ما حقيقة مآخذ الوسط الإسلامي على حركة النهضة

منجي المازني
كمتابع لشأن الإسلام السياسي في تونس أتفهم جيدا لماذا تستهدف حركة النهضة والأحزاب الإسلامية عامة بشراسة من قبل الأحزاب العلمانية أو من قبل بقايا نظام الاستبداد. ولكني لم أكن أتفهم في البداية بعض ردود الأفعال السلبية القاسية والعنيفة أحيانا إن من قبل التيارات الإسلامية أو من قبل الملتزمين بالإسلام عموما. ومن خلال متابعتي ورصدي لردود الأفعال هذه لاحظت أنها تصدر عن أربعة أصناف مختلفة.
كمتابع لشأن الإسلام السياسي في تونس أتفهم جيدا لماذا تستهدف حركة النهضة والأحزاب الإسلامية عامة بشراسة من قبل الأحزاب العلمانية أو من قبل بقايا نظام الاستبداد. ولكني لم أكن أتفهم في البداية بعض ردود الأفعال السلبية القاسية والعنيفة أحيانا إن من قبل التيارات الإسلامية أو من قبل الملتزمين بالإسلام عموما. ومن خلال متابعتي ورصدي لردود الأفعال هذه لاحظت أنها تصدر عن أربعة أصناف مختلفة.

الصنف الأول : الأنانيون الذين يفضلون مصالحهم على مصلحة الإسلام
كل المنتمين لهذا الصنف هم متدينون يصلون ويصومون ولكنهم يتشبثون بمصالحهم وبشهواتهم أكثر من تشبثهم بفرائض وبكليات الإسلام فتراهم يحرصون على تلبية مصالحهم المادية أكثر من حرصهم على تطبيق أوامر ونواهي الإسلام. فالذي أخطأ وتورط في سابق الأيام في دفع رشوة لنيل صفقات عمومية وانتزاعها من أصحابها أو لنيل رشوة مقابل خدمات معينة ثم تمادى في هذه الأعمال حتى أدمن عليها كالإدمان على المخدرات والسجائر يستشرف المستقبل ويستنتج بأن الحركة الإسلامية إن بقيت في الحكم فسوف تقضي شيئا فشيئا على مظاهر الفساد والرشوة والاحتكار ولو بعد حين وسوف لن يتمكن من المواصلة في تلبية رغباته غير السوية. فيتجه عندئذ إلى نقد اختيارات حركة النهضة واتهامها مثلا بأنها حركة تجر البلاد إلى مصير مجهول، وأن ليس لأغلب وزرائها التجربة الكافية لقيادة البلاد. ولقد تحاورت مع العديد من هؤلاء ورصدت سلوكياتهم فما وجدت وجهات نظرهم وردود أفعالهم إلا انتصارا لمصالحهم الذاتية الضيقة ولأنانيتهم المفرطة.
الصنف الثاني : المتشددون في الدين
المتشددون في الدين يهاجمون حركة النهضة لأن حركة النهضة في نظرهم وضعت يدها في يد بعض العلمانيين المعتدلين وسعت لتسلم الحكم عن طريق الديمقراطية المخالفة لأصول الحكم في الإسلام من وجهة نظرهم. فضلا عن أنها لم تسع بالقدر الكافي والمطلوب إلى اتخاذ قرارات جريئة وحاسمة في ضرورة تطبيق كل تفاصيل الشريعة الإسلامية. وهذا خطأ في اعتقادي في فهم تصور ومقاصد الإسلام. ولعل الاستبداد الذي حاصر الإسلام وانتهج خطة تجفيف المنابع ولم يسمح للعلماء من مواصلة نشر تعاليم الإسلام السمحة التي تحث على التسامح والاعتدال كان من بين أهم الأسباب التي أدت إلى بروز التشدد حيث ولدت هذه السياسة تشددا عند الذين يميلون بطبعهم إلى التشدد فقابلوا التشدد بتشدد مضاعف.
