مفتاح إصلاح التعليم.. حذف اللغة الفرنسية

بقلم: شكري بن عيسى (*)
مفاتيح العلم والشغل والتكنولوجيا والتسويق أصبحت متصلة بلغات مثل الانقليزية والألمانية والإسبانية
مفاتيح العلم والشغل والتكنولوجيا والتسويق أصبحت متصلة بلغات مثل الانقليزية والألمانية والإسبانية
لا نكاد نفهم اليوم لماذا بعد قرابة الستين سنة على اتفاقيات الاستقلال، لا تزال لغة المحتل جاثمة على تعليمنا وادارتنا واقتصادنا وثقافتنا، وبالتالي مهيمنة على مآل نهضتنا وتحررنا واقلاعنا؟
لا نكاد نفهم ذلك بعد ما يزيد عن ثلاث سنوات على انطلاق ثورة نشدت الحرية في كل ابعادها ومغازيها، رفعت ليس شعار كسر الاستبداد والفساد فقط، بل في المركز كسر التبعية والارتهان للخارج الذي يعتبر مصدر كل انحراف للسلطة، ومناط مصادرة إرادة الشعب وسيادته على ثرواته وحكمه ومصيره.
المحتل الفرنسي اختلف جوهريا على المحتل البريطاني الذي اكتفى بنهب ثروات وهتك مقدرات الدول التي احتلها، المحتل الفرنسي كان يخرب أيضاً المستعمرات اقتصاديا ولكن بالتوازي يجرّف ثقافيا، في اللغة، في المقومات التاريخية والحضارية وأيضاً العقيدية. والانطلاق كان من محق التعليم بالعربية إلى التجنيس عبر قانون 1923 وصولا إلى المؤتمر الافخارستي (المؤتمر 30 في المؤتمرات الدينية الكاتوليكية) الذي أقيم بـقرطاج سنة 1930، التي واجهها الشعب التونسي بطليعته المقاومة بضربات موجعة في وجه المحتل.

لغة المحتل التي كانت احد الأدوات الفعالة لهيمنته والسيطرة إبان حقبة الاحتلال المباشر استمرت كأداة استراتيجية عالية الأهمية في فترة ما بعد الاحتلال المباشر، وكانت احد مصادر الهيمنة والنفوذ وآلية جوهرية لمحو ركائز الشخصية الوطنية واستمرار التحكم السياسي والاقتصادي والأمني والعسكري عبر التحكم الثقافي الفعال.
وفي مجال التربية والعلوم ظلت اللغة الفرنسية عصب التعليم في كل مراحله الأساسية والثانوية والعالية، وأيضاً النشر العلمي وكذلك الندوات والملتقيات في معظم الجامعات.
ولم تفلح كل المحاولات الجادة من رواد الحركة الاستقلالية أو العروبية في فك هذه الهيمنة العميقة والاجتياح الكامل لمنظومتنا التعليمية، ولم تحقق كل الحركات في هذا الاتجاه سوى ادخال العربية في بعض المواد والمجالات والاختصاصات دون مس من مركزية الفرنسية في قلب تعليمنا.
فرنسا بعد 20 مارس 1956، حافظت على كل مصالحها الحيوية في تونس، بل دعمتها، وبكلفة اخفض بكثير، ودون تبعات قانونية ولا حقوقية، وفرضت خياراتها بشكل أسهل وبأكثر فاعلية، عبر اللغة الفرنسية التي صارت الحامي لوجودها ونفوذها في تونس، وعبر حملتها من مستعمليها وأيضاً دعاة الانصهار في الحضارة الفرنسية (الفرنكوفيلية) ووضبت لهم كل الامتيازات والحوافز والموارد لحمل راية استمرارها.
اليوم تغلغل الفرنسية في تعليمنا لا ينتهك، فحسب، سيادتنا، ويقوٌض استقلالنا، المبني على مقوماتنا كشعب عربي مسلم، وسلطاننا على اقتصادنا، بل يشل في العمق تعليمنا ويحبط افقنا الحضاري.
اللغة الفرنسية التي تدرس اليوم قسرا منذ السنوات الأولى في الأساسي، أصبحت معيقا أساسيا لتعليمنا. الاكتضاض اليوم هو من أكبر إشكاليات تعليمنا الأعرج، اكتضاض في الساعات وفي المواد والبيداغوجيا، يضاف اليه اكتضاض في اللغات. اللغة الفرنسية صارت اليوم زائدة دودية حقيقية، فالعربية اللغة الأم وتدريسها اساسي والانقليزية لغة العلم والتجارة الدولية صارت حاجة مركزية ولذلك اصبح تعليمها منذ السنوات الأولى، وكان لزاما دحرجة الفرنسية إلى سنوات التعليم الثانوي لتمكين ناشئتنا من الرسوخ في اللغة الأم وحذق لغة العلم والتجارة، وفي الحقيقة لم يعد لها أي مسوغ للوجود طوال سنوات التعليم الاساسي. فالحالة الحالية اصبحت معيقة لتملك المواد، ولم تمكن من إتقان أيّ من اللغات الثلاث بالشكل المستوجب، لا العربية ولا الفرنسية ولا الانقليزية.
