الثّورات العربية تشقّ مثلّث بِرْمودا

بقلم أبو محمد سفيان
بابتسامة عذبة، و عيونٍ تختزل الحبّ و المعاتبة في آن ، سألت والدها بينما كانوا في إعتصام رابعة العدوية لِمَ لَمْ يشتري لها كما إعتادت ثوبا جديدا للعيد؟
بابتسامة عذبة، و عيونٍ تختزل الحبّ و المعاتبة في آن ، سألت والدها بينما كانوا في إعتصام رابعة العدوية لِمَ لَمْ يشتري لها كما إعتادت ثوبا جديدا للعيد؟
لم تكن تدْري تلك الطفلة البريئة أنّ ثوب عيدِها الأخير سيكون كفنًا.
لم تكن تدْري بأنّ وحوشا ضارية سيختطفون حلمها عنوة.
لم تكن تدْري بأنّ الحرية التّي حَلُمَتْ بها هي تهديدٌ للأمن القومي العربي والعالمي.
لم تكن تدْري بأنّ حُلمها في الإنعتاق من كل إرتهانٍ لإرادة الطّاغية هو سمّ يتجرّعه يوميا حكّامنا السابقون ووكلائهم.

هذه الأيقونة التّي لا حول لها ولا قوّة هي تعبيرٌ صادقٌ عن هشاشة عُودِ الثّورات العربية في شَقِّ طريقها الشائك نحو الحريّة، وما يُواجهها من قتلة مأجورين هم تعبيرٌ صادق أيضا لمثلث الجذب إلى الوراء. فهي رغم طراوة عظمها تهدّد وجودهم . لذا إتّفاقوا - أو جعلتهم مصالحهم يتّفقون - على الإجهاز عليها.
سنحاول في هذا المقال توصيف الأضلع الثلاثة لهذا المثلث المميت لكل نفس حرّ أفرزته الثورات العربية الناشئة، و دوافعِ كل طرفٍ على محاولة وأدها قبل أن يشتد عودها.
الضّلع الأول : النّظام السابق أو الدولة العميقة
الضّلع الأوّل من مثلث برمودا المضادّ للثروات العربية هو مستهلك من القاصي والدّاني، ألي وهو النّظام السابق. من يقول أنّ كلمة النّظام السّابق تعني حفنة الوزراء السابقين ورئيسهم الهارب للسعودية أو الحزب المنحلّ، هو شخص نجح النّظام في إستبدال خلايا التّفكير و البحث في عقله بخلايا التّفقير( الفكري طبعا ) و الجهل, و وجب الإعتراف أنّه إستثمر كثيرا في جهلنا و نجح بنسبٍ عالية.
المتجوّل في الإدارات التونسية و الدّواوين والمؤسسات التربوية يتأكد أن النّظام القديم لازال على حاله.
في كلمات مختصرة :
- هو ذلك الأخطبوط الذي وَعَدَ وأَوْفَى بأن يكون الحارس الأمين لمصالح المستعمر في بلادنا ومن ورائهم كل النّظام العالمي ،وإن تعارضت المصالح فلا ضَيْرَ من أن نغلّب مصالح الأسياد (النّظام العالمي) على مصالح العبيد (الشعوب).
- هو ذلك الكائنُ الممتدّ في شرايين كل عائلة بسيطة، تلك الدولة العميقة التي تحدثنا عنها في كتابات سابقة حيث ذهب رأسها وبقي جسدها نافذا في كل نواة من هذا المجتمع. كيف لا وقد عمِلت على مدى 60 عاما على إرتهان كل فرد بسيط إما ماليًّا عن طريق الإقتراض ليوهمه برفاهيّة كاذبة وسالبة لكل نزعة تحرّر، وإما فكريًّا بمحاولة ترسيخ التّفقير المعرفي المُمَنْهج والمراهنة على إنتاج أجيال متعلمة ولكن ليست مثقّفة. وليس أدلّ على ذلك أكثر من هذا العقم السّياسي الذي جعلنا نستنجد بالرعيل الأوّل والثاني لدولة الاستقلال.
