دور الدبلوماسية في خدمة الأمن القومي التونسي - الجزء الأول

<img src=http://www.babnet.net/images/6/min52.jpg width=100 align=left border=0>


أحمـد بـن مصطفـى
دبلوماسـي وسفيـر سـابق


في الوقت الذي تتفاقم فيه مخاطر الإرهاب ، الذي تحوّل الى المصدر الأساسي لتهديد أمن تونس واستقرارها وتجربتها الناشئة للانتقال الديمقراطي ، لابد من التفكير الجماعي في سبل تفعيل دور الدبلوماسيّة التونسيّة في خدمة الأمن القومي التونسي بمفهومه الشامل ــ السياسي والاقتصادي والاجتماعي ــ وفي مواجهة التهديدات التي تتربص ببلادنا ، وتستهدف تقويض كيان الدولة التونسيّة والنمط المجتمعي والحضاري التونسي في خياراته وتوجهاته الأساسيّة بعد الاستقلال .
...


أهميّة العمل الدبلوماسي في مكافحة الإرهاب بحكم ارتباطه بالخارج


لا شك ان التحدي الارهابي المفروض على تونس هو امتداد لظاهرة عالمية قديمة تعددت خلفياتها السياسية و العقائدية ، و قد تزامن انتشارها في الخليج و شمال افريقيا بداية التسعينات مع اندلاع حرب الخليج الأولى ضد العراق وبروز تنظيم القاعدة ثم الحرب الأهلية في الجزائر ، التي ظلت معزولة نسبيا رغم انعكاساتها السلبية على الأوضاع الأمنية الإقليمية خاصة في منطقة الساحل الإفريقي . لكنّ اندلاع الحرب الأمريكية الغربية على الإرهاب سنة 2001 المتبوعة بالغزو الأمريكي لأفغانستان ثم العراق ساهم في اتساع العنف المضاد المستبغ بالتطرف الديني الذي رفع بقيادة تنظيم القاعدة راية الجهاد ضد الاحتلال الأمريكي الغربي لدول عربية وإسلامية بحجة مقاومة الإرهاب وضد النظم العربية المتهمة بدعم ما سمّي بالحملة الصليبية ضد الإسلام . ورغم الطابع الدموي لهذه المواجهة ، فقد ظلت تونس ومنطقة الشمال الإفريقي عموما في منأى نسبيا عن العنف الدموي المرتبط بالحركات الدينية المتطرفة خاصة بعد انتهاء الحرب الأهلية في الجزائر وانحصار العنف في حدوده الدنيا بعد انجاز المصالحة واستعادة السلطة المركزية سيطرتها على البلاد .



إلاّ أن التحولات الحاصلة بعد اندلاع الثورات العربية وسقوط الأنظمة المستبدة بتونس ومصر وليبيا هيّأ الظروف الملائمة لعودة الحركات الإسلامية لتصدر المشهد السياسي العربي ، كما أدى الى اضعاف أجهزة الدولة الأمنية أو حتى انهيارها خاصة في ليبيا مما هيّأ الأجواء الملائمة للحركات والتيّارات الدينية السلفية غيرا لمؤمنة بالانتقال الديمقراطي للتموقع والتوسع وإعادة تنظيم صفوفها والتنسيق في ما بين فروعها المحليّة تمهيدا الاستيلاء على السلطة في المنطقة وفرض أسلوبها في الحكم المستند الى ʺ الشريعة الإسلامية ʺ وذلك كبديل للدول ʺ العلمانية ʺ المستندة الى القوانين الوضعيّة والمدنيّة .
ولهذه الأسباب فإنّ التطرّف والإرهاب الذي تواجهه تونس اليوم غير مسبوق من حيث خطورته بحكم تحوّله الى ظاهرة إقليميّة عابرة للحدود واستغلاله لحالة الانهيار المؤسّساتي والأمني وانتشار فوضى السلاح بعد سقوط العقيد القدافي وكذلك صعود الحركات الإسلاميّة الى السلطة مما أتاح له الفرصة لأوّل مرة للتغلغل بقوة بتونس وليبيا ومصر والانتقال الى مرحلة المواجهة المسلّحة المباشرة ضد ما يعتقد أنّها نظم كافرة ومعارضة للإسلام.