معوقات التعليم اليوم ترتبط بالمحيط التربوي والبرنامج والمدرس والبيداغوجيا وطرق التقييم المبنية على الحفظ وحشو العقول على حساب اكتساب مناهج الإنتاج والابتكار والنقد، والعائق الأكبر هو استمرار تدريس اللغة الفرنسية بكل تعقيداتها وقواعدها إلى حد الوصول إلى مراحل التعليم العالي والبحث العلمي المتصل عضويا بالانقليزية.
وبهذا أصبحت الفرنسية عائقا مركزيا لفاعلية وجودة وجدوى العملية التعليمية، وبالتالي عائقا للنهوض والتنمية، وتحقيق استحقاقات التشغيل المتصلة بها.
اليوم مفاتيح العلم والشغل والتكنولوجيا والتسويق (أكبر محركات التنمية)، أصبحت متصلة بلغات جديدة مثل الانقليزية وأيضاً الألمانية والإسبانية وحتى الهندية والصينية، والاجتياح السلبي للفرنسية لمنظومتنا التعليمية لم يرسخ سوى استمرار العقم في الصدد، وصارت بالتالي هذه اللغة الاستعمارية عائقا حضاريا شاملا للتقدم والنهضة والإقلاع.
طبعا مجال هذا المقال ليس البحث في إنزال العربية كلغة أم المكانة التي تستحقها كأحد مكونات اصلنا وجذورنا وشخصيتنا وكياننا وحضارتنا وهويتنا ومستقبلنا، فتلك مسألة عميقة تتطلب بحثا مفردا، تضاف إليها مشكل الثنائيات مع اللغات العالمية واللغة العامية واللغة الامازيغية، وقضية العقل العربي ، ولكن لا موقع اليوم لأي إصلاح بدون تنقية الساحة من المعيق الأساسي، اللغة الفرنسية.
طبعا كذلك المشكل ليس بالسهولة، لا بالنظر إلى ما يجب تحضيره من مدرسين وبرامج وكتب وهيكلة ومرحلة انتقالية تتطلب وقتا هاما، ولكن بالنظر إلى استمرار النفوذ المالي والثقافي والسياسي والاداري والأمني وغيره، من وكلاء فرنسا في تونس الذين لهم امتيازات هامة في الارتباط بالفرنسية، كلغة أو حضارة، وسيدافعون عنها حتى الموت . ففرنسا خلقت منظومة صلبة متشعبة، والأموال تضخ بالمليارات لحماية الموارد الاسترنومية والنفوذ، ولا شك ان دولة فرنسا ستحرك ترسانتها الاخرى الموجودة في تونس بأدوات الضغط الاقتصادي والسياسي والأمني لمنع كل مس بموقع الاميرة الفرنسية. أيضاً تيارات مدعي الحداثة والبورقيبية الذين يرون في العربية مدخل التخلف والفرنسية مركز كل تقدم، ولا يعتقدون إلا في المركزية الغربية ، هم روافد إسناد في الصدد.
والجميع عاين بوضوح الفيلق الجبار الذي انطق متناغما، وعلى رأسه عياض بن عاشور، لما طرح الفصل 38 من الدستور (الذي اصبح في النسخة الختامية الفصل 39) المتعلق بنشر وترسيخ وتعميم العربية، وسخرت لهم كل الفضائيات ووسائل الإعلام الفرنسية (عفوا اقصد التونسية)، واعتبر تجذير الناشئة في الهوية العربية الإسلامية فيه روح فاشية تعسفية قمعية ، هذه التشكيلة التي تستقبل الأساتذة الفرنسيين في جامعاتنا استقبال الأنبياء المبشرين. والقضية حقيقة تتجاوز إصلاح التعليم إلى الاستقلال الذي ظل في حكم المصادرة ما دامت اللغة الفرنسية جاثمة على صدورنا وتحقق لفرنسا نفوذا عاليا، واستغلالا كبيرا لثرواتنا، وتمحق كل معالم الانعتاق والنهوض الوطني، و المعركة فعلا في قلب الصراع مع القوى المضادة للثورة ومراكز النفوذ المناهضة للسيادة الوطنية وسلطة الشعب.
(*) قانوني وناشط حقوقي
Comments
88 de 88 commentaires pour l'article 87071