- هو تلك الشبكة العنكبوتية للمصالح التي تشكّلت على مدار السنين بين كل مكوّنات المجتمع من إدارةٍ ،إلى رجال أعمالٍ ،إلى المربّين والجامعيّين وهو يُوهِمهم أنّ سقوط هذه الشبكة أو المنظومة هو سقوط لهم، بينما هو في الأصل إنعتاقٌ لهم من قيودٍ وسلاسلَ وضعوها عن طواعية لتكبّلهم وتسلبهم مواطنتهم الحقّة.
هذا النّظام يحاول إسترجاع موقعه (وهذا طبيعي) بشتّى الوسائل وبتواطؤٍ مفضوحٍ من قوى إقليمية لا ترانا ندور إلا في فلكها وبعض القوى الرِّجْعِيّة بالسّليقة كالسعودية والأردن وسوريا و الإمارات والكويت... والآخذ مسافة عن الأحداث يرى بوضوح الرقم القياسي للإعتصامات والإضرابات والعرقلة لكل خطوة نحو الإصلاح والتقدم.
الضّلع الثاني : المعارضة اليسارية
الضّلع الثاني هو يَسارٌ لفظه صندوق الاقتراع. هذا اليسار فيه شقّان وجب الفصل بينهما رغم إجتماعهما الآن. ففي زمن النّظام الشّمولي كان اليسار يساريين:
- يسارٌ وَفِيٌّ لمبادئه فلم يَلِنْ، وجمعته ساحات النّضال مع كل أطياف المعارضين من إسلاميين وقوميين.
- ويسارٌ إستمالتهُ غنائم الحرب ورفاهية الكراسي فقرّر أن يكون مِطوَاعًا في يد الدولة العميقة و نزع عن طواعية كل أنيابه ، فكافأته السّلطة الحاكمة بأن أودعت له عقول الأجيال القادمة يشكّلها كما يريد. وُزّعت الجوائز في حفل بهيجٍ بأن أُعطِيَ محمد الشّرفي مثلا حقيبة التّربية والتّعليم ، وكلّنا نعلم ما آلت إليه الأمور في هذه المجالات. حقيبة الإعلام أعطيت لسمير العبيدي، وهذا سيُفسّرُ الكثيرَ للذين يتساءلون عن مردود الإعلام في أيامنا. هم نِتاجُ أيادٍ يسارية تكيّفت مع الدولة العميقة. تطول القائمة لذا سأختم ببرهان بسيّس ذلك اليساري الذي عرض خدماتهِ لكي يكون نادلا إيديولوجيًّا Garçon idéologique على الموائد الإعلامية للحاكم.
هذان الشقان إتّحدّا اليوم مرّة أخرى، ولم يُوحّدهُما إلّا عداء قديم جديد للتّيارات ذات المرجعية الإسلامية خاصة بعد أن باحت الصناديق بأسرارها ونصّب الشّعب عدوّهم اللّدود، ولم تسعفهم إلا عبقرية عياض بن عاشور ودهائه الذي جاءنا بنظريّة أكبر البَقايا في القانون الانتخابي (والتي لا تجدها إلا في بلد العجائب تونس)، لولا ذلك لما كان لهم تمثيلية في الهيئات المنتخبة.
بعد هذه النتائج تكوَّن لهم يقين بأن المسار الديمقراطي والانتخابات لا يخدم إلا عدوّهم ( بتعلّة أن الشعب جاهلٌ بمصلحته ) فكَفَروا بهذه الديمقراطية. لكنّ هذا الإتحاد في جبهة واحدة جاء على حساب الشقّ الذي رابطَ مع سلاحه في الماضي فدخل في تنازلاتٍ مبدئيةٍ لصالح الشق المُخترَق من النّظام السابق، فألقى سلاحه وتحالفَ مع عدوّ الأمسِ ألا وهو الدولة العميقة. ونحن نستعرض يوميّا ألبوم الصور الحميميّة لحمّة الهمّامي في أحضان الباجي قائد السبسي .