تحول ليبيا إلى المصدر الأساسي لتهديد أمن واستقرار تونس و دول المنطقة


واعتبارا لارتباط هذا التحدّي المصيري بعوامل ومؤثرات خارجيّة تتعلق بالمحيط الجغرافي المباشر لتونس وتحديدا الأوضاع غير المستقرة بليبيا اضافة الى الحرب الأهليّة في سوريا والأوضاع في الدول العربية الأخرى التي شهدت ثورات على الأنظمة المستبدة ، وعلاقاتنا بالقوى العظمى وتركيا وبدول المشرق والخليج المؤثرة في المشهد الليبي والتونسي فضلا عن الحروب الدائرة في افريقيا واليمن ضد المنظمات الارهابيّة المستبغة بالتطرف الديني وعلى رأسها تنظيم القاعدة وتفرعاته المحلية ، فإن الدبلوماسيّة التونسيّة مدعوة في هذه المرحلة المفصليّة من تاريخ تونس للاضطلاع بدور حيوي متعدد الأبعاد يشمل الدبلوماسيّة الوقائيّة والعمل الاستقصائي التشخيصي ولاستشرافي لمصادر التهديد الخارجيّة وكذلك مصادر التهديد الداخليّة ذات المنشأ الخارجي ، وسبل التعاطي معها وتحييدها والقضاء عليها في إطار التعاون المتعدد الأطراف على كافة الأصعدة الثنائيّة والدوليّة والإقليميّة .
والملاحظ في هذا الصدد ان الحرب على الإرهاب لا يمكن أن تقتصر على المواجهات العسكريّة والأمنيّة الدائرة حاليا في عدة مناطق من البلاد ضد مجموعات متطرفة ومدربة على فنون القتال في بؤر ارهابية مثل العراق ومالي وأفغانستان والساحل الإفريقي والمستندة الى شبكات تمويل وإسناد خارجيّة وداخليّة ، بل يجب أن تتدعم بعمل دبلوماسي وعمل استخباراتي داخلي وخارجي يستهدف بالأساس الى محاصرة الارهاب في الداخل والخارج وقطع خطوط اتصاله وإمداده الخارجيّة وإبعاده عن المناطق الحدوديّة حتى يتسنى القضاء نهائيا على المجموعات الإرهابية العاملة بتونس ومنع إعادة تشكيلها . ويتطلب ذلك التعاون على الصعيد الاقليمي مع الدول العربية و الافريقية المحيطة بليبيا وعلى الصعيد الدولي مع الدول الشقيقة والصديقة وتفعيل اتفاقيات التعاون المشترك الثنائية والمعاهدات الدولية المتعلقة بمقاومة الإرهاب و العمل الجماعي على تشخيص هذا الخطر الداهم بكافة ابعاده ، والقضاء عليه خارج حدود الوطن ، والسعي الى قطع مصادر تمويله وتجهيزه بالعتاد العسكري وتحصين الشباب التونسي من الانخراط في مخططاته والحيلولة دون انتشاره الفكري والعقائدي.
كما يتعين أن تعمل الدبلوماسية التونسية على الصعيد الخارجي لمعاضدة الجهود الأمنية والاستخباراتيّة الرامية الى تفكيك مراكز التدريب وقنوات الانتداب والتجنيد المسؤولة على تغذيّة الإرهاب في تونس وإقحام الشباب التونسي من منطلقات عقائديّة في الحروب الدائرة في سوريا والعراق ومالي وغيرها من بؤر التوتر في العالم .هذا ويتعين على الدبلوماسية التونسية ــ انسجاما مع السياسة الحكومية بالقضاء على الارهاب ــ التحرك لمحاصرة مصادر التمويل الخارجية للأطراف التونسية التي ثبت تواطئها مع المجموعات الإرهابيّة العاملة بتونس والتعامل مع الجهات الخارجية الداعمة للإرهاب كأطراف معادية لبلادنا باعتبار أنها تسعى الى تقويض الأمن القومي التونسي وفرض تطبيق مفهومها الخاص للشريعة بتونس بقوة السلاح على انقاض الدولة الوطنية التونسيّة وعلى حساب الشعب التونسي المستهدف في بلده ككيان حداثي مستقل وفي انموذجه الحضاري ومكاسبه وتجربته الديمقراطية الرائدة والفريدة في العالم العربي .
والجدير بالذكر أن المخاطر التي تتهدد الأمن القومي التونسي لا تقتصر على التهديدات الوجوديّة التي تتربص ببلادنا وبالنمط المجتمعي والخيارات الحضاريّة التي ارتضاها الشعب التونسي لنفسه بعد الاستقلال بل تشمل أيضا الأمن القومي الاقتصادي المرتبط بعلاقات تونس الخارجيّة في المجالات التنموية والتجارية والاستثمارية والمالية بحكم اعتماد تونس على نمط تنموي يقوم على جلب الاستثمارات الخارجيّة وتشجيع الصادرات والنهوض بالقطاعات الخدميّة كالسياحة المرتبطة بالأسواق الخارجيّة فضلا عن الاعتماد على القروض والتمويلات الخارجيّة لتمويل الاقتصاد التونسي والحفاظ على التوازنات المالية للبلاد . ومن هنا تبرز أهميّة ومحوريّة الدور الموكول للدبلوماسيّة التونسيّة للإسهام في بلورة السياسات وسن الخيارات الكفيلة بمعالجة هذه الملفات بما يخدم أمن تونس ومصالحها العليا حاضرا ومستقبلا .


