عصري.. تلفزيون ملوّن ومئات الفضائيات.. محلات كبرى يتوفر فيها ما يحتاجه المرء دون عناء.. طرق معبدة.. هل "خرجت من جلدتي" لأني أردت مصيرا آخر غير "قلع الجلبانة" و"بيع الطابونة" والزواج من ابن العم..
عدت إلى العاصمة وبقلبي شوق كبير لها ولبيتي الجديد.. وعكس ما يحدث لصديقتي معينة الجيران من ضرب وإهانة وهضم حقوقها المادية وتحرش أحيانا كنت سعيدة لحسن معاملة مشغلتي لي.. لم تشعرني يوما أني " خادمة" وأني أقل منها مستوى اجتماعي.. حتى أفراد عائلتها كانوا يعاملونني بلطف صحيح أنها تصحبني معهم في نزهاتهم وحتى الاصطياف لخدمتهم وأبذل مجهودا إضافيا إلا إني كنت سعيدة بذلك فالكل يحترمني ويمازحني.. صديقتي لا تصدقني أحيانا وتحسدني أحيانا أخرى فهي تلقى أسوا معاملة.. تعمل ليل نهار دون هوادة.. ثم يتقاسم "السمسار" ووالدها مرتبها مما يضطرها إلى التلاعب بمصاريف البيت اليومية لتتحصل على بعض المال وأسرت لي أنها تعرضت للتحرش من قبل زوج مشغلتها وشقيقها.. ولكني صراحة كنت ألقي اللّوم عليها فهي تبالغ في الميوعة وتحاول إغواء الجميع بما فيهم "الخضار" و"العطار"..
ذات يوم طلبت مني أن اخرج معها يوم عطلتي الأسبوعية لتعرفني على حبيبها الذي سيتقدم لخطبتها قريبا.. كان شابا من أصل ريفي أيضا نزح للعمل بحظائر البناء بالعاصمة واصطحب معه رفيقه.. تغدينا سويا وتنزهنا.. لم تعجبني تصرفات ثلاثتهم ولا نظراتهم.. انزويا في ركن بعيد عن العيون وظل صديقه معي يغازلني بطريقة مقززة.. وأحسست بما اكتسبت من ثقافة من الأفلام المصرية أنه يتحرش بي ويراودني عن نفسي.. صفعته وابتعدت ضحك قائلا" ملا جبرية".. نظرت له بكل اعتزاز.. خاصة بعد أن رأيت صديقتي في وضع يثير الاشمئزاز.. أفتخر كوني " جبرية".. ربما تنكرت لحبي للريف ولهجتي وملابسي ولكن كيف أتنكر لما تربيت عليه من قيم وأخلاق.. إن كان شرفي هو ثمن التحضر والتخلص من كلمة "ڤعرة" فالله الغني..

عدت إلى العاصمة وبقلبي شوق كبير لها ولبيتي الجديد.. وعكس ما يحدث لصديقتي معينة الجيران من ضرب وإهانة وهضم حقوقها المادية وتحرش أحيانا كنت سعيدة لحسن معاملة مشغلتي لي.. لم تشعرني يوما أني " خادمة" وأني أقل منها مستوى اجتماعي.. حتى أفراد عائلتها كانوا يعاملونني بلطف صحيح أنها تصحبني معهم في نزهاتهم وحتى الاصطياف لخدمتهم وأبذل مجهودا إضافيا إلا إني كنت سعيدة بذلك فالكل يحترمني ويمازحني.. صديقتي لا تصدقني أحيانا وتحسدني أحيانا أخرى فهي تلقى أسوا معاملة.. تعمل ليل نهار دون هوادة.. ثم يتقاسم "السمسار" ووالدها مرتبها مما يضطرها إلى التلاعب بمصاريف البيت اليومية لتتحصل على بعض المال وأسرت لي أنها تعرضت للتحرش من قبل زوج مشغلتها وشقيقها.. ولكني صراحة كنت ألقي اللّوم عليها فهي تبالغ في الميوعة وتحاول إغواء الجميع بما فيهم "الخضار" و"العطار"..
ذات يوم طلبت مني أن اخرج معها يوم عطلتي الأسبوعية لتعرفني على حبيبها الذي سيتقدم لخطبتها قريبا.. كان شابا من أصل ريفي أيضا نزح للعمل بحظائر البناء بالعاصمة واصطحب معه رفيقه.. تغدينا سويا وتنزهنا.. لم تعجبني تصرفات ثلاثتهم ولا نظراتهم.. انزويا في ركن بعيد عن العيون وظل صديقه معي يغازلني بطريقة مقززة.. وأحسست بما اكتسبت من ثقافة من الأفلام المصرية أنه يتحرش بي ويراودني عن نفسي.. صفعته وابتعدت ضحك قائلا" ملا جبرية".. نظرت له بكل اعتزاز.. خاصة بعد أن رأيت صديقتي في وضع يثير الاشمئزاز.. أفتخر كوني " جبرية".. ربما تنكرت لحبي للريف ولهجتي وملابسي ولكن كيف أتنكر لما تربيت عليه من قيم وأخلاق.. إن كان شرفي هو ثمن التحضر والتخلص من كلمة "ڤعرة" فالله الغني..
أصبحت أتجنب الحديث معها.. ومنحت كل طاقتي ووقتي وحبي لعائلتي الجديدة وأحبتي الصغار.. وظللت أزور أهلي بين الفينة والأخرى..
ذات يوم تقدم شاب نازح مثلي يعمل بالمغازة المجاورة طالما غازلتني عيونه الخجولة لطلب يدي من مشغلتي.. فرحت كثيرا فقد تحقق أهم أحلامي الجديدة حيث صرت أحلم بالزواج من رجل يقطن العاصمة ويسكنني في بيت يشبه إلى حد ما بيت سيدتي.. سأنجب طفلين ولد وبنت وأطلق عليهما أسماء جميلة من "الموضة" وسيدرسون بمدارس تحبّبهم في العلم.. وسأستضيف أمي وإخوتي الذين لم يغادروا الريف يوما ليروا وجها آخر للحياة..
مديحة بن محمود
Comments
9 de 9 commentaires pour l'article 31211