و هو التحالف الذي يستبطنُ إقرارًا من اليسارِ بعدم قدرته على الحشد أو التحرّك بمفرده ، فهو كمن سيتجرّع السّمَّ مُكْرَهاً. هذا الإكراه مردّه نقمة على ثورةٍ ظنّوا أنّها مِصْعدُهم للحكم بعد طول انتظار، فأتت رياحها بما لا يشتهون.
الضّلع الثالث: الحركات الأصولية
الضّلع الثالث - وهو الأخطر في نظري - هو تنظيم القاعدة ومن لفّ لفّهُ. فعندما جاءت الثورات العربية، كما هدّمت صرح الديكتاتورية أسقطت في آن واحد مفهوم القاعدة للانقلاب على الطغاة الذي يرتكز على العنف. لقد أثبتت الثورة بسلميّتها أنّ هناك وسائل أخرى للإنعتاق من كل حاكم جائر. هذا البديل هدّدها في كينونتها وأفقدها زخما شعبيا خاصة بعد وصول تيارات ذات مرجعية دينية تنبذ العنف إلى سدّة الحكم (الحركات الاخوانية في تونس ومصر).
منذ انطلاق الثورة وقفوا مع كل ما هو مضادّ لتطوّر مسارها السليم:
- الفراغ الأمني الذي خلّفته الثورات إستُغلّ على صعيدين: صعيدٌ دعويّ إستثمر المساجد والتّفقير الممنهج الذي قام به الطغاة في الجانب الديني فانتشر كانتشار النّار في الهشيم مترادفا مع شيطنةٍ لباقي الحركات الإسلامية قد يصل إلى تكفيرها في بعض الأحيان. وصعيدٌ عسكري إستغلّ الفراغ في الساحة الليبية لتجميع السّلاح المتاح في هذه المناطق وإخفائها في جنح الظلام قدر المستطاع حتى يحين وقت التحرّك، وليس أدل على ذلك من المخابئ التي اكتشفها الأمن التونسي والتي أجزمُ أنّها لا تمثل إلا النّزر القليل مما سرّب دون رقيب، الحال في سيناء هو أعظم بكثير حيث أصبحت صحراؤها حسب محلّلين عسكريّين أكبر مقبرة للسلاح الليبي.
- مع إقتراب الانتخابات بدأت حملة لتحريمها وجعلها منافية لمبادئ الإسلام. ظاهر الدّعوة يلبَسُ ثياب الإفتاء، لكن باطنها سياسي بامتياز. فهو محاولة تنفيرٍ للفئات المتديّنة لعدم النّزول والانتخاب كي لا تقوى شوكة الحركات التي تطرح بديلا إسلاميا معتدلا.
- حصل المحظور في نظرهم، بوصول الحركات الإسلامية مما سيطيل مدة سباتهم الظّاهري ذلك أن الحاجز الأخلاقي والعقائدي سيقف عائقا أمام المجاهرة بمعاداة الحاكم و سيُفقدهم شعبيتهم وقدرتهم على الاستقطاب. سأذكركم بكلام شيخهم الخطيب الإدريسي دائما عن ضبط النّفس والصبر و تلك التّطمينات بأنّ تونس هي أرض دعوة .