أهميّة تركيز الدبلوماسيّة التونسيّة على معالجة تدهور الأوضاع الأمنيّة والسياسيّة في ليبيا


وبطبيعة الحال لا يتسع المجال لتناول كل هذه الجوانب المتداخلة في اطار هذا المقال الذي سنركز فيه على الأمن القومي السياسي المتصل بمحيطنا الجغرافي القريب وبدول الجوار ذات التأثير المباشر على مقومات الأمن والاستقرار بتونس لاسيما في ظل التطورات التي يمر بها الوضع الداخلي في ليبيا بعد سقوط نظام العقيد القدافي والانعكاسات السلبية الملموسة والخطيرة لهذا الانهيار على الأوضاع الأمنيّة والسياسيّة والاقتصاديّة بتونس .
وتجدر الإشارة الى أن ليبيا أصبحت المصدر الأساسي لتهريب الأسلحة للمجموعات الارهابيّة بتونس التي تتخذ من التراب الليبي ملاذا لها ولقياداتها ، كما تشكل ليبيا بحكم ضعف سيطرة السلطة المركزيّة مرتعا للشبكات التي تعمل على تجنيد وتدريب الارهابيين وإدخالهم الى تونس لتنفيذ مخططاتهم الاجرامية واستقطاب الشباب التونسي للقتال في سوريا لحساب تنظيم النصرة القريب من القاعدة وكل ذلك في أطر منظمة وحلقات مترابطة تحظى بدعم من أطراف خارجيّة لها امتدادات داخل تونس وبعدة دول محيطة بسوريا وخاصة منها تركيا.
ومن هذا المنطلق تبرز أهميّة دخول الدبلوماسيّة التونسيّة على الخط لمعالجة العلاقات والأوضاع في ليبيا كأولويّة قصوى والعمل على استعادة الأمن والاستقرار وسيطرة الدولة الليبية على كافة أرجاء البلاد و على المناطق الحدوديّة مع تونس والجزائر حتى يتسنى محاصرة المجموعات الارهابيّة وقطع خطوط امتدادها وبالسلاح وشل حركة المجموعات الارهابيّة وتجفيف منابعها للحيلولة دون تحوّل المواجهة معها الى حرب استنزاف لقواتنا المسلحة ولأجهزة الأمن التونسيّة لاسيما وان الاستراتيجيّة الأمنيّة والدفاعيّة لتونس كانت على الدوام ذات طبيعة وقائية واستباقية تقوم على درء المخاطر ومحاصرتها خارج الحدود وعدم السماح لها باختراق الوطن من الداخل والمساس بالنسيج المجتمعي التونسي وبالوحدة الوطنية لبلادنا . لكن هذه الاستراتيجية أضحت اليوم بحاجة الى المراجعة وفقا للواقع الجديد الذي تعيشه تونس والمنطقة ونجاح الإرهاب في التغلغل الى التراب التونسي ودخوله في مواجهة مفتوحة مع الدولة والشعب بغرض تغيير النمط المجتمعي والسياسي بتونس بقوة السلاح .
ونظرا للأوضاع الهشة التي تمر بها ليبيا وبروز مخاطر تفكيك الكيان الليبي و تقسيمه فإن الدبلوماسيّة التونسيّة مدعوة للتحرك على المستوى الثنائي والإقليمي والدولي وبالتعاون مع السلطة الليبية الحاكمة ومع الدول العربيّة والإفريقيّة الأخرى المجاورة لليبيا حتى يتسنى معالجة الأوضاع في ليبيا بما يخدم الحفاظ على الوحدة الوطنية والترابية الليبية ويؤدي الى اعادة بناء الدولة الليبية لجعلها قادرة على تحمل مسؤولياتها في السيطرة على كافة ارجاء البلاد وعلى حدودها والقضاء على المجموعات والشبكات الارهابية التي تتخذ من التراب الليبي منطلقا لتهديد أمن واستقرار بلدان الجوار وخاصة تونس .