الصنف الثالث : المتدينون الذين لا يرون في الإسلام إلا الغنيمة وقضاء المصالح
من بين المتدينين من لا يرى في الإسلام إلا الغنيمة والمصلحة والتنفع، ويشاطره في ذلك الكثير من المواطنين. بحيث إن لم يحصل على هذه المنافع حالا أشاع بين الناس بأن الإسلاميين الذين كانوا لوقت قريب في السجون أو في بلاد الغربة، والذي منحهم ثقته واختارهم على من سواهم قد خذلوه ولم ينجزوا له شيئا. فلم يجن من حكمهم إلا الجني المر كغلاء الأسعار وبطء مشاريع التنمية في الجهات وبقاء نسبة البطالة مرتفعة. ولكن لا يمكن في هذا المجال مقارنة ما لا يقارن. فلا بد لكل شعب صاحب ثورة أن يتعرض في بداية الثورة للمضايقات ولضيق الأرزاق ولشتى أنواع الهزات ولردات فعل بقايا الاستبداد فتلك هي قوانين وسنن الثورات والأولوية المطلقة لنجاح الثورة وتثبيتها. ولقد تعرض المسلمون في شعب مكة إلى حصار شامل وظالم حيث تعاقد المشركون على بني هاشم وبني عبد المطلب ألا يبايعوهم ولا يزوجوهم ولا يكلموهم ولا يجالسوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله ليقتلوه. وحبس المسلمون في شعب مكة على تلك الحال ثلاث سنوات حتى أكلوا أوراق الشجر والحشائش. فالإسلام قبل أن يحث الناس على انتهاج طريق التنمية والعدالة الاجتماعية والاستفادة منها حثهم على استشعار المسؤولية الملقاة على عاتقهم بهدف حمل الأمانة وتبليغ الإسلام إلى كل العالم. قال الله تعالى إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا .
لقد عشش الاستبداد في هذه الأرض حتى غير طبائع الناس وانتزع الصبر والجلد من قلوبهم وزرع مكانهما الخوف من المستقبل وفقدان الثقة بما عند الله. وسوف تبقى أصوات الناس عالية ومرتفعة حتى يتحصلوا على ما يريدون. وأمام المعنيين بالشأن السياسي والإسلامي والاقتصادي الكثير من العمل إن بتغيير قناعات الناس أو بتأليف قلوبهم أو بإعطاء المثال في التقشف والانخراط في وسط الناس ومشاركتهم همومهم.
الصنف الرابع : الأكاديميون والمثقفون والتكنوقراط من ذوي التوجهات الإسلامية
رغم وعي هذا الصنف بصعوبة المرحلة وبالتحديات التي تواجهها الحركة الإسلامية في تونس وفي الوطن العربي عموما يعمد بعضهم إلى نقد توجهات الحركة في العلن وفي وسائل الإعلام. ومن شأن هذه الانتقادات أن تزيد من حدة الالتباس عند الكثيرين لأن عامة الناس لن تضع هذه الأفكار وهذه الآراء في خانة الأفكار التي تسعى إلى تعديل توجهات الحركة الإسلامية وإنما ستعتبرها كما لو كانت تمثل الحقيقة بحكم صدورها من أناس مثقفين وأكاديميين وتكنوقراط ذوي ميولات وتوجهات إسلامية. ولقد تلقف عديد المثقفين من مختلف المشارب انتقادات المفكر والفيلسوف أبو يعرب المرزوقي للحكومة وللحركة الإسلامية على طبق من ذهب ونشروها على نطاق واسع بل وأضافوا لها بعض اللوم عليه شخصيا فقالوا: ما كان لبعض المفكرين والفلاسفة أن ينخرطوا في حركة النهضة ويلوثوا الفلسفة بالسياسة. ما يمكن ملاحظته في هذا الصدد أن أغلب الانتقادات الموجهة للحكومة وللإسلاميين، من مثل لازال أغلب أعضاء الحكومة دون الخبرة المطلوبة، هي مجرد ملاحظات عامة وتنقصها الدقة رغم صدورها عن عديد المثقفين والمعارضين. وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال مشروع وهو : هل الذين حكموا تونس قبل الإسلاميين جربوا الحكم في بلدان صديقة ثم جاؤوا إلى تونس مزودين بالتجربة ؟ ألم يرتكب بورقيبة أخطاءا فادحة عند ممارسته للحكم ؟ وفي كل مرة ينحو باللائمة على أحد وزرائه ؟ ألم يجرب سياسة التعاضد الفاشلة وألبس التهمة لوزيره أحمد بن صالح ؟ ألم يرفع الدعم الكامل عن الخبز في سابقة غير محسوبة في سنة 1984 ثم حمل المسؤولية لشيخ مدينة تونس. فلا يعنى حصول ثورة في تونس وحصول انتخابات شفافة أن الحكام الجدد بكل تلويناتهم سيصبحون كلهم وفي لمح البصر ذوي تجربة ومتفقين وعلى قلب رجل واحد. فنحن مازلنا في سنة أولى ديمقراطية ويلزمنا كثير من العمل ومن الصبر والجلد حتى نتمكن من تحسين الأداء في كل الأعمال وكل المجالات. وبورقيبة لم يسطع نجمه في السياسة ،سواء كان على حق أو على باطل، إلا بعد أن أخذ فرصته كاملة وحكم تونس لثلاثين سنة كاملة. فما الذي حدا ببعض المثقفين والمختصين في مجال الفكر والفلسفة بأن يصفوا سياسات معينة بالخاطئة في حين أن هذه السياسات في زمن الثورات والفترات الانتقالية هي سياسات واقعية أو ما يعبر عنه بفن الممكن؟
قد يكون السبب الرئيسي في عدم وضوح الرؤية لدى هذه الفئة هو مرتبط بطريقة حياة هذه الفئة. فالذين عاصروا الاستبداد من المثقفين والأكاديميين والمفكرين وانشغلوا بدراساتهم وبوظائفهم أو بالعمل الأكاديمي والبحثي والفكري ولم ينخرطوا منذ شبابهم في العمل الحزبي والحركي والنشاط السياسي لم يغرفوا من معين العمل السياسي الذي يولد بالضرورة الحنكة السياسية ولم يتعرضوا لهزات شديدة ولابتلاءات عظيمة. ذلك أن هذه الابتلاءات تنير الطريق لأصحابها في مستقبلهم. ولقد ابتلي المسلمون على عهد رسول الله ابتلاءا عظيما. قال الله تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب .
قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا . فالأمور العظيمة لا يقدر الإنسان على مجابهتها إلا بعد أن يتعرض لتجربة ومعاناة وابتلاءات عظيمة. فأبو بكر الصديق رضي الله عنه ورغم كونه ميالا إلى اللين إلا أنه لم يسلك سبيل اللين مع المرتدين الذين امتنعوا عن أداء الزكاة. وقال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه. والله لأقاتلن كل من فرق بين الصلاة والزكاة. وخاض حروب الردة التي قتل فيها كثير من المسلمين ومن حفاظ القرآن. فقرار بهذا الحجم لا يقدر عليه إلا العظماء الذين تربوا على الصبر وعلى المعاناة والشدائد وعظائم الأمور. فلو لم يتخذ أبو بكر قرار الحرب على المرتدين لتجرأ هؤلاء على الإسلام والمسلمين ولربما رجع الإسلام من حيث أتى. فاللين في مواطن الشدة ضعف فادح. قال أبو الطيب المتنبي : ووضع الندى في موضع السيف بالعلا *مضر كوضع السيف في موضع الندى . في أحداث مدينة سليانة استنكر العديد من الناس على مختلف مشاربهم استعمال الرش. ولكن الثورة في أحداث سليانة كانت في مفترق الطرق وتحتاج إلى قرارات جريئة وإلى بأس وشدة. ولو لم يتم التعامل مع أحداث سليانة بحزم وبصرامة لانتقل الشغب والعصيان المدني المدبر سلفا من بقايا الاستبداد ومن بعض قوى المعارضة المتشددة إلى مناطق أخرى مثلما كان مخططا له إلى حين إسقاط الحكومة بتعميم الفوضى وليس بصندوق الانتخاب. وعندئذ لن ينفعنا الندم إن خسرنا ثورتنا. فإن لم يكن بمقدور الحكومة المنتخبة أن تستعمل السلاح ضد من يريد إسقاطها بالقوة للرجوع إلى عهد الاستبداد فما جدوى الثورة التي أنجزناها وما جدوى الانتخابات التي عقبتها ؟ فعظائم الأمور تحتاج لأمرين إثنين : إلى حكمة ومنطق سليم وإلى تجربة وابتلاءات عظيمة. فلا يقدر على أخذ قرار يحتاج إلى بأس شديد إلا من تربوا على البأساء والضراء. فالأكاديميون والتكنوقراط دورهم مطلوب ومحمود في الحياة العامة وفي إنارة الناس في شتى مجالات العلوم والاختصاصات. ولكن سياسة الناس وقيادة الجماهير والصبر عليهم وأخذ القرارات الصعبة عند مفترق الطرقات لا يقدر عليها إلا الذين انخرطوا في العمل السياسي والنضالي منذ نعومة أظفارهم وتعرضوا لمشقات وابتلاءات عظيمة ومستهم البأساء والضراء. فلو جئنا بكل ذهب الدنيا من صنف 18 قيراط وجمعناه على بعضه ما كان لمعانه يضاهي غرام واحد من صنف 24 قيراط إلا أن يتم صهره في درجة أعلى.
وعلينا أن نخرج من أذهاننا الأفكار الإفلاطونية التي تعلي من شأن كل المنشغلين بالفكر والفلسفة. ذلك أن فلسفة بدون تجربة وبدون ممارسة وبدون ابتلاء لا يمكن أن تقود الجماهير. فالفلاسفة الذين ركنوا إلى السكوت والانزواء والانطواء أيام الاستبداد، حتى ولو كان ذلك ناتجا عن طبيعة في الإنسان وليس عن خوف، لا يمكن أن يكونوا مثالا لقيادة الجماهير في كل وقت وخصوصا في زمن الثورات وفي الفترات الانتقالية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله فأحسن الأعمال ما كان مرتبطا بتجسيد الأفكار والقناعات إلى أفعال في أرض الواقع.
فليترك رجال الفكر السياسة إلى أهلها وليسعى السياسيون إلى تحييد رجال الفكر الغير مسيسين وعدم الزج بهم في القائمات الانتخابية في المحطات القادمة. وليسعى المواطنون في المحطات القادمة إلى انتخاب كل من خلق للسياسة وتمرس في العمل السياسي والنضالي وخاض تجارب نضالية عديدة. لأن المناضلين الحقيقيين سيكونون لا محالة هم الأقدر على تحمل المسؤولية واتخاذ القرارات الصعبة عند مفترق الطرقات لغاية قيادة البلاد نحو الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي.
وفي الأخير تجدر الإشارة إلى مسألة مهمة :
إن الناس عموما وكثير من الملتزمين خصوصا ينظرون إلى الإسلاميين على أنهم أناس من طينة أخرى لا يخطئون. فإذا أخطأوا مرة أو مرتين أو أكثر فإن الناس يصابون بخيبة أمل وينقلبون عليهم في لمح البصر في حين أن الصواب أن الإسلاميين مثلهم مثل كل الشرفاء يخطئون ويصيبون ويسعون باستمرار لتدارك الأخطاء مثلما يسعون باستمرار لأسلمة المجتمع بكل يسر وبتدرج وعلى مراحل. فعموم الناس يحبون أن يتولاهم رجل من طينة عمر ابن الخطاب. فعمر ابن الخطاب رضي الله عنه لم يكن ليغدو الإمام الزاهد والخليفة العادل والراشد لو لم يترب في مدرسة النبوة ولم يكن محاطا بآلاف مؤلفة من الصحابة الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم . فعمر ابن الخطاب لم يأت من كوكب آخر وإنما اختير من مواطنين على شاكلته فكيف تريد الأمة أن يتولاها رجل مثل عمر ابن الخطاب وأغلبها يشكوا من أمراض قاتلة. قال الله تعالى : لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
Comments
9 de 9 commentaires pour l'article 62372