- وقوفهم على الحياد في كل الأزمات التي واجهتها الثورات تحت شعار فخّار يكسر بعضو يؤكّدُ للقارئ المتمعّنِ في الوضع أن هذا الحياد الظّاهر هو تأييد غير مباشر إن لم نقل أنه شراكة فعليّة لكل محاولات الانقلاب على الثورة و آخرها اغتيال محمد البراهمي، كيف لا وهي الفرصة الذهبيّة التي تعطي مشروعيّة حمل السلاح للقاعدة على الانقلابيّين. وقد بشّر بهذا المسار قائدهم أبو عياض حين قال أن رجوع طواغيت العلمانية لن يتم إلا على جثثنا . وما يحدث في سيناء أكبر دليل (وهنا لا أقصد عملية اغتيال الجنود في الحافلتين، فهي من صنع الانقلابيين) حيث بدأ التشابك مع الشرطة في مواجهات مسلحة رغم أن حركة الإخوان قد شدّدت على أن سلميّة التحركات هي الكفيل الوحيد لإفشال الانقلاب، وهذا يؤكد إلتِقائَهم مع الإنقلابيّين في وَأْدِ الثورة وبذلك يعطون للجيش الذريعة للبطش بالشعب.
- عندما تحاول أن تقرأ الخارطة الجيو-سياسية الحالية تتنبّه إلى التمدّد الأفقي لحركة القاعدة باستغلال كل فراغ أمني في العالم. حيث بالإضافة إلى تموقُعاتِها القديمة في أفغانستان و باكستان و اليمن ، تمركزت في سوريا والعراق وأعلنوا قيَامَ إمارة إسلامية ، هناك محاولات لتركيز إمارة أخرى في سيناء قد تكون عودة الظواهري لمسرح الأحداث من خلالها . محاولة التّموقع في شمال إفريقيا و بالتحديد في المناطق الحدودية بين تونس والجزائر (جبال الشعانبي الوعرة) ، محاولات إعادة الإنتشار في مالي و الصومال . وهكذا يتبيّن أن مصالح هذا الفصيل الجّهادي متطابقة مع الانقلاب في إطار تنفيذ مخططاتها التوسعية.
- ما حصل في مصر من إنقلاب و ما يحصل في تونس سيفرّخ آلافًا من بن لادن والظواهري. حيث أهدى الإنقلابيوّن صورةً راسخةً و تأكيدًا لمقولة القاعدة بأنّ الدّيمقراطية هي عبارة للإستهلاك الإعلامي لا غير، و ما تَوَاطُئُ الدول الغربيّة ( الديمقراطية ) بالسّكوت إلاّ تأكيدٌ آخر، و المتجول على صفحات فايسبوك وتويترالآن سيجد كثيرا عبارة لقد صدق بن لادن ، لقد صدق الظواهري .
هكذا إكتملت الأضلع الّثلاث لمثلّث بِرْمودا، أضلاعه تبدو متضادّة في ظاهِرِها بحيث تخلق مجالا مغناطيسيّا يبتلع كل ثورةٍ تعبر المياه العربية. لكن المُتَصفِّحَ للّتاريخ العربي سيجد آثارَ أقدامٍ لأدوار مشتركة.
أليست القاعدة بنت العقل الأمريكي والأيادي السعودية؟
أليست الدولة العميقة هي حارسة النّظام العالمي في كل بلد عربي، والسعودية هي حارسة النّظام العالمي في المنطقة العربية ككلّ؟
أليست أيادي اليسار التي جرّعت السمّ للحركات الإسلامية في وقتٍ ما خِدْمَةً للمصالح الدولة العميقة؟
هناك خيط ناظِمٌ بين كلّ هذه الأطراف الإنقلابيّة و يوفّر لهم أسباب الحياة ،هذا الخيط سعوديّ بإمتياز، فهو الضّامن لتدفّق المال لأركان الانقلابيين من يسارٍ وجيش، وهو أيضا مصدر الزّخم الإيديولوجي الوهابي للحركات الأصولية .
عندما تدرك أنّ في بلدك يموت من لا يستحقّ الموت..
على يد من لا يستحقّ الحياة..
فأعلم بأنك تعيش لحظة وفاة الثّورات السّهلة الخدّاعة..
و ميلاد الثورات الرّاسخة في الأرض ..
إنّ الثّورة تبقي مزوّرة.. حتّى تخضّب بالدّماء
Comments
10 de 10 commentaires pour l'article 70435