وقد يتطلب الأمر السعي في إطار الأمم المتحدة والجامعة العربية ومنظمة الوحدة الافريقية الى بلورة الصيغ الممكنة لتحقيق هذه الأهداف بالاعتماد أساسا على مساهمة الدول العربية والإفريقية الأخرى المحيطة بليبيا المهددة في أمنها ومع السلطة المركزية الليبية المدركة لمحدودية امكانياتها للسيطرة على الوضع داخل ليبيا مما قد يدفعها الى طلب السند الخارجي لاسيما في ظل تفاقم مظاهر الفوضى الأمنية وفقدان السلطة المركزية لقدرتها على التحكم في موارد البلاد النفطيّة فضلا عن بروز نزعات انفصالية قد تؤدي الى تقويض الوحدة الوطنية والترابية بليبيا .
وتجدر الإشارة في هذا الصدد الى التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء الليبي علي زيدان التي حذر فيها من تدخل القوى الأجنبية في حالة استمرار الفوضى المسلحة في البلاد مما يؤكد أن السلطة المركزية بليبيا مدركة بأنها قد تضطر الى الاستنجاد بالمساعدات الأمنية والعسكرية الخارجية لتحقيق الحد الأدنى من الاستقرار الداخلي ومن مقومات السيادة وخاصة بسط سيطرتها على الحدود والتحكم في المجموعات التي تتحدى الدولة الليبية وتهدد أمن الدول المجاورة لها.
وبطبيعة الحال لا بد أن يشمل هذا التحرك التعاون والتشاور الدبلوماسي مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة لمعالجة الأوضاع في ليبيا لاسيما في ظل الدور المركزي الذي لعبته هذه الأطراف في اسقاط النظام الليبي بقوة السلاح وما ترتب عن ذلك من انعكاسات سلبية على الأمن والاستقرار داخل ليبيا وبدول الجوار وكذلك على الصعيد المتوسطي والإقليمي والدولي .
وفي هذا الصدد تجدر الإشارة الى أن الحرب الأهلية في ليبيا تسببت في نزوح عدد كبير من الليبيين الى تونس ومن الصعب التنبؤ بتبعات هذا الوجود الليبي المكثف بتونس الذي يتجاوز النصف مليون نسمة خاصة وإنه مكون في جانب منه من أتباع نظام العقيد القذافي الذين يبدو أنهم لم يفقدوا الأمل في امكانية التموقع من جديد على الساحة السياسية بليبيا .
سنكتفي بهذا القدر في إطار هذا الجزء الأول من المقال المخصص لبيان أهميّة الدور الموكول للدبلوماسيّة في الدفاع على الأمن القومي التونسي المهدد بسبب تدهور الأوضاع السياسيّة والأمنيّة بليبيا وبدول عربية وافريقية أخرى وكذلك بسبب توظيف هذه الأوضاع من قبل بعض الأطراف الداخلية والخارجية لمحاولة تفويض أمن واستقرار تونس وتغيير النمط المجتمعي التونسي في أساسياته وخياراته الاستراتيجية الجوهرية منذ الاستقلال .
أما الجزء الثاني من هذا المقال فسنخصصه لاستعراض الجهود المبذولة من قبل المجموعة الدولية وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لمعالجة الأوضاع الأمنيّة والسياسيّة بليبيا بما يخدم مصالحها والخطوات العمليّة التي يمكن للدبلوماسيّة التونسيّة اتخاذها بالتعاون مع الدول العربية والإسلامية وشركائها الاستراتيجيين لإعادة الأمن والاستقرار الى ليبيا والى المنطقة وفقا لما يخدم مصالحها الذاتية وحاجيات تونس ودول المنطقة في الحفاظ على أمنها ومصالح شعوبها .





   تابعونا على ڤوڤل للأخبار

Comments


0 de 0 commentaires pour l'article 76517


babnet
All Radio in One    
*.*.*